الذكريات بئر له أعماق متعدِّدة قراءة في كتاب "ذكريات" (1935- 2018)‏ للدكتور حسن حنفي

 

 

‏ د. سحر سامي

كاتبة مصرية

 

على مدار رحلة من ثلاثة وثمانين عامًا؛ منذ مولد الفيلسوف والمفكر حسن حنفي حتى ‏صدور كتابه ذكريات عام 2018، يقدِّم لنا ملامح عصر كامل ومفهومًا خاصًا عن ‏الذكريات يتأمَّل فيها أعوامه السابقة وعالمه الفكري وتشكُّل رؤاه وعلاقته بالحياة ‏والفنّ والثقافة والسياسة والفلسفة.‏

منذ الأسطر الأولى في كتابه "ذكريات" يقول لنا الدكتور حسن حنفي:‏

‏"الذكريات هي ما تبقي من السيرة الذاتية، هي ما رسخ في الذاكرة ولم يطوه النسيان، ‏أمّا السيرة الذاتية فهي سجلّ حياة يمكن أن يتمّ عن طريق شريط تسجيل لا حياة فيه، ‏يعتمد على التوثيق والتنسيق والاختيار...". ‏

ومن هنا، فالذكريات وتحديدًا ذكريات حسن حنفي تتميَّز بنوع من الحياة الغامضة التي ‏تتدفق عبر السطور مع كل موقف يسرده، فتلمح فيها نبض البشر وقلق اللحظات ‏وتستشعر فيها البهجة والحركة والضوء والرائحة واللون في حضور مكثَّف يجعل ‏القارئ مستمتعًا ومشدوهًا.‏

وهو على الرغم من حريّته في سرد ذكرياته بأسلوب أدبي إلا أنه لا يتخلي عن ‏المنهجيّة هنا أيضًا، شأن مؤلفاته الفكرية الكبرى. حيث يطرح إشكاليّة كتابة الذكريات ‏بشكل عام وأنماطها موضحًا أنَّ الذكريات تتداعى عادة بطريقتين -من وجهة نظره- ‏الأولى: هي التداعي الزمني من الطفولة حتى الشيخوخة في مراحل زمنية تميِّزها ‏مراحل التعليم أو السفر أو غيرها، ويحدِّد مراحل حياته بالطفولة والكُتّاب والمدرسة ‏الابتدائية (1935- 1952)، ثم التعليم الجامعي (1952- 1956) ثم السفر إلى فرنسا ‏عام 1956 حتى عام 1966، ثم عودته وعمله بالتدريس الجامعي حتى عام 1971، ‏ثم سفره لأميركا، كما يتحدَّث عن الجمعية الفلسفية المصرية وإشهارها، ثم التدريس ‏في المغرب والبحث العلمي الدولي في اليابان (1982- 1987).‏

ثم يستعرض محاولة تكوين مدارس فكرية (1987- 1995)، ثم يتحدث عن التراث ‏والتجديد والفكر العربي وكون ذلك في أولويات اهتماماته (1996- 2011)، ‏ويستعرض المرحلة من 2011 إلى 2018 بزخمها وأفكارها إلى أن يصل لفصل ‏تحت عنوان "كل نفس ذائقة الموت" (2018-) ويترك التاريخ مفتوحًا.‏

بينما يتحدَّث عن الطريقة الثانية في كتابة الذكريات؛ وهي التقسيم المباشر وفقًا ‏للموضوعات مثل: الجامعة والسياسة والفن والوطن والنصر والقومية العربية والحب، ‏ويُبدي عدم اتفاقه مع هذه الطريقة، لكنه يؤكِّد أنَّ الذكريات في كلتا الطريقتين تأتي ‏وتذهب لاإراديًا في محيط سريانها في محيط من الحرية وتكون ميزتها الصدق في ‏الحضور والغياب. ويستغرق في تأملاته حيث يطرح تساؤلات أخرى: "هل الذكريات ‏علم أم فن؟ فلسفة أم أدب؟ ويجيب: هي كلاهما لأنها تحليل نفسي لصاحبها، وهي فن ‏لأنها لا تخضع إلا لفن الكتابة وفن الرواية، ويضرب أمثلة لذلك بأشهر كُتّاب ‏الذكريات، بل إنه يرى أنَّ بعض الأعمال من الفنون التشكيلية إنَّما هي سير ذاتية ‏لأصحابها مثل تمثال نهضة مصر لمختار، وموسى لمايكل أنجلو. ويستغرق في ‏تعريف الذكريات وآليات كتابتها وعلاقتها بالذاكرة والوعي البشري وجدلية التذكر ‏والنسيان.‏

ويطرح سؤالًا فلسفيًا شديد الأهمية حول "الزمن" فيقول: "ربما يختلط المستقبل أيضًا ‏مع الماضي والحاضر في ذكر ما كان الإنسان يودُّ فعله ولم يفعله وهو قد فعله ‏بالفعل. وهنا تتداخل الأبعاد الثلاثة للزمان: الماضي والحاضر والمستقبل. وقد ننسى ‏بعض تجارب الحاضر فلا تدخل في الذكريات التي تحتوي على التجارب الحيّة التي ‏تبقى في الذاكرة سواء في الماضي أو في الحاضر".‏

‏(1935- 1952)‏

في هذه المرحلة يتحدَّث حسن حنفي عن مولده عام 1935 في حيّ باب الشعرية الذي ‏به جامع الشعرلني الذي كان يؤذن فيه الفنان محمد عبدالوهاب في بداياته، ويرسم لنا ‏لوحة لهذا الحيّ، هي فعليًا لقطة تعبيرية للقاهرة القديمة تتميز بدقة في الوصف "ومن ‏شارع الجيش الشارع الرئيسي في حيّ باب الشعرية الذي يربط بين العتبة والعباسية ‏يتفرَّع منه شارع البنهاوي الذي به جامع البنهاوي الذي يصل إلى باب الفتوح ثم باب ‏النصر وتتفرع من وسطه تقريبًا حارة درب الشرفا ثم عطفة العبساوي والمنزل رقم ‏‏4 فوق مخازن السلحدار للبقالة" حيث ولد حسن حنفي. ثم يستفيض بعد ذلك في ‏الحديث عن انطباعاته الأولى تجاه الأشياء والناس، ويصف لنا نمط الحياة في الحي؛ ‏البيوت والجمالونات والجيران والعادات والمخاوف والأساطير وأحواش المنازل ‏وملامحها وأسرته والعلاقات بين سكان الحيّ، يصف الشوارع القديمة والصناعات ‏التقليدية التي ربما لم يعُد وجود لبعضها الآن، ويبوح "...ما زلنا جميعًا نحنُّ إلى هذا ‏الحيّ الذي أصبح رمزًا للأصالة، كلما أحسست أنني انتقلت من طبقة لأخرى، وكلما ‏أحسست أنني اغتربت عن أصالتي وعن سلوكي الشعبي". ‏

وهو في هذه المرحلة أدرك معنى الوطن حيث كان والده في فرقة المشاة للموسيقى ‏العسكرية، وأدرك هموم المرأة بنظرته لحياة المرأة في هذا الحيّ ومعاناة النساء من ‏مسألة تعدُّد الزوجات، وأدرك قيمة الكتب حيث كان أخوه الأكبر سيد أستاذًا للأدب ‏العربي في جامعة القاهرة وتلميذًا لشوقي ضيف وطه حسين، إلى أن وصل لمنصب ‏رئيس قسم اللغة العربية وعميد كلية آداب بني سويف. وأدرك حبّه للفن من تعلّمه ‏للموسيقى وتعلقه بها. وتلمّس الحرية في الألعاب الشعبية في الحارة وقتها وأدركها في ‏روحه في رفضه لطريقة الشيخ في الكُتّاب حيث كان يتعلم قواعد اللغة العربية ‏والقرآن والإعراب على أحد المشايخ الذين كانوا يعاقبون التلاميذ بالضرب، فرفض ‏الذهاب إليه واتَّجه للمدرسة... وهكذا كانت بدايات الأشياء.‏

ثم يصف لنا مدرسته الأولى والخوف من غارات الألمان على القاهرة وأصوات ‏المدافع وبدايات تشكُّل وعيه السياسي في المرحلة المبكرة من العام 1945 وحتى ‏‏1948، ثم انتقاله للمدرسة الثانوية حيث أضافت هواية الرسم وممارسة الرياضة ‏لشخصيّته أبعادًا جديدة؛ فكان يهوى رسم بورتريهات للموسيقيين والشعراء أمثال ‏بيتهوفن وشوبان وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. كما كان يهوى التمثيل والموسيقى، ‏ويتحدث عن نظام التعليم وقتها واتجاهه لدراسة الفلسفة بعد صراعهما في نفسه قائلًا:‏

‏"العقل والفن؛ أي الفلسفة والفن عوّضاني حنيني للموسيقى، في حين أنَّ هيجل هو ‏الذي اعتبر الأوبرا أعلى الفنون لجمعها بين الشعر والموسيقى".‏

ويؤكد حنفي أنَّ قيام ثورة يوليو 1952 أتاح له استكمال دراسته حيث أصبح التعليم ‏الجامعي مجانيًا، كما يستعرض الأحزاب السياسية الموجودة في مصر قبلها وبعدها ‏وحيرته بين أفكار تلك الأحزاب، كما يتحدَّث عن حرب الفدائيين في قناة السويس، ثم ‏عن الضباط الأحرار والروح الوطنية وغيرها من الأحداث، وحسم الحيرة الشخصية ‏بين التيارات السياسية المختلفة بالانضمام إلى ثورة يوليو 1952 كسائر المجتمع ‏المصري، ثم يذكر اتفاقية الجلاء وتطوُّرات الأحداث، معبِّرًا عن مدى سعادته ‏واقتناعه بالثورة لما حققته من إنجازات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ‏والسياسية. ‏

‏(1952- 1956)‏

ثم يتحدَّث عن التعليم الجامعي وتفوُّقه الدراسي بقسم الفلسفة الذي كان وقتها قسمًا ‏واحدًا مع علم النفس والاجتماع، وكيف درس بالطبع ديكارت وكانط، وعلم الأخلاق ‏الذي كان يدرسه وقتها توفيق الطويل، ثم عثمان أمين، وتعرف على التيارات الثقافية ‏داخل الجامعة، "وكان السؤال الذي يدور في نفسي: وما عيب الجمع بين العلم ‏والأيديولوجيا؟ وهل ينفع تدريس العلوم الإنسانية كالاجتماع والقانون والفلسفة دون ‏أيديولوجيا؟ وما العيب في أن يسمع الطالب أيديولوجيات مختلفة ويفكر فيها بدلًا من ‏أن يحفظ كتابًا مقررًا؟! ويتحدث في هذا السياق عن بعض أعلام الفلسفة في مصر ‏مثل زكي نجيب محمود وأحمد فؤاد الأهواني ويوسف كرم وزكريا إبراهيم ويوسف ‏مراد وغيرهم، وطبيعة أفكارهم واتجاهاتهم الفلسفية، "كانت المرحلة الجامعية هي ‏مرحلة الانفتاح على العالم". ‏

‏(1956- 1966)‏

‏"عشر سنوات في فرنسا غيَّرتني كليّة، وعمَّقت تجربتي العلمية والحياتية"، هنا يحكي ‏عن سنوات فرنسا، وكيف كان تلقّي الجالية المصرية هناك والطلاب لخبر العدوان ‏الثلاثي على مصر وعودة الكثير منهم، وردّ فعل الدكتور ثروت عكاشة المستشار ‏الثقافي هناك على رغبة الطلاب في العودة للدفاع عن بور سعيد، ومحاولة إقناعه لهم ‏بالبقاء، وكيف قرَّر حسن حنفي البقاء في فرنسا، ويحكي عن مشاهداته للوفر والآثار ‏المصرية هناك وهو يبكي، ثم فرحته بانتهاء العدوان، ويحكي عن عالم فرنسا ‏وانفتاحه على الفكر الغربي والحياة الغربية ودراسته للدكتوراه وعرضها على ‏ماسينيون وكوربان وبرجسون ورينان. ثم تسجيله لرسالته الثانية "من تأويل ‏الظاهريات إلى ظاهريات التأويل" وهي رسالة تقارن بين الدين العقلي والدين ‏الوجودي عند كانط وكيركيجارد التي كان من مناقشيها بول ريكور وجان جيتون ‏وغيرهما من الفلاسفة والمستشرقين. وكيف قرّرت السوربون للمرة الأولى أن تطبع ‏الرسائل الجامعية للطلاب الفرنسيين وتعاون الطلاب الأجانب في طبع رسائلهم، ‏فأرسل الدكتور حسن حنفي إلى يوسف السباعي رئيس المجلس الأعلي للثقافة وقتها ‏الذي وافق على نشر الرسالة على الفور في المطابع الأميرية الفرنسية، ثم ترجمها ‏حسن حنفي بنفسه إلى العربية.‏

ثم يحكي عن ذكرياته أثناء حضوره محاضرات سارتر وميرلوبونتي وجابرييل ‏مارسيل وزياراته لمعالم باريس وحياته في جبال الألب أثناء مرضه ومواقفه الفكرية، ‏ويؤرخ لمرحلة عودته إلى مصر ثم إلى فرنسا عام 1960 بتحولاته الفكرية ‏وانعكاسها على كتابته واهتمامه بالأوبرا والفن ومعايشة التجارب الحياتية، واهتمامه ‏بالاستشراق وعالم الرحّالة.‏

ثم ينتقل لمرحلة أخرى "ذهبتُ إلى برلين الشرقية كي أري جزيرة المتاحف التي بها ‏كم من الآثار المصرية والبابلية والآشورية"، وشرائه لأعمال ماركس وإنجلز وعودته ‏إلى باريس، وإعجابه بالفكر الألماني بعد حياته لفترة في ألمانيا وزيارته لجامعة فون ‏همبولت ثم زيارته لإنجلترا بدعوة من جامعة أكسفورد، ثم يحكي عن دعوة الرئيس ‏جمال عبدالناصر لممثلي الطلاب في أوروبا لمقابلته في القاهرة في مؤتمر المبعوثين ‏حيث كان اللقاء عام 1966.‏

ومن ذكرياته أيضًا الجوائز التي حصل عليها وتدرُّجه العلمي والمهني ومؤلفاته التي ‏تمثلت في:‏

‏"التراث والتجديد"، و"من العقيدة إلى الثورة"، و"حوار الأجيال"، و"من النقل إلى ‏الإبداع" في 9 مجلدات. و"موسوعة الحضارة العربية الإسلامية"، و"مقدمة في علم ‏الاستغراب"، و"فشته فيلسوف المقاومة"، و"في فكرنا المعاصر"، و"في الفكر الغربي ‏المعاصر"، و"حوار الشرق والغرب"، و"دراسات إسلامية"، و"اليمين واليسار في ‏الفكر الديني"، و"من النص إلى الواقع"، و"من الفناء إلى البقاء"، و"من النقل إلى ‏العقل"، و"الواقع العربي الراهن"، و"حصار الزمن".‏

كما يتحدَّث عن علاقته بأساتذة فلاسفة بعد عودته إلى مصر، وتتوالى الذكريات ‏بامتداد الزمن والوطن مؤكدة عمق تجربة حسن حنفي الإنسانية والفكرية، والمراحل ‏التي مرَّ بها والتي تؤكد لامحدوديّته داخل مذهب أو تيار فكري أو سياسي واحد، بل ‏تفاعله مع كافة التيارات وجدله مع العالم والوجود والفن والحياة، وهكذا تكون ‏الذكريات -كما قال في الصفحات الأولى من كتابه- بئرًا له أعماق متعدِّدة.‏