نساء من ملح

 

‏(نصوص قصصية)‏

لينداء عبيد

كاتبة أردنية

 

 

نساء من ملح

قال لها: أحبك‎.‎

قالت له: أنا امرأة من ملح ودمع‎!‎

قال: سأنتظركِ في المقهى، ثمّة فنجان شاي وأغنية‎!‎

قالت: أنا امرأة من ملح لا يليق بنساء الملح الذهاب إلى المقاهي؛ ثمّة همس لقناديل ‏خافتة تحرس الحب، وآنية الزّرع على الشرفات، ثمّة نساء عاشقات وحائرات، ‏وعشّاق وشعراء، ولوحات على الجدار لنساء مكتملات.‏‎ ‎

مدَّ كفّه إليها، أغمض عينيه، وأصابعه حريق يصهر قمحها.‏

فاضت الأغنية من الجدران، فدندنت: أنا امرأة من ملح.. أحبك‎!‎

فتح عينيه يفتّش عنها، فتلاشت عند أوَّل زخّة مطر تمامًا مثل حفنة ملح‎!‎

 

مشنقة

فكَّرَت مليًّا، ثم أعدَّت مشنقة خشنة مطلّة على حاكورة الدار، ربطت الحبل جيدًا، ‏اقتربت من الكرسي المشدوه، وقفت فوقه أدخلت رأسها ببطء، أغمضت عينيها، بدأت ‏بالعدّ، وحين وصلت إلى الرقم ثلاثة رغبت بشرب بعض الماء، همَّت بالنّزول، فمدَّ ‏الكرسي المشدوه رجله وأوقعها.‏

 

نحت

أحضر النحّات إزميله ومساميره وكثيرًا من الرّيش، والأدوات الصغيرة مزمعًا ‏صناعة امرأة مدهشة التفاصيل يتقن تعاريجها وانحناءاتها ومساماتها وكل صغيرة ‏وكبيرة فيها؛ فوحده النحّات يستطيع أن يخلق العشب من الحجر، وأن ينزل من ‏الصخر ارتعاشات المطر‎.‎

بدأ بنحت إصبع رجلها الإبهام مرورًا ببقيّة الأصابع والساقين فأحسن الخلق‎.‎

أمسك الإزميل وبدأ بنحت تفاحتين مستديرتين نافرتين، فارتعد المكان من هول ما ‏صنع، وعلى الوجه بذل قصار جهده لأيّام طويلة ليبعث الحياة والضوء بعينين ‏لوزيّتين حالمتين. الشفتان الممتلئتان المرسومتان حبّة كرز شاميّة تفيض نارًا، والخدان ‏صفحتان ناعمتان من نور. وحين همَّ بنحت شعرها الطويل وجد نفسه يغزل ليلًا من ‏الحسن بخيوط من حرير‎.‎

كان يلتقط أنفاسه، ثم يتابع رسم المنحنيات والخصر الرَّفيع، وبوتقة الخصب، وجلد ‏الأمنيات الرقيق، فاستوت أمام عينيه إلهة تنساب أصابعه فوق جسدها مثل نهر ثمل ‏يصلّي في حضرة معبد عجيب، فتجلَّت له قدّيسة لا تمسّ، وحين تعالى نحيبه واشتياقه ‏المجنون مدَّت كفّها إليه مثل جنيّة لعوب تتقن أنوثتها فتنساب من بين مساماته لحنًا ‏دائخًا يفتِّش في الكون عمّا يجيء‎!‎

العناق محموم في ساحة البيت والمرأة الإلهة.. المرأة الجنيّة تتوهَّج عيناها اللوزيّتان ‏أكثر.. العناق يزداد لهيبًا، والسماء تشعر بالغيرة من هول ما حدث‎!‎

في الصبح كان الجيران يتحدَّثون عن نحّات ثمل وجدوه ميتًا أمام تمثاله في ساحة ‏البيت، وبالتحديد عند إصبعها الإبهام‎!‎

 

السيدة العاقلة الكاملة

مثل سيدة عاقلة أتكئ على الأريكة، وألمُّ قنوات التلفاز المملّة في سبحة الوقت واحدة.. ‏واحدة، وأنتظر الساعة الحادية عشرة لأنام، لا لأني أرغب بالنوم إنَّما لأتعوَّد ‏الانضباط؛ فأصحو الصبح، أعدّ الإفطار بسأم رتيب، أفتح الستائر للشمس دون أن ‏يمسّ الدفء عظامي، ثم أواصل ملء الرتابة والموت في زجاجات وقت بطيء مثل ‏سيدة عاقلة كاملة.‏

هذا ما كان يشغل ذهن امرأة كانت تحب الكتابة، والمشي الموارب فوق الأرصفة، ‏تعبر الطرقات العتيقة، وتصفّق للحكايات النائمة على نوافذ بيوت فرغت من عشاقها، ‏وعند المساء تنظم دفترها بالخرز والحكايات.‏

‎ - ‎أين أنتِ يا امرأة؟

هذا ما صرخ به رجل متكرِّش، وله خوار ثور، تفوح من قميصه رائحة عرق نتنة، ‏وتفيض من كفِّه المخربش بالشعر رائحة دخانه الرخيص.‏

هو زوجها، والمرأة العاقلة الكاملة، كما أخبرتكم، ينبغي أن تطيعه، وتشكر الله على ‏ظلّه. فكما قالت أمها السيدة العجوز الحبلى بانكسارات كثيرة، وبهموم لخمس بنات ‏وأربعة أولاد، وبقايا ندوب كانت ذكرى اعتيادية من زنّار زوجها الطائش قبل أن ‏تمضي السنوات، ويباركه الله بالشيب والهيبة والرضا‎:‎

‏"ظلّ راجل ولا ظلّ حيط‎"‎‏.‏

المرأة العاقلة الكاملة -كما قال لها رجل يتقن الشخير- يوم اقتادها بثوبها الأبيض ‏بكامل فتنتها وغصونها البكر، تقشِّر البطاطا، وتغسل الصحون، وتجمّل غرفة النوم، ‏وتنشر الملاءات على الشرفة، وتنجب أبناء كثيرين‎.‎

الرجل ذو الخوار مزَّق دميتي الوحيدة التي أحضرها لي أبي في عيد ميلادي العشرين‎. 

الرجل المتكرِّش ذو الخوار أشعل النار بكتبي، ومزَّق دفتر الحكايات بعد أن أشعل ‏سيجارة من دخانه الرخيص.‏

‏-‏ أنا هنا.‏

تمتمت امرأة عاقلة ومدَّت يدها لرجل يفوح عرقًا، ويتوثَّب لالتهام عطرها بنهم، بينما ‏ناولها كيس البطاطا، وضمّة بقدونس!‏