سينما البطولة الفرديّة..‏ ‏ الرُّؤية الخلّاقة والتقمُّص الاستحواذي

 

مهند النابلسي

باحث وكاتب وناقد سينمائي أردني

 

 

ثلاثة أفلام حديثة لافتة وأحاديّة البطولة: ‏Nomadland‏ "أرض الرّحالة" و‎ The ‎Father‏ "الأب" و‎ Sound of Metal‏ "صوت الميتال" (2020-2021) ‏استطاعت أنْ تحصدَ الجوائز، ونجحت بتوصيل رسالة مفادها أنَّ الإنسانَ العصريّ ‏يواجه قدره لوحده أخيرًا في نهاية المطاف دونما دعم حقيقي ومؤازرة من أحد؛ فلكلٍّ ‏حياته ومصيره! وهي تتحدَّث بعمق "غير مسبوق" عن حالات التشرُّد والخرف ‏والزهايمر والصَّمم (فقدان السَّمع الكُلّي)، وتستعرض براعة أبطالها الحصريين في ‏التقمُّص والتَّماهي المذهل مع هذه الحالات بأسلوب استحواذي هادئ ومتصاعد ومُقنِع ‏وإنساني يصعب نسيانه وتجاهله، كما تُعدُّ مدرسة في التمثيل المتكامل فتملك الكاميرا ‏والشاشة، وتعزِّز متعة المُشاهَدَة.‏

فيلم "أرض الرحّالة" ‏Nomadland

لا شيء من هذا يشير إلى أنَّ أميركا كما تصوِّرها المخرجة الصينية "كلوي تشاو" ‏تفتقر إلى الضوء والظل. على العكس من ذلك، هناك شعور قوي بالشيخوخة والناس ‏العاديين الذين يحققون أفضل ما في صفقة سيئة ضمن ظروف مقفرة لا ترحم في ‏كثير من الأحيان. ومع ذلك، مهما كانت الصعوبات التي يواجهونها، فإنَّ جوّ المجتمع ‏المتكافل وتقرير المصير هو الذي يُسمع في جميع أنحاء فيلم المُخرجة "كلوي تشاو" ‏Chloé Zhao‏ المتعاطف. نستمع في الشريط إلى ألبوم الموسيقى التصويرية ‏الخاص بأرض الرحّالة ‏Nomadland، حيث تجلس مقطوعات ‏Ludovico ‎Einaudi‏ وNat King Cole‏ جنبًا إلى جنب مع أصوات نيران المخيَّم الخشنة ‏لفرقة الممثلين وهي تغني بفرح: "لا يمكننا الانتظار للوصول إلى شاحناتنا مرَّة ‏أخرى!" وممّا لا يثير الدهشة، أنَّ هذا الغناء الجماعي الأخير هو الذي يضرب على ‏الوتر الأكثر رنينًا في هذا الفيلم المؤثِّر.‏

عندما قبلت المخرجة الصينيّة "كلوي تشاو" بجائزة الأوسكار لأفضل مخرج، قالت: ‏‏"لقد وجدتُ دائمًا الخير في الأشخاص الذين قابلتهم، في كل مكان ذهبتُ إليه في ‏العالم". ولكن لا يبدو حقًا أنها زارت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المنكوبين ولا باقي ‏النازحين المنتشرين في أصقاع المعمورة! لكنَّ هذه المخرجة الفذة تنقّب هنا عن ‏‏"اللّحامات والتّرابطات" الغنيّة من اللُّطف الإنساني التي تمرُّ عبر هوامش المجتمع ‏المنسيّ. كما أنَّ موضوع الفيلم يتناغم مع كتاب "جيسيكا برودر" والذي تسرد فيه ‏المؤلفة قصصًا حقيقيّة عن "البدو الرُحَّل الجُدُد" الذين خرجوا إلى الطريق بعد أن ‏‏"طمس الرّكود العظيم" مدَّخراتهم، والذين، "بالنسبة لأيّ شخص، حيث البقاء على قيد ‏الحياة لا يكفي... فنحن بحاجة دومًا إلى الأمل. وهناك أمل على الطريق".‏

كانت الممثلة "فرانسيس مكدورماند" مقنِعة بدور "فيرن"؛ وهو دور خارجي آخر لا ‏يُقهر تغمر فيه نفسها تمامًا وتتقمَّصه، ممّا يجعلها ثالث أفضل ممثلة حازت على ‏الأوسكار. فقد قرَّرت "فيرن"، التي كانت أرملة وتعاني من ضائقة ماليّة شديدة، ‏مغادرة بلدتها الأم "إمباير" في "نيفادا" بعد إغلاق المصانع وطرد العاملين فيها، ‏وتضرب بمفردها، وتحزم "فيرن" متاع حياتها في سيارة وتتَّجه نحو مستقبل غير ‏مؤكد وغامض. ولكن بدلًا من أن تصبح مضيافَةً على درب ضيِّق في الأصقاع ‏وهائمة على وجهها، فإنَّ روح "فيرن" الرائدة لديها آفاق شاسعة لأميركا الممتدة، ‏حيث يلتقط المصوِّر السينمائي "جوشوا جيمس ريتشاردز" الجمال القاسي لولايات ‏الغرب الأوسط التي طالما رسخت في تقاليد السينما الأميركية الجمالية‎.‎‏ فهناك شعور ‏قوي بالشيخوخة وبالناس العاديين الذين يحققون أفضل ما في الصفقة السيئة في ‏البداية من دون تعقيدات.‏

الحياة على الطريق تبدو محفوفة بالمخاطر وقاتمة، مع الطقس العاصف والتضاريس ‏القاسية والحقائق الاقتصادية الباردة التي تتسبَّب في القشعريرة. ومع ذلك، فإنَّ "فيرن" ‏تكتشف تدريجيًا دفء مجتمع السَّفر والترحال والتشرُّد في أميركا، بمساعدة ‏شخصيات ملهمة مثل "بوب ويلز" صاحب الشخصية المحورية الجذابة، الذي ينجح ‏في نقل مهارات الحياة الجديدة "البريّة" الخاصة به في لقاء مجتمع الصحراء من قبل ‏أولئك الذين ليسوا "بلا مأوى" ولكنهم ببساطة "يرفضون أن يكونوا بلا انتماء أيضًا" ‏وصولًا لحالات شخصيّة معبِّرة من الميلودراما الحزينة المبالغ بها أحيانًا!‏

لقد قدَّمت الممثلة "فرانسيس مكدورماند" أفضل تحوُّل في مسيرتها المهنيّة في هذه ‏الدراما التأمليّة اللطيفة للمخرجة السينمائية "كلوي تشاو"، فنالت جائزة غنيّة في حفل ‏توزيع جوائز الأوسكار. وقد وثَّق الفيلم أسلوب حياة الرحّالة استنادًا إلى كتاب "جيسيكا ‏برودر" غير الخيالي لعام 2017‏‎ Nomadland: Surviving America in ‎the Twenty-First Century‏ كما أشرنا سابقًا، وهو الكتاب الذي اقتُبس منه ‏سيناريو الفيلم.‏

الفيلم بمجمله يركّز على مجتمع من سكان الشاحنات المشردين، ويتعامل مع ‏الموضوعات المحيطة بفشل الحلم الأميركي والفقر والحرمان من الحقوق في واحدة ‏من أغنى دول العالم.‏‎ ‎فبعد وفاة زوج "فيرن"، وهي امرأة في الستينيات من عمرها، ‏فإنها ترى منزلها وقد أعيدت ملكيته بعد أن أصبحت واحدة من ملايين ضحايا ركود ‏عام 2008. ومع عدم وجود فرص عمل أو مكان للاتصال بالمنزل، تشرع "فيرن" ‏في رحلة تغيِّر حياتها عبر الغرب الأميركي وتصبح "عاملًا موسميًا"/ كادحة وتقيم ‏في شاحنة. ثم سرعان ما أدركت أنَّ الحياة على الطريق قد منحتها فرصة جديدة ‏للحياة.‏

‎ ‎يحكي الفيلم قصة مقنعة عن التمكين والتعايش والتأقلم مع الظروف أثناء طرح بعض ‏الموضوعات الاجتماعية في الوقت المناسب. وبصرف النظر عن‎ ‎‏(ماكدورماند) التي ‏تقوم بدور "فيرن"‏‎ ‎كشخصية محورية نرجسية، فإنَّ المخرجة "كلوي تشاو" تستخدم‎ ‎في الغالب ممثلين غير محترفين للعب نسخ خيالية من أنفسهم‎.‎‏ تمامًا مثل فيلمها‎ The ‎Rider ‎لعام 2017؛ وهو فيلم عن راعي بقر شاب يبحث عن هوية جديدة بعد حادث ‏شبه مميت، فتستفيد‎ ‎‏"تشاو"‏‎ ‎في "أرض الرحّالة" من تجارب الحياة الحقيقيّة لممثليها ‏‏"غير المحترفين" لتقديم قطعة رائعة تلقائيّة حقًا من صناعة الأفلام بطريقة مغايرة، ‏فهذا الفيلم الذي يعدُّ تحفة سينمائية هو شريحة جميلة من ‏Americana‏ والتي غالبًا ‏ما تشبه الدراما الوثائقية أكثر من كونها فيلمًا روائيًا مملًا، وهنا تكمن جاذبيتها. ‏

وبفضل الأداء الطبيعي الجدير بالثناء للبارعة (ماكدورماند)، يقدم فيلم‎ ‎Nomadland‏ شيئًا جديدًا وتستحق هذه الممثلة بجدارة جوائز الأوسكار الخاصة ‏بها، لكنَّ المخرجة "الموسوسة" -كعادة معظم مخرجي أميركا- ربما تبالغ بإظهار ‏حالات مقزِّزة/ واقعية من التبرُّز والخصوصية ربما لا تزيد قيمةً لمضمون السَّرد، ‏كما تقدِّم البطلة الكهلة عارية أحيانًا مستلقية تحت المياه في العراء بغرض الاستحمام ‏والانتعاش... وتكرِّر منحنا صور سيلفي مملّة لوجه البطلة وهي تدخن بشراهة وتتأمل ‏في الأفق بصمت معبِّر ربَّما عن "الوحدة والتشرُّد والمعاناة"!‏

 

فيلم "الأب" ‏The Father

في دور "الأب" يبدو لنا الممثل "أنتوني هوبكنز" (الحائز على جائزة الأوسكار والبالغ ‏من العمر 80 عامًا) شخصًا نكدًا وصعب المراس، يعيش بمفرده بتحدٍّ ويرفض ‏باستمرار مقدمي الرِّعاية الذين تقدِّمهم ابنته "آن" (الممثلة أوليفيا كولمان الحائزة على ‏جائزة الأوسكار والجولدن غلوب) بشكل مشجِّع. ومع ذلك، أصبحت المساعدة أيضًا ‏ضرورة بالنسبة لـِ"آن" التي لم يعُد بإمكانها القيام بزيارات يوميّة للأب بعد الآن، ‏وبدأت قبضة "أنتوني" على الواقع تتفكك تدريجيًّا. بينما نختبر مدّ وجزر ذاكرته ‏المتهاوية وثقته الوهميّة بنفسه، نتساءل: إلى أيّ مدى يمكن أن يتشبّث هذا "الأب" ‏‏(الممثل أنتوني) بهويته وماضيه وذكرياته؟ كيف تتأقلم "آن" وهي تحزن على فقدان ‏والدها تدريجيًّا وهو لا يزال يعيش ويتنفس أمامها؟ يحتضن الأب الحياة الحقيقية ‏بحرارة، من خلال التفكير المُحبّ في الحالة الإنسانية النابضة بالحياة؛ يكسر القلب ‏بتفاعلاته ويؤثِّر فينا بلا هوادة- إنه فيلم يقع في حقيقة حياتنا المأساوية الحتمية.‏

ولكن، في حين أنَّ بعض لحظات فقدان الذاكرة تسبِّب هزَّة في القصة وتمنح "هوبكنز" ‏مساحة للتعبير التلقائي عن إحباط شخصيّته بشكل كبير استعراضي وارتجالي ربّما، ‏فإنَّ ما يحدث من خلال تصميم الإنتاج والتحرير دقيق للغاية، سيجعلكَ ترغب في ‏التأمُّل لبضع ثوانٍ فقط من أجل تقدير التغييرات الطفيفة؛ سواء أكان بلاطًا مختلفًا ‏على "باكسبلاش" المطبخ الأصلي، أو غرفة نوم مُعاد ترتيبها، أو كيس بقالة أبيض ‏بدلًا من كيس أزرق يحمل الدجاج لتحميصه في تلك الليلة، فإنَّ مصمم الإنتاج البارع ‏‏"بيتر فرانسيس" يخلق بشكل واضح إصدارات مختلفة من المكان المغلق نفسه (وهذا ‏ما نفتقده للأسف في السينما العربية خصوصًا والتي غالبًا ما تتجاهل التفاصيل ‏مستغفلةً المُشاهدين). ‏

أمّا ما يفعله المحرِّر "يورجوس لامبرينوس" (كاتب ومنسق المونتاج) فهو أمر معقد ‏للغاية، ولكنه أقل من قيمته المقدَّرة عند معظم المشاهدين، فهو بمثابة خدعة سحريّة ‏أمام أعيننا مباشرة. وكان "لامبرينوس"، الفائز في جمعية نقاد السينما في لوس ‏أنجلوس لأفضل مونتاج، قد انغمس هنا في مهمة شاقة تتمثل في صياغة قصة مربكة ‏ومتداخلة ومقنعة ومزمنة في الوقت نفسه، وقد ارتقى بأناقة مشهديّة لافتة لمواجهة ‏هذا التحدي الكبير، ومما يعزِّز هذه النتيجة موسيقى ‏Ludovico Einaudi‏ الذي ‏ظهرت موسيقاه الرائعة أيضًا في "‏Nomadland‏" لـ"كلوي تشاو"، وقدَّم العروض ‏بالطريقة التي تجذب قلوبنا دون أن تكون صاخبة.‏

وعودة للحديث عن لحظات فقدان الذاكرة والتي تسبِّب هزة في القصة –كما أشرنا- ‏وتمنح "هوبكنز" مساحة للتعبير "الارتجالي المسرحي ربّما" عن إحباط شخصيته ‏بشكل كبير... فإنَّ مأخذي على الفيلم يتمثل في ضعف، بل انعدام، مَشاهد التأمُّل ‏ومراجعة الذات التي تعبِّر عن مأساة العجوز وسقوطه المرعب في حفرة "فقدان ‏وارتباك الذاكرة" وصولًا ربّما لحالة جنونيّة "هيستيريّة" مميزة كان سيبدع فيها الفذّ ‏‏"أنتوني هوبكنز" بمشاهد ربّما لا تُنسى في تاريخ السينما! ‏

تحدث بعض نسخ هذا النوع من المحادثة مرارًا وتكرارًا؛ حيث وضع ساعته ‏المحبوبة، على سبيل المثال، ثم أضاعها ونسي مكانها، أو المعاملة القاسية التي ألحقها ‏بمقدِّمة الرِّعاية المنزلية السابقة. وبمجرَّد أن نعتقد أنَّنا ندخل في إيقاع "الأب" ‏الهيستيري، فإنه يغيِّر الإيقاع واللاعبين. ربّما حقًا هذه ليست شقة "أنتوني"، ربما ‏كانت "آن" قد أخذته للبقاء معها، ربما لديها زوج بعد كل شيء، اسمه "بول" (الممثل ‏روفوس سيويل)، لا تزال تعيش معه. ‏

يوفر وصول "لورا" (الممثلة إيموجين بوتس) أخيرًا كمرشحة محتملة لرعاية "أنتوني" ‏بعض التنوُّع، حيث يمنحه الفرصة لمغازلة امرأة شابة جميلة جديدة. إنه رقيق وساحر ‏وهو يعلن بشكل هزلي، "حان وقت فاتح للشهية!" وهو يتناول قدح الويسكي بطريقة ‏مدمن مستمتع... لكنها تذكِّره أيضًا بابنته الأخرى المفقودة، التي كانت فنانة، ومهما ‏حدث لتلك اللوحة التي كانت معلقة على الجدار فهي مثال معبِّر عن مدى الصَّدمة ‏المتوقَّعة...‏

لكننا نرى العالم بشكل أساسي من خلال عيني "أنتوني"، ومنذ البداية، يبدو هذا مكانًا ‏هادئًا للغاية. عندما تجسَّسنا عليه في البداية، كان يستمع إلى الأوبرا في فترة ما بعد ‏الظهيرة اللطيفة في شقته الفسيحة والمجهَّزة بذوق رفيع في لندن. ولكن سرعان ما ‏تتوقف "آن" لزيارته وتبلغه أنها قابلت شخصًا ما وستنتقل إلى باريس لتكون معه. ‏تغيَّر سلوكه على الفور، وشعر بالجرح، وانتقد: "أنتِ؟" يسأل بشكل مَن لا يصدِّق. ‏‏"تقصدين... رجلًا؟"، وفي وقت لاحق، عندما أصابته الحقيقة طويلة المدى لهذه ‏الأخبار، كشف عن طبقة أعمق من الأذى: "إذا فهمتُ بشكل صحيح، فأنتِ تتركينني، ‏أليس كذلك؟ أنتِ تتخلّين عنّي". يسقط وجهه قليلًا لكنه لا يزال يحاول ممارسة قدر ‏من السيطرة والتبجُّح وربَّما التقبُّل.‏

ثم يكافح من أجل الإبحار في هذا المزيج الموحل من الماضي والحاضر، هو "أنتوني ‏هوبكنز" الرائع الذي يقدِّم أداءً جذابًا وشرسًا وكاريزميًّا، وأحيانًا كل ذلك معًا في ‏الوقت نفسه. وهناك خصوصية تثير الذهن في أسلوبه هنا حيث تمَّت دعوته لنقل ‏مجموعة واسعة من المشاعر والعواطف، ولكن أيضًا نلمَس نعومةً وانفتاحًا نادرًا ما ‏نلاحظه منه. إنَّها بعض من أفضل الأعمال المطلقة في مسيرة "هوبكنز" الطويلة ‏والمكتظة. أمّا الممثلة "أوليفيا كولمان" التي أبدعت في دور الابنة "آن"، فكان عليها ‏أن تركب هذه المشقّة أيضًا وتكافح من أجل ارتداء شخصية بريطانية صلبة في ‏موقف حزين ينهار بشكل مطّرد، وسوف تتعامل مع الابتسامة كما لو كانت الدموع ‏في عينيها أو تتجعد متجمدة بشكل طفيف مع الحفاظ على صبرها عندما يقول والدها ‏شيئًا فظًا ومهينًا ومحرجًا للغاية؛ كمثل ادِّعائه أنه كان "راقص نقري" بينما هو ‏مهندس كما تذكر ابنته مستهجنة هذا الادِّعاء. وفي الخلاصة كانت ردَّة فعلها مذهلة ‏ومتماسكة لا تُنسى!‏

قصة الساعة: أرى أنَّ موضوع تكرار قصة الساعة يعتبر سخافة وضعف مخيّلة ولا ‏معنى له/ كما أنَّ الساعة المشار إليها... تبدو عادية تمامًا وليست فخمة من ماركة ‏معروفة أو مثل رسمة مفقودة يتساءل عنها "الأب" باستمرار، كما يتحدث عن عشاء ‏دجاج. ثم حكايات مقتطفة متفرقة من محادثة‎ ‎أو كهذه القطع وغيرها من مظاهر ‏أخرى للحياة اليومية التي تكتسب أهمية أكبر ومعنى مفجعًا وتبدو مجرَّد استعراض ‏لمسار "الأب" الحياتي اليومي الروتيني. إنهم -أي هؤلاء الأشخاص- في الوقت نفسه ‏عاديون وغير موثوق بهم، ملموسون ومراوغون في ذهن شخصية "أنتوني هوبكنز" ‏المتغيِّرة باستمرار، وهو المواطن العجوز من لندن الذي يبلغ من العمر 80 عامًا ‏ويستسلم للمرض اللعين. ‏

فيلم "الأب" للمخرج "فلوريان زيلر" (2020)، عرض ضمن مهرجان عمّان ‏السينمائي في آب 2021، وقد أبدع حقًا المخرج "زيلر" في تكييف العمل سينمائيًّا ‏ضمن مسرحيته الفرنسية الحائزة على جائزة عام 2012 والتي تحمل الاسم ‏الأسطوري نفسه "كريستوفر هامبتون" صاحب "العلاقات" (فيلم "الأب" في الأصل ‏مسرحية حوَّلها المخرج الفرنسي "زيلر" إلى نص سينمائي بمشاركة "كريستوفر ‏هامبتون")، وقد حقق إنجازًا رائعًا هنا. إنه يضعنا في ذهن "أنتوني" المريض، ممّا ‏يسمح لنا بتجربة ارتباكه كما لو كان ارتباكنا نحن. لكنه يعرض أيضًا وجهة نظر ‏القائمين على رعايته وأحبّائهم هؤلاء الذين يحاولون تسوية وتهدئة أعصابه المتقلّبة ‏وتنظيم ذكرياته المختلطة. ثم إننا لا نعرف أبدًا ما هو صحيح (وهذه نقطة الضعف ‏الكبيرة المربكة في الشريط)، أو مَن هذا أو ذاك؟ في هذا الصَّدد فهناك بعض الالتباس ‏والتداخل، وخاصة عندما تأتي الشخصيات وتذهب وتتخذ أسماء وهويّات مختلفة، ‏اعتمادًا على إدراك الأب لها كما يبدو في السِّياق. فكل شيء سريع الزوال ومع ذلك ‏تبدو كل لحظة محدَّدة عاجلة وحقيقيّة ومربكة، وأحيانًا غير مفهومة ضمن السِّياق!‏

‎ ‎

فيلم "صوت الميتال" ‏Sound of Metal

خلال سلسلة من الحفلات الليلية التي يغذيها الأدرينالين، يبدأ عازف الدرامز المتجوِّل ‏‏"روبن" (الممثل ريز أحمد) بفقدان السمع المتقطع. عندما يخبره أحد المتخصصين أنَّ ‏حالته ستزداد سوءًا بسرعة، يعتقد أنَّ مسيرته الموسيقية -ومعها حياته- قد انتهت. ‏يقوم هو وزميلته في الفرقة وصديقته/عشيقته "لو" (الممثلة أوليفيا كوك) بزيارة مدمن ‏الهيروين المتعافي في منزل رصين منعزل للصمّ على أمل أن يمنع الانتكاس لدى ‏‏"روبن" ويساعده على تعلُّم التكيُّف مع وضعه الجديد. ولكن بعد أن يتم الترحيب به في ‏مجتمع يقبله تمامًا كما هو، يتعيَّن على "روبن" الاختيار بين توازنه والدافع لاستعادة ‏الحياة التي كان يعرفها من قبل. باستخدام تقنيات تصميم الصوت المذهلة والمبتكرة، ‏يأخذ المخرج "داريوس ماردر" الجمهور داخل تجربة "روبن" لإعادة إنشاء رحلته ‏بشكل واضح إلى عالم نادرًا ما يتمّ فحصه!‏

هناك إشارة بارعة في العنوان ‏Sound of Metal‏ إلى النَّغمات المشوَّهة التي ‏أصابت "روبن" عندما لجأ (ضدّ نصيحة "جو") إلى غرسات القوقعة الصناعية ‏الباهظة التكلفة. بعد أن أثار ببراعة تجربة "روبن" في الاهتزازات الجسدية وليس ‏السمعية (يمكنه أن يشعر بالطبول، حتى لو لم يستطع سماعها)، فيستحضر الملحِّن/ ‏مصمِّم الصوت البارع "نيكولاس بيكر" وفريقه تنافرًا إلكترونيًا قاسيًا يبدو أنه يردِّد ‏صدى الصِّراع الداخلي لـِ"روبن". ومثلما يُعتبر الإدمان موضوعًا رئيسًا، فإنَّ رغبة ‏‏"روبن" اليائسة في الجراحة تصبح استعارة لأزمة إيمان وثقة أوسع؛ صراع هوية ‏يتجسَّد في تصميم واستعادة الصوت متعدِّد الطبقات.‏

قال الممثل أحمد: "علّمني مجتمع الصم معنى الاستماع"، واصفًا "جسدية التوقيع" ‏لاستخدام الجسم كله كأداة تعبيرية. فهناك شيء رائع حول مشاهدة فنان من عيار ‏‏"ريز أحمد" يرتقي إلى المستوى الإبداعي التالي، كما لو أنَّ حرفته قد تمَّ تضخيمها من ‏خلال تعلُّم هذه اللغة الجديدة. بينما قد يختبئ "روبن" وراء كلماته، لم يكن أحمد أبدًا ‏أكثر تعبيرًا من الناحية العاطفية ممّا كان عليه عند التواصل عبر منهجية ألـ:‏ASL‏ ‏‏(لغة الإشارة الأميركية).‏

وبصدق مذهل، يستحضر المخرج "داريوس ماردر" عالمًا تكون فيه كل التفاصيل ‏حقيقية. من أجواء جدار الضوضاء في عروض "روبن" لموسيقى الروك (تمَّ ‏تصويرها مباشرة، أمام حشود حقيقية) إلى المناقشات الجماعية الساخنة التي أجريت ‏بلغة الإشارة الأميركية (‏ASL‏)، تجد تحفة ‏Sound of Metal‏ جاذبية عالمية في ‏تفاصيل التفاصيل المذهلة، المتجذرة في سلوك أحمد كأداء ملتزم بشكل مثير وجاذب.‏

فبعد تجاهل النصائح الطبية لتفادي الأصوات الصاخبة، يسترشد "روبن" المدمن ‏المتعافي من قبل راعيه "هيكتور"، إلى منتجع يديره "جو" الممثل المسرحي المخضرم ‏الذي هو نفسه طفل لأبوين أصمين (يلعب الممثل "بول راسي" دور "جو" ببراعة). ‏هنا، يتم عرض إمكانيّة حياة جديدة. ولكن هل يأس "روبن" من استعادة سمعه يمكن ‏أن يحبط النمو والأمل في المستقبل؟

باختصار يمكن وصف الفيلم بانه: "ميلودراما موسيقية رعب صوفية هجينة" وقصة ‏حب "منفعي" فاشلة/ بلا ديمومة ومؤقتة/ وبأنَّ الإنسان يواجه في آخر المطاف ‏مصيره لوحده دون دعم حقيقي من أحد.‏

أبدع الممثل "ريز أحمد" (البريطاني- الباكستاني) هنا في عكس متطلّبات الدَّور ‏المحوري الصَّعب تدريجيًّا بشكل تناغمي مُتصاعد ومُقنِع وجاذب دون أن يقع في ‏التصنُّع والهيستيريا والرُّعب... وبقي هادئًا يتقبَّل مصيره "الفرديّ" بذكاء وبصيرة ‏لافتة، وجذبنا كمشاهدين لأقصى الحدود.‏

لقد نجحت هذه الأفلام الثلاثة "الأحادية البطولة" بتوصيل رسالة مفادها أنَّ الإنسان ‏العصري يواجه قدره لوحده أخيرًا في نهاية المطاف، دونما دعم حقيقي ومؤازرة من ‏أحد، فلكل حياته ومصيره! ‏