الاستغراب عند حسن حنفي

 

 

عارف عادل مرشد

كاتب وأكاديمي أردني

 

يهدف علم "الاستغراب" إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرُّر ‏من الاستعمار، والانتقال من التحرُّر العسكري إلى التحرُّر الاقتصادي والسياسي ‏والثقافي، وقبل كل شيء التحرُّر الحضاري. فإذا كان "الاستشراقُ" قد مكّن الآخرَ من ‏فهم العالم الشرقي والسيطرة عليه، فإنه يمكن لعلم الاستغراب أيضًا أن يمدّنا بأدوات ‏معرفة الآخر المهيمن والتحرُّر منه. وهذا بالتحديد ما جعل المفكر حسن حنفي يرى في ‏علم الاستغراب أداةً للتحرُّر.‏

تمهيد

برز من الشَّرق العربيّ طرحٌ بديلٌ أو معاكسٌ لحركات الاستشراق يسمّيه المفكر المصري ‏حسن حنفي (1935-2021) "علم الاستغراب". ويعدُّ حنفي من أبرز منظري تيار اليسار ‏الإسلامي، وأحد أهم المفكرين العرب المعاصرين من أصحاب المشروعات الفكرية ‏العربية، امتازت أبحاثه بالجدية وبالأفكار المُبتكرة(1).‏

وقد سار حسن حنفي على خطى العديد من المفكرين العرب، أمثال: أنور عبدالملك ‏‏(1924-2012) وإدوارد سعيد (1935-2003) وصادق جلال العظم (1934-2016) ‏وغيرهم، في محاولتهم مواجهة الاستشراق، من خلال تقديم رؤية تقوم على تأسيس علم ‏يدرس الغرب، ليكون النقيض والمقابل للاستشراق، وذلك من خلال ما طرحه في ‏مشروعه التراث والتجديد(2). ‏

وأمام هذا المشروع المنتمي إلى العالم العربي والإسلامي، وباعتباره محاولة جادة في الرد ‏بحثيًا وعلميًا على مغالطات الصورة النمطية والمركزية الغربية(3)، أطرحُ في دراستي ‏هذه التساؤلات الآتية:‏

‏-‏ ما هي المرتكزات العلمية عند حسن حنفي التي بنى عليها مقدمته في "علم ‏الاستغراب"؟

‏-‏ كيف نظر حنفي إلى مهمّات "علم الاستغراب" ونتائجه؟

‏-‏ ماهي المشكلات والمعوّقات التي يواجها مشروع "علم الاستغراب" في طرح ‏حنفي؟

 

من الاستشراق إلى الاستغراب عند حسن حنفي

الاستشراق ميدان من المعرفة الغربية بالشرق، حضارة وثقافة وعقائد، جُمع في عداد ‏المهتمين به مؤرخين ودارسين في ميادين تاريخ الأفكار والأديان واللغات من الباحثين ‏الأوروبيين ابتداءً، فالأميركيين لاحقًا. وجَمعت بين هؤلاء -على اختلاف في الرؤى ‏والمناهج والتخصصات- المعرفةُ بتاريخ الشرق ولغاته.‏

ويقع الاهتمام بالإسلام وحضارته وتراثه موقعًا رئيسًا في منظومة الاستشراق، وإلى ‏حدودٍ كاد فيها معنى الاستشراق يطابق معنى الدراسات العربية والإسلامية التي أنجزها ‏الباحثون الغربيون منذ قرنين، أو هكذا على الأقل كان معناه في وعي العرب والمسلمين، ‏وربما –أيضًا- لأنَّ الأعمَّ الأغلبَ من مثقفيهم ودارسيهم لا يعرف من الاستشراق سوى ما ‏كتبه الغربيون عن عالم الإسلام قديمًا وحديثًا، فيما يجهلون ما كتبه هؤلاء عن الصين ‏والهند وغيرهما من المراكز الحضارية والثقافية في الشرق.‏

والصورة التي كوَّنها العرب والمسلمون في وعيهم عن الاستشراق سلبيّة في المعظم من ‏حالات ذلك الوعي، فهو متهم منهم بشبهة –أو قرينة- العلاقة بالسياسات الكولونيالية ‏للدول الأوروبية تجاه المجتمعات التي تدين شعوبها بالإسلام. وهو اتهام لا ينتقص من ‏قيمته المعرفية في نظرهم فحسب، بل يجرِّده من كل قيمة معرفية، ويضعه في خانة ‏الفكر المشدود إلى أداء وظائف سياسية استعمارية.‏

ولقد ازدهر هذا النوع من النقد الأيديولوجي الاتهامي للاستشراق في الفكر العربي منذ ‏مساجلات جمال الدين الأفغاني (1838- 1897) معه حتى اليوم. وهو نقد لم ينصرف ‏إلى تحليل المضمون لخطاب الاستشراق ونقده بأدوات ومفاهيم العلم، بمقدار ما انحصر ‏في مساجلته بمفردات أيديولوجية انتصارًا لما يُعتقد أنه الحقيقة التاريخية(4).‏

وفق هذه الرؤية السلبية للاستشراق وضع حسن حنفي مؤلفه الشهير "مقدمة في علم ‏الاستغراب"، والذي شكَّل أوَّل مشروع فكري عربي متكامل يتخذ من "الاستشراق ‏المعكوس"(5) ثيمة مركزية له. على الرغم من أنَّ مصطلح "الاستغراب" لم يكن نحتًا ‏خاصًا بحنفي، فقد ورد هذا النحت اللغوي في خاتمة كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد، ‏إلا أنه هو الذي أعطى لهذا المصطلح مفهومًا محددًا وواضحًا، ورسم له أبعاده ومضامينه ‏ومراميه ومرجعياته الفلسفية ورؤيته الأيديولوجية، فالنضوج الفلسفي عند حنفي هو الذي ‏دفعه للدخول في هذه المغامرة الفكرية التي لا سابقة لها في الفكر العربي.‏

ومن الواضح أنَّ حسن حنفي لم يلتفت إلى تحذيرات إدوارد سعيد في كتاب "الاستشراق"، ‏التي دعا فيها إلى عدم الانجرار إلى "الاستشراق المعكوس". فقد كان سعيد قد أخذ على ‏الاستشراق الغربي أنه يكرِّس المقولة الشهيرة للأديب البريطاني "روديار كبلنغ" (1865-‏‏1936) "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا". فتحذيرات سعيد لم تمنع حنفي من قلب ‏المعادلة التاريخية، و"فكّ عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على ‏مُركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى ذات مدروس"(6).‏

في هذا السياق جاءت فكرة الاستغراب كقوة فاعلة وعاقلة رشيدة وهي المقابل العلمي ‏لفكرة الاستشراق، فالاستشراق بحسب حنفي يعبِّر عن وجه من وجوه هيمنة الغربي على ‏الشرقي بوصف الغربي ذاتًا عارفة والشرقي موضوعًا لها. مركّب العظمة مقابل عقدة ‏النقص، تلك هي الصفة الجوهرية المعبرة عن الاستشراق. وللخروج من هذا الوضع ‏المأساوي والمركَّب لا بد من قيام علم مقابل له هو الاستغراب(7). إنَّ "مهمة علم ‏الاستغراب هو فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر والقضاء على مركب ‏العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على ‏مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس"(8).‏

فمن خلال هذا المنحى الايبستيمي التاريخي والثقافي لا بد من حركة مضادة ومعاكسة، ‏هذه الحركة هي التي نسميها "الاستغراب". فهذا العلم هو الذي سيتولى إنجاز ما لم يُنجز ‏تاريخيًا بعد؛ وهو أن نجعل من الآخر المهيمن موضوع بحث ودراسة وتفكيك. أي أنَّ ‏على علم الاستغراب مهمة تحريرية عميقة، هي تحرير الإنسان. فالمشروع الفكري ‏والحضاري هو الهمّ الجديد الذي يجب على الشعوب العربية والإسلامية الاشتغال به ‏ومواجهته، فالتبعية التامة للغرب ما هي إلا نتاج جهلنا بالغرب وحقيقته التاريخية ‏والثقافية والسياسية، وما التغريب الذي يعيشه الجميع إلا نتاج هذا الجهل بالآخر وعدم ‏معرفته المعرفة الحقيقية ونتاج هذا الضعف أمام الآخر هو ضعفٌ يكشف ضُعفًا أمام ‏أنفسنا أوّلًا وأمام الآخر ثانيًا. لقد مكّن الاستشراقُ الآخرَ من فهم العالم الشرقي والسيطرة ‏عليه، ويمكن لعلم الاستغراب أيضًا أن يمدّنا بأدوات معرفة الآخر المهيمن والتحرُّر منه. ‏وهذا بالتحديد ما جعل حنفي يرى في علم الاستغراب أداة للتحرُّر حقًا(9). "يهدف علم ‏الاستغراب إذن إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من ‏الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري إلى التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي، ‏وقبل كل شيء التحرر الحضاري. فطالما أنَّ الغرب قابع في قلب كل منّا كمصدر ‏للمعرفة وكإطار مرجعي يحال إليه كل شيء للفهم والتقييم، فسنظلّ قاصرين وفي حاجة ‏إلى أوصياء"(10).‏

والاستغراب ليس فقط مُعاكسًا للاستشراق، بل هو أيضًا معارض للتغريب، من حيث أنَّ ‏التغريب حدث فعلي لا يمكن إنكاره واغتراب يعبِّر عن حالة سلبية للفكر العربي ‏المعاصر. فالتغريب نوع من الاغتراب بالمعنى الاشتقاقي للَّفظ؛ أي تحوُّل الأنا إلى آخر. ‏إنه عودة للاستعمار بوجه جديد ومغاير. بل إنَّ المشاريع النهضوية التي حملت شعار ‏التجديد والنهضة بقيت في جوهرها تغريبية(11)، "فالإصلاح الديني (الأفغاني) والليبرالية ‏السياسية (الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميل) كلها ترى الغرب نمطًا للتحديث ‏ونموذجًا للتقدُّم. ترى صورتها في مرية الآخر، ممّا ولَّد الحركة السلفية حتى أصبحت ‏وريثة الإصلاح، وقضينا على الليبرالية بأيدينا باسم الثورات العربية الأخيرة وانتهى ‏العقل والعلم من حياتنا بذيوع مسوح الإيمان والخرافة"(12).‏‎ ‎

 

مهمة "علم الاستغراب"‏

‏"ماذا يعني الاستغراب؟"، يذهب حنفي لتقديم إجابات مباشرة عن هذا السؤال يأتي أولها: ‏‏"الاستغراب في مقابل الاستشراق... ومن هنا سيهتم هذا العلم باكتشاف كيف تكوّن الوعي ‏الأوروبي ويشمل تاريخيته كلها، مصادره، بدايته، من أجل اكتشاف التكوين التاريخي ‏لهذا الوعي والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، مطبقًا المنهج التاريخي الذي طالما ‏طبقه الاستشراق على الحضارة الإسلاميّة"(13).‏

لكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه علينا: ما الجديد الذي سيقدِّمه هذا العلم (الاستغراب)؟ ‏فالحضارة الأوروبية ذاتها درست مسار الوعي الأوروبي عبر مراحله ومصادره ‏ومختلف تفاصيله. إلا أنَّ لحسن حنفي رأيًا آخر في هذا الأمر، فهو يرى أنَّ المادة التي ‏يأتي بها الوعي الأوروبي(14) "نوع من أنواع النقد الذاتي واضعًا نفسه في مرآة نفسه ‏تختلف عن مادة الاستغراب التي يتم فيها رؤية الغرب من منظور اللاغرب، رؤية الآخر ‏من منظور الأنا"(15). وبالتالي سيكون الاستغراب هو قراءة الذات أو الأنا للآخر.‏

ويستمرّ حنفي في تعريف الاستغراب باعتباره الوجه الآخر والنقيض من الاستشراق، فإذا ‏كان الاستشراق هو رؤية الأنا الشرقي من خلال الغربي، فإنَّ الاستغراب سيكون قادرًا ‏على "فكّ العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند ‏الأنا ومركب العظمة عند الآخر"(16).‏

والنص السابق معبِّر عن بنية شعوريّة قائمة على التأمُّل الانعكاسي غير المكتفي بتأمُّل ‏الذات فقط، بل أصبح فعل "التمرئي" فيه قائم على العلاقة المركّبة بين "الأنا" و"الآخر"، ‏‏"النقص" و"العظمة"، "العقدة التاريخية"، وعدد كبير من المفردات والمصطلحات ‏المتعارضة.‏

وممّا سبق نستطيع أنْ نستكشفَ أنَّ فعل "التمرئي" القائم على وضع "البنية الشعورية’" ‏في مقابل الاستشراق عند حسن حنفي هو الدافع والموجه والمحرك الأساسي للمؤثرات ‏السيكولوجية والثقافية المكونة لما أسماه "الاستغراب" بهدف التخلص من "اغتراب الأنا ‏نتيجة تحويل الغرب لها إلى آخر". ومن هذا المنطلق سيبدأ حنفي في تحديد مسار "علم ‏الاستغراب" بإعادة الشعور اللأوروبي إلى وضعه الطبيعي من أجل التحرر من الاستعمار ‏وبهدف التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي والحضاري، فطالما أنَّ الغرب قابع في كل ‏منّا كمصدر للمعرفة وكإطار مرجعي يُحال إليه كل شيء للفهم والتقييم فسنظلّ ‏قاصرين(17).‏

 

نتائج "علم الاستغراب" عند حسن حنفي ‏

هذا ما يتعلق بمهمّة الاستغراب، أمّا ما يتعلق بنتائجه، فيحصرها حنفي في ما يأتي:‏

‏1-‏ السيطرة على الوعي الأوروبي؛ أي احتواؤه بداية ونهاية، نشأةً وتكوينًا، وبالتالي ‏يقلّ إرهابه لأنه ليس بالوعي الذي لا يٌقهر، فيتحوّل الدارس إلى مدروس والذات ‏إلى موضوع، ولا نصبح ضائعين فيه.‏

‏2-‏ دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ، صحيح أنه تاريخ ‏تحقق على مراحل لا يمكن القفز عليها أو تجاوز مراحلها المتوسطة، لكنه مع ذلك ‏تجربة بشريّة ومسار حضاري مثل غيره من التجارب.‏

‏3-‏ ردّ الغرب إلى حدوده الطبيعية، وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المدّ الذي لا ‏حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية، إلى بيئتها المحلية التي منها نشأت حتى ‏تظهر خصوصيتها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة ‏الإعلام في لحظة ضعف الأنا وتقليده للآخر واقتصار تحرُّره على الأرض دون ‏الثقافة، وإرجاع الثقافة والحضارة إلى الجغرافيا والتاريخ إذْ إنَّ المسافة بينهما ‏متباينة للغاية، فالأولى محددة والثانية لا محددة. وإذا كان العام قد انتقل من ‏الخاص في عصر الريادة الأوروبية بالأمس، فإنَّ العام يمكن أن يعود إلى الخاص ‏في عصر الانحسار الأوروبي اليوم.‏

‏4-‏ القضاء على أسطورة الثقافة العالمية، واكتشاف خصوصيات الشعوب، حيث إنَّ ‏لكل شعب نمطه الحضاري الخاص ووعيه المتميِّز، بل وعلومه الطبيعية وتقنيته ‏الخاصة.‏

‏5-‏ إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية وتحريرها من هذا الغطاء ‏الذهني، وهذه البنية العقلية حتى تفكر الشعوب بعقليتها الخاصة وأطرها المحلية، ‏فتتعدّد الأنماط وتتنوّع النماذج.‏

‏6-‏ القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها ‏بإبداعها الخلّاق بدلًا من أن تكون مستهلكة للثقافة والعلم والفن، بل وتصير قادرة ‏على التفوق على غيرها، وقد يتحول مركّب النقص إلى مركّب عظمة يساعد على ‏الخلق والإبداع.‏

‏7-‏ إعادة كتابة التاريخ بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة في حق الشعوب بدلًا ‏من النهب الأوروبي لثقافات العالم، وإبراز دور الحضارات التي ساهمت في ‏تكوين حضارة الغرب والتي حاك الغرب حولها مؤامرة الصمت.‏

‏8-‏ انتهاء الاستشراق وتحوُّل حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، ومن أحجار ‏إلى شعوب، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عنفوان يقظته ‏على حضارات الشرق وهي في عمق نومها وخمولها.‏

‏9-‏ إنشاء "علم الاستغراب" كعلم دقيق بعد أن ظهرت إرهاصاته دون أن تتحوّل إلى ‏علم، وتحويل الحضارة الأوروبية أيضًا من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة.‏

‏10-‏ بداية فلسفة جديدة للتاريخ تبدأ من ريح الشرق، واكتشاف الدوائر ‏الحضارية وقانون تطويرها أشمل وأعم من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في ‏وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ(18).‏

هذا باختصار شديد ما يتعلق بموقف حسن حنفي من التراث الغربي، أما الهدف الأكبر ‏من ذلك -كما ذكرت- فهو مواجهة الغرب لتحدّيه وتحجيمه‎.‎

 

صعوبات تواجه تأسيس "علم الاستغراب"‏

يمكن القول إنَّ محاولة حنفي ترسيخ قواعد "علم الاستغراب" هي محاولة دونها الكثير من ‏الصعوبات والمعوقات، حيث كان حنفي متناقضًا مع نفسه في طرح العديد من أفكاره ‏التي تناول فيها التراث الغربي، إذ كان هذا التناقض يمثل صورة المفارقة القائمة في ‏ذاكرة حنفي ليس فقط في نظرته لحضارتنا العربية الإسلامية، بل أيضًا في تحليله لبنية ‏الحضارة الغربية ومصادرها وعلومها وثقافتها. فهي حضارة تؤمن بالعلم وتقوم على ‏العقلانية والتطور المستمر، ممّا يحول دون دراسة تراثها بهذه المنهجية التأويلية، القائمة ‏على التمركز على الذات والتغني بالقديم والنيل من تراث الآخر، ممّا يخلق حاجزًا أمام ‏التفاعل والتقابل الحضاري بين المجتمعات.‏

كما أنَّ محاور "علم الاستغراب" تتناقض مع هدف حنفي الرئيس لتأسيس "علم ‏الاستغراب"، وهو مواجهة التغريب والتحرر من الآخر الغربي، فالنظر إلى الآخر الغربي ‏كمكون للعقلية العربية، ومصدر لها من خلال "علم الاستغراب" يحتم على حنفي الانفتاح ‏على الغرب، والاستفادة منه، لا اعتباره النقيض الذي يجب التحرر منه؛ الامر الذي تنتفي ‏معه ضرورة التأسيس لعلم نستطيع من خلاله دراسة الآخر الغربي. كما أنَّ ما قام به ‏حنفي من نقل للمصطلحات والمفاهيم الغربية هو أمر سيؤدي بالضرورة إلى زيادة ‏التغريب(19).‏

بالإضافة إلى ما تقدَّم، فإنَّ الغرب في الاستشراق كان يدرس الشرق من موضوع القوة ‏والتفوق، ممّا سهّل من عملية الحصول على المادة البحثية والمخطوطات وغير ذلك من ‏القدرات المعلوماتية المساعدة على البحث. أمّا الاستغراب فهو يواجه نقصًا معلوماتيًا، قد ‏يكون مصدره أنَّ الغرب في موضع قوته هو الذي يمدّنا بالمعلومات عنه، بل أكثر من ‏ذلك، وفي كثير من الأحيان -وتلك مسألة خطيرة- نستمدّ معلوماتنا عن ذاتنا من الغرب.‏

ولا بدّ أيضًا من الإشارة إلى مسألة المنظور الذي يتم من خلاله قراءة الحضارة الغربية، ‏إذ إننا، حتى الآن، ما زلنا نعاني من مشكلة الهوية واضطراب مفهوم الذات، والتذبذب ‏بين الانتماء العربي، والإسلامي، والشرق أوسطي..إلخ، وهذا بدوره سوف ينعكس على ‏ما يقدمه الاستغراب، وبالتالي الاختلاف على نتائجه(20).‏

 

الهوامش

‏1-‏ سامي الذيبي، حسن حنفي مؤسسًا لـ"علم الاستغراب"، مجلة الدراسات الثقافية ‏واللغوية والفنية، مج5، ع18، نسيان(إبريل) 2021، ص221.‏

‏2-‏ ممدوح محمد بريك الجازي، المنطلقات النظرية الأساسية لمفهوم الاستشراق في فكر ‏حسن حنفي: تحليل ونقد، مجلة المستقبل العربي، مج 40، ع 462، أغسطس 2017، ‏ص123.‏

‏3-‏ سامي الذيبي، مرجع سابق، ص222.‏

‏4-‏ عبدالإله بلقزيز، نقد الاستشراق في الفكر العربي، في: عبدالإله بلقزيز، محمد جمال ‏باروت، (محرران)، الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية، بيروت، مركز ‏دراسات الوحدة العربية، ط2، 2013، ص628-629.‏

‏5-‏ تبلور مفهوم "الاستشراق المعكوس" من خلال النقد الذي وجهه المفكر السوري ‏صادق جلال العظم في كتابه "الاستشراق والاستشراق المعكوس" لكتاب إدوارد سعيد ‏‏"الاستشراق". وقد جاء في النقد الذي وجهه العظم لإدوارد سعيد بأنه تأثر ‏بالمستشرقين ووقع في الفخ نفسه الذي وقعوا فيه، وهو فخ الفصل الأنطولوجي بين ‏الشرق والغرب. وهي المقولة المركزية التي ردّدها المستشرقون دون استثناء وبنوا ‏عليها كافة تصوراتهم عن الشرق.‏

‏6-‏ أحمد محمود سلامي، الاستشراق المعكوس في فكر حسن حنفي، المجلة الأردنية ‏للعلوم الاجتماعية، مج9،ع1، 2016، ص109-110.‏

‏7-‏ أحمد عبدالحليم عطية، جدل الشرق والغرب عند حنفي، مجلة أوراق فلسفية، ‏ع46،2016، ص139-140.‏

‏8-‏ حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنية للنشر والتوزيع، ط1، ‏‏1991، ص29.‏

‏9-‏ أحمد عبدالحليم عطية، مرجع سابق، ص141.‏

‏10-‏ حسن حنفي، مرجع سابق، ص34.‏

‏11-‏ أحمد عبدالحليم عطية، مرجع سابق، ص138.‏

‏12-‏ حسن حنفي، مرجع سابق، ص26.‏

‏13-‏ المرجع السابق، ص13.‏

‏14-‏ أحمد حسن أنور، نقد الاستشراق في الفكر العربي المعاصر: أنور عبدالملك ‏وحسن حنفي نموذجًا، مجلة كلية الآداب، جامعة الفيوم- كلية الآداب، مج 12، ع1، ‏ص263.‏

‏15-‏ حسن حنفي، مرجع سابق، ص21.‏

‏16-‏ المرجع السابق، ص29-30.‏

‏17-‏ أحمد حسن أنور، مرجع سابق، ص265.‏

‏18-‏ أحمد عبدالحليم عطية، مشروع حسن حنفي التجديدي وتحديات العصر، مجلة ‏أوراق فلسفية، ع47، 2016، 98-99.‏

‏19-‏ ممدوح محمد بريك الجازي، مرجع سابق، ص136.‏

‏20-‏ يوسف زيدان، الاستغراب: جذوره ومشكلاته، في: أحمد عبدالحليم عطية(معد ‏ومقدم)، جدل الأنا والآخر: قراءات نقدية في فكر حسن حنفي، القاهرة، مكتبة مدبولي ‏الصغير، ط1، 1997، ص159-160. ‏