أثر التحوُّل الرَّقمي على القُرّاء وعاداتهم ‏

كايد مصطفى هاشم

كاتب وباحث- مدير تحرير مجلة "المنتدى"‏

ونائب الأمين العام للشؤون الثقافية بمنتدى الفكر العربي/ الأردن

 

إنَّ الانفتاح الذي وفرّته الشبكة العنكبوتيّة ووسائط التواصل وحجم وتنوُّع المعلومات وتنوُّع ‏المصادر التي يتعرَّض لها المستخدم، وامتلاك الأجهزة المتطوِّرة، أثَّر على القرّاء وعاداتهم، كما ‏أتاح فرصة لتثمير الجانب التثقيفي وتحسين مستويات الإقبال على القراءة النافعة لدى الناشئة ‏والكبار. لكن كل ذلك لا يُغني عن الحاجة إلى تكثيف الجهد العربي المشترك باتِّجاه مضامين ‏مدروسة وأساليب ملائمة للخطاب الثقافي، وإمكانيّة الوصول إلى الجماهير المستهدَفَة في الفضاء ‏الافتراضي.‏

 

كيف يمكن للتحوُّل الرقميّ أن يؤثِّر في تغيير سلوكات القرّاء وعاداتهم؟ ينطوي هذا السؤال على ‏العديد من الأسئلة المتشعبة بشأن أحوال الثقافة والإنسان في إطار واقع المجتمعات العربية ‏المعاصرة، ويحسُن بنا في محاولة الإجابة التعامل مع القراءة "كمفهوم وقيمة" من منظور يتفق ‏ودورها في عصر الاتصالات التكنولوجية الذي نعيشه، ووظيفتها المُفْتَرَضة في مساعدة الإنسان ‏في بلداننا على دخول العصر بمخزون ثقافي يفي بحاجاته، ويحفظ له حقّه في المعرفة وحماية ‏مقوّمات إنسانيته أمام هيمنة التكنولوجيا الحديثة وتغلغلها في حياته، فالثقافة قوّته إذا أُحسِنَ ‏توجيهها في المسار الصحيح.‏

على الرّغم من عدم وجود دراسات راصدة بالشكل الكافي على المستوى العربي للتغيُّرات في ‏سلوكات القراء وعاداتهم القرائية واتجاهات القراءة ومعدلاتها في إطار التحوّل الرقمي، فإنَّ ما ‏نطالعه من بعض الدراسات والتقارير التي انصبّت على هذه المجالات، وظهرت مؤخرًا، نجده ‏يؤشِّر على ظواهر حَريّة بإعادة النظر بشأن ما أوردته منظمات دولية ومنظمات ومؤسسات ‏ثقافية عربية أحيانًا، وخلال السنوات الماضية، حول ضعف معدلات القراءة في البلدان العربية ‏التي وصلت إلى ربع صفحة سنويًا للفرد أو ما يساوي 6 دقائق في السنة بينما يقرأ الأوروبي ‏‏200 ساعة سنويًا(1)؛ وقياسًا من جهة أخرى إلى أنَّ أعلى نسبة للأميّة في العالم موجودة في ‏الوطن العربي (حوالي 60 مليون مواطن عربي أمّيّ بحسب أرقام اليونسكو)(2)، ووجود ملايين ‏الأطفال خارج المدارس بسبب الفقر والنزاعات المسلحة، في الوقت الذي أصبح فيه التعليم ‏بحاجة قبل نهاية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين وحلول عام تحقيق أهداف التنمية ‏المستدامة 2030، إلى إصلاحات هيكلية في بنيته ومناهجه ليغدو ركيزة تنموية تُسهم في ‏التماسك الاجتماعي والتحوّل الرقمي والدخول إلى عصر الثورة الصناعية الرابعة؛ بمعنى ‏المواءمة بين الإنسان والتكنولوجيا والموارد، وتأهيل القوى الإنتاجية في المجتمع بالمعرفة ‏والمهارات اللازمة للتنمية(3).‏

وفي الوقت الذي أوضحت إحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو"، قبل ‏عامين، تباين نِسب نشر الكتب في الوطن العربي مقارنةً بما تصدره دول أوروبا الغربية (كتابان ‏عربيان مقابل 100 كتاب في أوروبا)، ووجود ما نسبته 0,7% مدوّنة عربية من مجمل ‏المدوّنات في العالم، فإنَّ دراسة مسحيّة تحليليّة لواقع النشر في الوطن العربي بين عامي 2015-‏‏2019 أعدَّها الدكتور خالد عزب، ونشرها اتحاد الناشرين العرب هذا العام (2021)، أظهرت ‏نموًّا متزايدًا في حركة النشر العربية منذ عام 2006 على الرغم ممّا تواجهه من صعوبات، وأنَّ ‏مجموع ما نشرته الدول العربية في عام 2019 وحده بلغ 70630 كتابًا جديدًا.‏

كيف انعكس حجم النشر هذا -على سبيل المثال- في الفضاء الافتراضي؟ وما دوره في تبيُّن مدى ‏التحوُّلات في عادات القرّاء؟ الإجابة عن هذين السؤالين تحتاج إلى دراسة من زاوية تعزيز ‏مضمون وانتشار المحتوى العربي على الإنترنت وقدرته على استيعاب هذا النموّ ورفع نسبته إلى ‏أكثر من 3% من المحتوى العالمي، وإيجاد إمكانات من شأنها تذليل الصعوبات أمام رصد ‏اتجاهات القرّاء في الموضوعات التي تحظى بالأفضلية والاهتمامات، مع تصنيف هذه ‏الاهتمامات والاحتياجات على نحوٍ يُسهم في إظهار المؤشرات الدالّة على نسب تقريبية للقراءة ‏الخاصة بالاحتياجات الأكاديمية والبحثية، ونِسب القراءة العامة وأنواعها، وحجم التفاعلات ‏المترتبة عليها.‏

من المؤكَّد أنَّ الانفتاح الذي وفرّته الشبكة العنكبوتية ووسائط التواصل وحجم وتنوُّع المعلومات ‏وتنوُّع المصادر التي يتعرَّض لها المستخدم، وامتلاك الأجهزة المتطوِّرة في هذا السياق، كل ذلك ‏لا يغني عن تكثيف الجهد العربي المشترك باتجاه مضامين مدروسة وأساليب ملائمة للخطاب ‏الثقافي، وإمكانية الوصول إلى الجماهير المستهدفة في الفضاء الافتراضي، كما تحمل عناصر ‏التأثير المنشود، والميزة التنافسية إزاء إمكانات متفوقة وأخرى متوسطة أو حتى بسيطة لكن لديها ‏قَدر من التأثير وتملأ ذلك الفضاء الواسع. ‏

وبرأيي أنَّ عددًا من المؤشرات لا تنفي ملامح إيجابية يمكن البناء عليها في تبيُّن الواقع الحقيقي ‏للقراءة وعاداتها في بلداننا عندما يوضح تقرير "بريندان براون" على موقع "غلوبال إنغليش ‏إديتينغ" أنَّ مصر احتلت قبل ثلاثة أعوام المرتبة الخامسة في ساعات القراءة أسبوعيًا، وجاءت ‏السعودية في المرتبة الحادية عشرة متقدمتين على دول غربية كالولايات المتحدة وأستراليا وكندا ‏وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا واليابان(4).‏

أمر آخر تحسُن الإشارة إليه عند إيراد الأرقام المتعلقة بمستخدمي الإنترنت ووسائط التكنولوجيا ‏ووسائل التواصل الاجتماعي التي تتوافر فيها خصائص الانتشار والترويج للكتب وسهولة ‏الاستعمال ووفرة الخيارات وكثافة التدفق المعلوماتي، فمن الموضوعية عدم اعتبار أنَّ كل ‏مستخدم هو قارئ للكتب أو المقالات أو المواد الثقافية تحديدًا، فطبيعة هذه الوسائط تشمل أيضًا ‏وظائف واستخدامات أخرى وأنماطًا تفاعليّة بصريّة وسمعيّة وشفاهيّة يمكن بواسطتها اكتساب ‏الثقافة وتحصيل المعرفة؛ كالفيديوهات ‏Videos، وإمكانات المشاركة في المنتديات والمواقع ‏على الشبكة العنكبوتية المختصة بمراجعة الكتب ومناقشة مضامينها (مثلًا ‏Book Marks‏) ‏وسائر الأنشطة الاتصالية الثقافية عن بُعد عبر التطبيقات، ثم التطبيقات السمعية- البصرية لتعليم ‏اللغات والتعريف بالثقافات (مثل ‏Duolingo‏ و ‏Cambley‏)، والكتب المسموعة ‏Audio ‎books، وبعض مواقع الصور (ومنها موقع ‏Pinterest‏)، والأفلام، والرسوم المتحركة ‏Animation، والمعارض الفنيّة الإلكترونية (كموقع ‏Google Arts & Culture‏)، وغير ‏ذلك، وكلها تتسم بتقنيات تُحدَّث باستمرار لتوفير المزيد من مزايا سرعة الوصول إلى محتوياتها، ‏وتيسير تلقي المعلومات منها والتفاعل الإلكتروني مع ما تقدّمه.‏

هذا يعني أنَّ القراءة كفعل عبر هذه الوسائط الإلكترونية لم تعد تنحصر في دائرة التنافس مع ‏الوسائل الورقيّة الذي بدأ يصبح ظاهرة من الماضي(5)، وإنَّما هنالك الجانب المتعلّق بالتحوُّل ‏الواضح في مفهوم القراءة نفسه الذي كان يعتمد على البصر وحده وأصبح يرتبط بحاسة السمع ‏والتفاعل المباشر عبر الوسائط، ويتَّجه في جوهره إلى مفهوم يتجاوز الواجب التعليمي إلى ‏القراءة بوصفها قيمة للاتصال بمصادر المعرفة، وأيضًا أداة للارتقاء المعرفي والفكري، ‏وبالتالي إيجاد قارئ متعدد روافد المعرفة، على سوية ثقافية جيدة، يدرك القيمة المتاحة له في ‏استثمار حرية الحصول على هذه المعرفة وضوابطها، مما تغدو معه المهارة التكنولوجية طريقًا ‏نحو تحقيق البناء الثقافي لهذا الإنسان، مع ضرورة استناد هذا البناء إلى أسسٍ اجتماعية تربوية ‏وتعليمية وإعلامية واضحة منذ مرحلة النشأة، وكذلك ما يعقبها من مراحل، بحيث يُعاد بلورة ‏موجِّهات التحفيز لتستجيب بكفاءة للحاجات الثقافية المتعلقة ببناء إنسان المستقبل، القادر على ‏التعامل والتكيّف مع الطوابع الجديدة للحياة الاجتماعية ومستجدات التطورات التكنولوجيّة، ‏والاعتماد على الذات في التثقف وبلوغ مراتب الوعي والتمكُّن من مهارة الحوار البنّاء، وتنمية ‏مهارات التفكير التحليلي والنقدي، التي تجعله مشاركًا فاعلًا في حركية المجتمع نحو التقدُّم.‏

إنَّ القرّاء الذين يتخيّرون قراءاتهم لجني الفائدة الثقافية سواء من الوسائل الورقية أو الإلكترونية ‏لم ينقرضوا، وإن كانوا الأقلّ عددًا اليوم بين شرائح القراء وما تزال لهم عاداتهم الفردية في ‏تنظيم القراءات وترتيب عملية استقاء المعارف. وهؤلاء ينبغي مساعدتهم في المحافظة على ‏مهاراتهم تلك ومحاولة نقل تجاربهم إلى غيرهم من القراء، وعلى وجه الخصوص استهداف ‏أولئك الذين يتهدد رغبتهم بالقراءة التدفق الهائل للمعلومات والمواد الأخرى فلا هم يمتلكون ‏نظامًا يعينهم على الوصول إلى الفائدة والإثراء المعلوماتي، ولا هم يستطيعون مع كثرة ‏المعلومات وتعدُّد الخيارات أن يجدوا من الضوابط ما يجنِّبهم التشتُّت، والوقوع في شِرك التشتُّت ‏هذا يفضي إلى تعطُّل عقولهم إلا عن التلقّي السلبي أو غير المجدي على الأقل، الذي لن يكون إلا ‏ما يرضي الغرائز الدُنيا وأفكارًا ضارة لا يلزمها الجهد العقلي في الاستقبال، ويسهُل عليها التأثير ‏في المفاهيم والنزعات ضد مصالح الإنسان نفسه ومجتمعه. وهذه الفئة من القرّاء غالبًا ما تنجذب ‏إلى الإثارة والفضائحيّة في الأخبار والصور والتعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، ‏والقراءة لديها أشبه بالتصيُّد الذي يرضي فضولًا يتحوَّل إلى ما يشبه الشَّرَه نحو ما لا ينفع ولا ‏يبقى ولا يُبقي على النافع، ويلاحظ أنَّ سلوك القراءة في هذه الحالات يقتصر غالبًا على التصفُّح ‏السريع، و"القراءة" غير المستوعبة للسياقات التي تكون نتيجتها التشويه العقلي والعاطفي ‏والذوقي واضطراب الفهم. ‏

لقد وفَّرت الفترة التي اجتاح فيها فيروس "كوفيد- 19" العالم ومنه منطقتنا العربية فرصة ‏لاختبار استخدام الوسائط التكنولوجية في تلبية جانب كبير من الحاجات الحياتية، ومنها التواصل ‏والتعلّم والتوعية والإعلام الصحي، وساعد الانتشار الذي حازته هذه الوسائط على الإقبال نوعًا ‏ما على القراءة في ظلّ الأوقات الطويلة للالتزام بالمنازل التي فرضتها الإغلاقات. وهذه فرصة ‏لتثمير الجانب التثقيفي وتحسين مستويات الإقبال على القراءة النافعة لدى الناشئة والكبار على ‏السواء، مما يقتضي أن تتناول الدراسات كيفياته والتخطيط له بشكلٍ يحقِّق الطموحات والآمال ‏المنشودة. ‏

وتثبت التجربة التاريخية العربية أن القراءة المرتبطة في الذهنية الثقافية والدينية بمعاني العلم ‏والتفكُّر والتدبُّر كما جاءت في الأمر الإلهي بمحكم التنزيل (إقرأ باسم ربك الذي خلق) ‏‏"العلق:1"، هي قيمة حضارية إنسانية ما تزال راسخة، وقد انعكست في الرغبة المستمرة بالعلم ‏لدى الإنسان في بلداننا على مَرّ التاريخ، سواء ظهرت جليّة أو ظلَّت كامنة بسبب ظروف ‏اجتماعية أو اقتصادية قاهرة أو سواها ممّا يفتقد معه الإنسان أسباب العيش والأمان ولا سيما في ‏أثناء الحروب والنزاعات. لكنها تظلّ جزءًا من تراثه القيمي وتكوينه الاجتماعي، وتدعو هذه ‏البذرة المتأصِّلة فيه إلى إعادة الثقة بجوهر هذا الإنسان تطلُّعًا إلى مستقبل أفضل على مختلف ‏الصُّعد، وخاصة على الصعيد الثقافي والحضاري الذي لا يتم دونه التحديث والتجديد والتطوُّر ‏الحقيقي. ‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ د.باسم الزعبي، النشر كصناعة ثقافية في الأردن: الكتاب إلى أين؟، مجلة "المنتدى"، منتدى ‏الفكر العربي، العدد المزدوج (279-280)، المجلد 34، شتاء- صيف 2021، ص129.‏

‏(2)‏ ‏ "معدلات القراءة العربية بحاجة إلى مراجعة"، صحيفة "الاتحاد"، أبوظبي، الخميس 15 مارس ‏‏2018 (منشور على الإنترنت).‏

‏(3)‏ ‏ ينظر: الزبير مهداد، متطلبات الإصلاح التعليمي لتحقيق التنمية، مجلة "المنتدى"، منتدى الفكر ‏العربي، العدد (277)، المجلد 33، خريف 2020، ص97-114.‏

‏(4)‏ ‏"معدلات القراءة العربية بحاجة إلى مراجعة"، صحيفة "الاتحاد" (مصدر سبقت الإشارة إليه).‏

‏(5)‏ ‏ ينظر: آسا بريغز وبيتر بورك، التاريخ الاجتماعي للوسائط، ترجمة: مصطفى محمد قاسم،. كتاب ‏عالم المعرفة (315، مايو 2005)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ‏ص15، وأيضًا ص343-344.‏