صندوق الدُّمى المسحورة قصة للأديب الإنجليزي روبرت دانسديل(*)‏

ترجمة: محمد زين العابدين

شاعر وكاتب ومترجم من مصر

 

 

عبر مروج حدائق (هايدبارك)، أسفل الجادة التي تنتصب فوقها أجنحة الفندق، وحول الجزء الخلفي من الفندق، ‏حيث ينتصب مأوى الحافلات القديمة، وصعودًا على الدَّرَج الذي يئنُّ صريره من وقع الأقدام الصاعدة لأعلى؛ هنا ‏تعيش الآنسة (بيتيجرو) وحيدة. ‏

لها وجودٌ بسيط؛ من الاثنين إلى الجمعة في مكتب البريد، وأيام السبت في سوقٍ للبضائع المستعملة، مع خالتِها التي ‏لم تتزوَّج. ‏

هذا هو نمطُ حياة الآنسة (بيتيجرو) بشكلٍ عام.. ولكِنْ هناك يومٌ في السنة، مقدَّسًا بالنسبة لها. إنه اليوم الأوَّل من ‏بداية الصقيع؛ يوم الصقيع الأوَّل، عندما تستيقظ الآنسة (بيتيجرو) على أوَّل موجة صقيع لتقوم برحلتها الملحميّة ‏السنويّة، إلى متجر (بابا جاك)، المتجر الرئيس في لندن لتجارة الألعاب ومستلزمات الأطفال. كانت تأتي إلى هنا ‏منذ كانت طفلة، والآن -وعمرها 36 عامًا- ما زالت تأتي إلى هنا. ‏

كل عام، تبتاعُ الآنسة (بيتيجرو) الهدية نفسها.عندما تفضُّ غلافَها، ترى الكلمات المألوفة: "صندوق الألعاب ‏الساحرة". يوجدُ في الداخل آلاف من قطع الأحجية التي ستقضي الساعة التالية في تجميعها بشقِّ الأنفس. ‏

إنَّها تتذكَّر الأحجية الأولى جيدًا: طفلٌ ملائكيٌ صغيرٌ يتطّلعُ إلى الخلف. التالي أكثر وضوحًا: الطفل الصغير نفسه، ‏وقد كبرَ عامًا، عامٌ أكثر نضوجًا. في كلِ عام، منذ كانت طفلة، وإلى أن شبَّتْ لتصبح امرأة؛ كانت تضع هذه ‏الألغاز معًا. وفي كلِّ عام كانت ترى وجهها يكبرُ بجانبِها. ‏

أحيانًا، حتى في الصيف؛ كانت تفكِّر في ذلك الرجل، وتتساءل عمّا يحدث له، إلى أيّ مدى قد يبدو مختلفًا بحلول ‏عيد الميلاد. ‏

في هذا العام، يبدو الرجلُ الموجودُ في الأحجيةِ أكثرَ شيبًا. سنواتُ حياتِهِ تمُّر.. وهذا يجعلُ الآنسة (بيتيجرو) تفكرُ ‏في سنواتِها هي؛ لقد أهدرتْ منها ما يكفي بالفعل! ‏

لقد جانَ الوقتُ الذي تقرِّرُ فيه ما تفعل. ‏

المتجرُ مزدحمٌ وهي تدلفُ إلى داخله عبر الأبواب. تجاهدُ لتشقَّ طريقها إلى طاولة البيع، حيث يقومُ موظفُ المتجر ‏برصِّ عساكرَ من القصدير. ‏

تتساءل: مَنْ هو الرجلُ الموجود في الصورة؟ لماذا ينظرُ لها بمكرٍ شديد؟ وهل يرى كل مَن يشتري الأحجية العيونِ ‏الزرقاء الساحرة نفسها، التي يبدو عليها الكِبَرُ كلَّ عام؟! ‏

‏"أوه..!"، يقولُ صاحبُ المتجر، "صندوقُ الألعاب السحريّة.. أخشى ألّا أستطيع مساعدتكِ في الإجابة عن أسئلتك. ‏لقد صنع والدي ذلك، لكنه رحل منذ خمس سنوات". ‏

عندما تخطو الآنسة "بيتيجرو" إلى خارج المتجر؛ ترتجفُ من خيبةِ أملِها، لدرجة أنها بالكاد تلاحظ الرجل الذي ‏يندفع على امتدادِ موقف عربات الخيول، يصطدمان خارج أبواب المتجر. وعندما تلملمُ نفسَها؛ ترى أنَّ له عينين ‏زرقاء عميقة، صافية، وغامضة. إنه يحمل تحت ذراعه نسخة أخرى من صندوق الألعاب السحريّة، كما لو أنه ‏يسيرُ أيضًا عائدًا إلى المتجر للتساؤل عن الغرضِ منه! ‏

‏"إنها..أنتِ". يلهثُ الرجلُ غيرَ مُصَّدِقٍ. ‏

‏"أنا يا سيدي؟".‏

يتخذُ هيئة هادئة ووقورة؛ لأنَّ الأمرَ ربَّما يتطلبُ بعضَ التفسير: "هذا هو الشىء الأكثر غرابة. كنتُ أجيءُ إلى ‏متجر"بابا جاك" منذ كنتُ صبيًّا. كل عام كان والدي يشتري لي هدايا، دستة من لعبة العساكر، وكلبًا مرقطًا. لكن ‏اللعبة التي طالما كنتُ أرغبُ فيها؛ كانت إحدى أحاجي الصور المتقطعة. حسنًا، في السنةِ الأولى، كانت الأحجية ‏مجرَّدَ وجهِ فتاة. ‏

وفي السنة التالية، كانت الفتاةِ نفسها مرَّة أخرى، فقط أكبر قليلًا، كأنَّها عاشت سنة كاملة بين الصورتين. وبعد ‏ذلك، عامًا بعد عام..". يتوقف، لأنَّ عيني الآنسة "بيتيجرو" كانتا تتسعان وهو يتحدَّث، ونوعٌ جديدٌ من الأمل يشّعُ ‏منهما. ‏

‏"إنه..أنتَ.."، تهمسُ وهي تعاودُ التفكيرَ في جميعِ الأحاجي التي قامت بتجميعها معًا. وهكذا يقعُ الناسُ في الحب.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) روبرت دانسديل (‏ROBERT DINSDALE‏): أديبٌ إنجليزيٌ، ترعرع في مقاطعة "يوركشاير" بإنجلترا، ‏لكنه يعيشُ حاليًّا في إحدى المدن الساحلية بمقاطعة "إسيكس" بشرق إنجلترا، بالقرب من العاصمة لندن. يكتب ‏الروايات الخيالية، والمستوحاة من التاريخ. روايته الأخيرة، هي (صُنّاعُ الدُمى). من أشهر كتبه "باريس في ضوء ‏النجوم"، "خبزٌ بالزنجبيل"، "المنافي الصغيرة". ‏

‏* المصدر: مجلة (‏The Simple Things‏) الإنجليزية، عدد كانون الأول/ ديسمبر 2018. ‏