محمد حسني البابا ‏ أمير الخط العربي

أمير شفيق حسانين

كاتب مصري

 

 

في فترة الأربعينات من القرن الماضي، اجتهد محمد حسني لإيجاد طابع فني للخط العربي، يُلائم ‏الصحافة وعناوينها، فكان خطاطًا لعناوين أشهر الصُّحف ومعامل السينما، وقام بكتابة آلاف ‏الإطارات للأفلام الصامتة، وبذلك فقد ترك للبشرية إرثًا خَطيًّا ضخمًا، متمثلًا في مئات اللوحات ‏الفريدة والآثار الخَطيّة الساحرة، والتي أصبحت مرجِعًا لكثير من الخطاطين. ولم يكن محمد ‏حسني خطاطًا عاديًّا، فقد تميَّزت لوحاته بإقامة حوار فنّي بين الأحرف، بقدرته على تغيير شكل ‏التركيبه الخطيَّة، وإظهار قوَّة الأحرف، حيث وصل إبداع الخطاط المُخضرم في التركيبة الخطيَّة ‏إلى "البسملة"؛ فكتبها بأشكال مُختلفة. وهو الذي قام بزخرفة كسوة الكعبة المشرَّفة أثناء فترة ‏عمله في القصر الملكي السعودي.‏

 

محمد كمال حسني البابا، خطّاط عربي دمشقي، ينتمي لعائلة البابا التي اشتُهِرَتْ في بلاد الشام ‏بالإنشاد. استطاع بفضل موهبته الراقية أن يفوز بإعادة الاعتبار لفنّ الخط إلى مصر، لدرجة أنْ ‏وصفه فلاسفة الخطوط بأنه "قلعة وظاهرة فنيّة لا تُعوَّض"، وأنه مهندس التركيبات، المُتمكِّن من ‏كتابة جميع الخطوط بإتقان، وهو الرسّام الفنان الذي يرسم الحروف رسمًا بارعًا"، وبفضل ‏عبقريّته أصبح محمد حسني أحد أشهر وأكبر الخطاطين على المستوى العربي والإسلامي.‏

وقد لا يعلم بعضهم أنَّ والد الخطاط محمد حسني، هو المُطرب السوري حسني البابا، أمّا ابن ‏شقيقه فهو الإذاعي والكوميديان المسرحي أنور البابا، ومثلما أبدع محمد حسني في فن الخط ‏العربي، فقد تفوَّق مُعظم أبنائه في مجالات فنيّة أخرى، حيث نجحت ابنته الفنانة الراحلة سعاد ‏حسني في مجال التمثيل، كما نالت شقيقتها نجاة الصغيرة شهرة واسعة في عالم الغِناء، أمّا ‏شقيقتهما صباح حُسني، فقد احترفت مجال النَّحت، كما تفوَّق عزالدين وسامي -نجلا الخطاط ‏محمد حسني- في مجال العزف، أمّا مَن انتهجا نهج والديهما في عِشق فن الخطوط، فهما نبيل ‏وفاروق محمد حسني. ‏

تلقى أمير الخط العربي محمد حسني، علومه الأولى بمدينة دمشق السورية التي وُلِدَ فيها عام ‏‏1894م، حيث عشِقَ الخط العربي منذ حداثة عُمره، وسعى لتعلُم قواعده على يد الخطاط التركي ‏الشهير يوسف رسا أفندي، وقد أَبهر محمد حُسني مَنْ حوله بتقليده لخطوط الخطاط قاضي عسكر ‏مصطفى عزت،‎ ‎علمًا بأنَّ البابا كان أحد تلاميذ الخطاط التركي محمد شوقي، ومنافسًا قويًا ‏لأحمد عارف الفلبوي‎.‎‏ ‏

هاجر عميد الخطاطين العرب محمد حسني لمصر عام 1912م، حيث بدأ عمله في الخطاطة ‏بالمطابع الحجريّة، ثم اشترى بيتًا في حيّ خان الخليلي المُجاور لقاهرة المُعزْ، ليُمارس عمله فيه، ‏قبل افتتاحه مكتبًا خاصًا لنفسه، وورشة للحفر والزنكوغراف عام 1929م، ولم يكن الخطاط ‏الدمشقي من راغبي الارتباط الوظيفي، كي لا يمنعه عن إتمام رحلته الإبداعيّة مع عالم الخطوط ‏العربيّة.‏

عُيِنَ شيخ الخطاطين محمد حسني أستاذًا بمدرسة تحسين الخطوط الملكيّة عند تشكيلها في عام ‏‏1922م، ومن أمهر تلاميذه محمد إبراهيم، ابن مدينة الإسكندرية، كما تتلمذ على يد محمد حسني ‏كلٌّ من محمد علي مكاوي، ومحمد سعد حداد، ومحمد أحمد. وعمل البابا أيضًا خبيرًا كِتابيًّا ‏بالاستئناف.‏

وفي فترة الأربعينات من القرن الماضي، عمل مهندس الخط العربي محمد حسني مُدرِّسًا بالمعهد ‏العالي للتربية الفنيّة بالقاهرة، حيث اجتهد لإيجاد طابع فني للخط العربي، يُلائم الصحافة ‏وعناوينها، فكان خطاطًا لعناوين أشهر الصُّحف ومعامل السينما، وقام بكتابة آلاف الإطارات ‏للأفلام الصامتة، وبذلك فقد ترك للبشرية إرثًا خَطيًّا ضخمًا، متمثلًا في مئات اللوحات الفريدة ‏والآثارالخَطيّة الساحرة، والتي أصبحت مرجِعًا لكثير من الخطاطين.‏

أدخل محمد حسني الأحرف العربيّة في طرق جديدة، وألبسها لِباس الرَّشاقة، كما برع في الكتابة ‏بخط الثُلث وهو من أصعب الخطوط العربية -والذي سُمِيَ بالثُلثْ لأنه يُكتب بقلم يُقَطّ محرَّفًا ‏بسُمْك ثلث قطر القلم، لأنه يحتاج إلى كتابة بحرف القلم‎ ‎وسُمكه- ولذا فإنَّ التراكيب التي اتَّخذها ‏محمد حسني بخط الثلث أعجزت أساطين الخط في إسطنبول.. إضافة لمهارته في الكتابة بخط ‏النسخ، وتفوُقه في تزيين معظم مخطوطاته باستخدام الخط الفارسي.‏

لم يكن محمد حسني خطاطًا عاديًّا، فقد تميَّزت لوحاته بإقامة حوار فني بين الأحرف، بقدرته ‏على تغيير شكل التركيبه الخطيَّة، وإظهار قوَّة الأحرف، حيث وصل إبداع الخطاط المُخضرم ‏في التركيبة الخطيَّة إلى "البسملة"؛ وكتابتها بأشكال مُختلفة، وهو الذي قام بزخرفة كسوة الكعبة ‏المشرَّفة أثناء فترة عمله في القصر الملكي السعودي.‏

ولأنَّ الخط العربي ذو إمكانيات جمالية، لا يمتلكها أيّ حرف في أيّ لغة أُخرى، فقد اعتنى ‏الأستاذ محمد حسني به عناية فائقة وأبدع في خطّ الحرف العربي، وأدخل فيه المؤثرات البصرية ‏التي تضيف للكلمة المكتوبة، دلالة من خارجها، فيعمد إلى منح الحرف، حركة مرسومة تُحاكي ‏فكرة أو حالة شعورية، مثلما فعل في لوحته المبهرة والمتضمنة الآية القرآنية الكريمة (وما ‏توفيقي إلا بالله)، حيث برز حرف (لا) في تلك اللوحة، كما لو أنه يدان تتضرَّعان في وسط ‏وأعلى الصورة.‏

‏ وُصِفَ الخطاط محمد حسني بأنه سيّد مَن هنْدس لوحات خطّية، بفضل ذكائه في توزيع ‏الحروف، وفلاحه في إضافة أبعاد هندسية جمالية عليها، وتظهر براعة الخطاط الفذّ من خلال ‏أعمال الهندسة البصرية التي أجراها على الحروف العربية فحوّلها إلى لوحات زخرفية ‏وتشكيلية.. وقد صدر كتاب توثيقي بعنوان (من أعمال الفنان محمد حسني)، جُمِعَت بداخله أغلب ‏لوحاته وآثاره الخطيّة، ومنها أسماء كتب تاريخية وأدبية ودينية شهيرة. ‏

ازدهرت رحلة محمد حسني مع الخط العربي، فطوَّع قلمه نحو تجويد هيئات الكلمات والعبارات، ‏وقد ذاع صيته وسط عالم النبلاء وعليّة القوم، بعدما تولى مُهمة كتابة البطاقات الشخصية ‏والتجارية للعديد من الأشخاص البارزين مُجتمعيًّا، ومنهم الوجيه إسماعيل صدقي رئيس وزراء ‏مصر (منذ 1875م وحتى 1950م)، وكذلك النبيل يوسف ذو الفقار والد الملكة فريدة.‏

وفي عام 1965م، قام الرئيس المصري جمال عبدالناصر بمنح الجنسية المصرية للخطاط محمد ‏حسني، تقديرًا لمشواره الإبداعي في تدريس وتطويرالخطوط العربية.. وفي العام ذاته نال محمد ‏حسني شهادة الرَبازة (الدكتوراه الفخرية) في فلسفة الخط من كندا.‏

اعتاد الخطاط الدمشقي أن يُوقِّع باسم (محمد حسني) تحت لوحاته الخطيّة، مُستخدمًا خط الإجازة ‏‏(خط التوقيع)، والذي يُعدُّ خليطًا من خطَّيْ الثلث والنسخ معًا، ومن المعلوم أنَّ محمد حسني قام ‏بالاتصال بكبار الخطاطين المعروفين في مصر وخارجها، مثل الخطاط المصري نجيب ‏الهواويني، والشيخ عبدالعزيز آل رفاعي، واستزاد منهم جميعًا في تدقيق خطوطه، كما قام محمد ‏حسني بإجازة الخطاط العراقي هاشم بغدادي.‏

وفي عام 1969م رحل محمد حسني البابا عن الدنيا، ودُفِنَ بالقاهرة، بعدما أسَّس واحدة من ‏أعظم المدارس العامرة بفن الخط العربي، الذي يُعد بصفته فنًا راقيًا وأداة حيوية ووسيلة فعّالة ‏لحفظ وتخليد تراث اللغة العربية الواسع.‏