بين الحياة والموت

 

قصة: د. هشام عباس

كاتب مصري

 

 

ارتجفت أصابع "كريم" الممسكة بالبندقية في تلك الليلة الباردة من ليالي شهر كانون ‏الثاني/ يناير وهو ينظر إلى ذلك المنزل المتواضع الكائن وسط الحقول، كانت هناك ‏خيالات لأشخاص يتحركون بداخله، وازداد توتره فقد وصل لهدفه؛ "ممدوح" الشاب ‏الصعيدي، وتنهَّد في حرقة، لا ليس "ممدوح" هدفه هو وإنَّما هدف أمِّه! أمُّه هي التي ‏دفعته دفعًا إلى هنا ليأخذ بثأر أبيه من "ممدوح" ابن قاتل أبيه، يا لكَ من مسكين يا ‏‏"ممدوح"! ويا له من مسكين هو الآخر! كلاهما يُساق إلى مصير لم يختره ولم ‏يرتضِه. ‏

كان كريم يعيش بعيدًا عن كل ذلك مع خالته وزوجها القاهريّ حيث تعلَّم هناك وعاش ‏الحياة في المدينة الواسعة وتفتَّح ذهنه على العلم والثقافة والفنّ، والتحق بكلية الطب ‏كما كان يتمنّى وصار طبيبًا للنساء والولادة ليشهد معجزة الخالق في خلق الأجنّة ‏وخروجهم للحياة، تلك اللحظة المُنيرة المُفعمة بالسعادة عندما يُساهم في خروج إنسان ‏للحياة، أمّا الصعيد فكان متنزَّهًا له في الإجازات، كان الثأر مهمّة أخيه الأكبر الذي ‏قبل بالأمر باعتباره قدرًا لا فكاك منه، ثم حدث ما غيَّر كل شيء فجأةً حين توفي ‏الأخ الأكبر في حادث، بعد العزاء قالت له أمُّه: "لقد صار ثأر والدك مهمّتك"، ذُهل ‏ولم يعرف ماذا يقول، وتركته في صمت ليقضي أسوأ ليلة في حياته، لا، لن يشارك ‏في جريمة قتل لشخص بريء، وهرب للقاهرة وانغمس في عمله، ولكنَّ أمه ظلت له ‏بالمرصاد في عزم لا يلين، كان يحبها بشدة وكانت دموعها تمزِّق قلبه وهي ترجوه ‏أن يحقق لها الراحة التي انتظرتها سنوات طويلة، لم تفتح لمنطقه آذانها مطلقًا، فقد ‏كان الثأر من المسلَّمات لديها، ثم قاطعته حين ظلَّ على رفضِه، ولم تردّ على ‏اتصالاته، ولا قبلت أن تراه حين زارها في الصعيد، وبدأت مقاومته تنهار والأفكار ‏تتداخل في رأسه، كانت الاختيارات كلها مريرة أمامه حتى قبل أخيرًا في لحظة ‏ضعف أمام أمِّه، وها هو والبندقية بيده والمنزل بداخله "ممدوح". ‏

ما عليه سوى الانتظار حتى يخرج ويطلق عليه النار، ولكن مرَّت الدقائق كأنها ‏سنوات و"ممدوح" لا يخرج على الرغم من الحركة الدائبة بالمنزل والأصوات العالية ‏غير الواضحة في تلك الليلة العاصفة. وأخيرًا خرج "ممدوح" في اللحظة نفسها التي ‏دوت فيها صرخة عالية انتفض عند سماعها فهو يدركها جيدًا؛ إنَّها صرخة أمّ تلِد، ها ‏هو الهدف أمامه، إنسان ينتفض من الخوف والاضطراب والحيرة والعجز أمام زوجة ‏تعسَّرت ولادتها، ونشَبَ الصراع بداخله بين الإنسان الذي خارت مقاومته أمام التقاليد ‏فجاء ليزهق روحًا بريئةً والطبيب الذي امتهن إنقاذ الأرواح. ‏

كان يتصبَّب عرقًا على الرغم من البرد القارص وهو يستجمع إرادته من بعيد، من ‏أعماق نفسه المُحبّة للحياة والمحتفية بها على الدوام، وتوالت الصرخات كل منها أعلى ‏وأكثر إيلامًا من سابقتها، كلّ صرخة تضع لبنة في بناء إرادته ليقف قويًّا شامخًا في ‏مواجهة شبح أمِّه الذي يمسك بخنّاقه مطالبًا بالثأر حتى حسم أمره وألقي بالبندقيّة ‏وجرى نحو "ممدوح"، وتلاقت العيون. كان "ممدوح" يعرف أنَّ "كريم" يريد قتله، ‏ولكنه لم يهتمّ في تلك اللحظة سوى بزوجته ومولودته، فقال: "أرجوك أنقذ زوجتي ‏وبعدها افعل بي ما تشاء"، فربت على كتفه وقال: "اطمئنّ، فقد كنتُ مارًّا بالصُّدفة ‏عندما سمعتُ الصرخات". ‏

استدعى "كريم" كل مهارته وعلمه لينقذ الأم والجنين، كانت عيناه تلتقيان عفوًا أثناء ‏عمله بعيني "ممدوح" اللتين كانتا تحملان مزيجًا عجيبًا من الرّجاء والخوف وهو ‏ينظر إلى يدي "كريم" وهو يحاول إنقاذ زوجته وولده، ويتساءل هل يمكن لتلك اليد ‏التي تُجاهد لإنقاذ الأرواح أنْ تحصدَ روحه من دون ذنب جناه؟ ‏

كان "كريم" يشعر بنظرات "ممدوح" كأنَّها سياط تلهب كيانه، وبعد دقائق طويلة ‏تصبَّب فيها عرق "كريم" من المجهود الشاق الذي يبذله وتأنيب الضمير ممّا جاء ‏لأجله في البداية، استقبَلَ على يديه الحياة الجديدة وأسرَعَ يعطيها لأبيه الذي انقضَّ ‏على يديه يقبلهما وعيناه تحملان نظرات الامتنان والشكر، وقال: "سأسمّيه (كريم) ‏حتى يصير مثلك ينقذ حياة مَن حوله"، فابتسم "كريم" بسعادة مَن استعادَ روحه من ‏الوحل الذي كادت تتردّى فيه، ونظر لوجه الصغير البريء كأنَّما يتزوَّد من براءته ‏لمعركته الكبيرة القادمة مع أمِّه. ‏