ضرورة التَّدوين الرَّقمي ‏ لمشروع الدكتور حسن حنفي

 

د. محمد حمود البغيلي

‏ باحث وأكاديمي كويتي

 

وثَّقت مواقع التواصل الاجتماعي أفكارًا ومقولات ومقاطع للراحل الدكتور حسن حنفي نقلًا عن ‏المواقع المختلفة وأهمها "‏YouTube‏"، وبعيدًا عن المحاضرات المطوَّلة والمقابلات الكاملة، ‏ثمّة مقاطع مجتزأة من تلك الفعاليات بحسب توجُّهات الناشرين، وقد تُنشر في عناوين مختلفة ‏تتماشى مع غاية المقطع وليس مع العنوان الحقيقي للمحاضرة، من هنا يتضح ضرورة الإعداد ‏والتدوين الرقمي لمشروع الدكتور حسن حنفي، وهو مشروع فلسفي ضخم وثري، لا يقل أهمية ‏عن التدوين المطبوع والأرشيف المحفوظ عنه. ومن جانب آخر، فإنَّ تدفُّق المواقف المهمّة ‏والآراء القيِّمة والأفكار العميقة التي قالها الراحل بشكل ارتجالي خلف الكاميرا أو أمام الجمهور، ‏لا تقل أهميّة عن آرائه ومواقفه وأفكاره المطبوعة والمكتوبة بلحظات بحث وتدبُّر.‏

 

في تشرين الأوَّل/ أكتوبر من العام 2021 رحل عن دنيانا المفكر العربي المصري الدكتور حسن ‏حنفي وخسر ميدان الفكر فارسًا من فرسان العقل والقلم تاركًا وراءه جواهر الكتب مثل "التراث ‏والتجديد" و"مقدمة في علم الاستغراب" و"من النقل إلى الإبداع"، وغيرها من الأعمال الرائدة‎.‎

وإذْ سطر الراحل حسن حنفي ‏العديد من أفكاره وآرائه الفلسفية في كتبه، فإنه ‏خطَّ بقلمه أيضًا ‏العديد من الدراسات والمقالات والبحوث التي نشرت في مختلف المطبوعات الإعلامية ‏والأكاديمية الصادرة من مختلف الأقطار العربية‎.‎

ويُعدُّ ثراء إنتاجه المعرفي بتنوُّع مواضيع كتاباته وتعدُّد مجالاتها على مدى عقود من الزمن، ‏سببًا رئيسًا ‏في حفظها في الأرشيف العربي في كل المكتبات الجامعية والعامة والتجارية حيث ‏تجد الرَّواج بين مختلف الشرائح العلمية والفئات العمرية من الجنسين على حدّ سواء‎.‎

بالإضافة إلى هذا، وهو مقصد المقال، وثَّقت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة ‏كافة وبلا ‏استثناء أفكارًا ومقولات ومقاطع للراحل الدكتور حسن حنفي نقلًا عن المواقع المختلفة وأهمها ‏موقع الـ"‏YouTube‏" الذي حفظ للفلسفة ولبقية العلوم والمعارف ‏في مجالات الحياة عامة، ‏المحاضرات الجامعية واللقاءات الشعبية والمقابلات التلفزيونية، وبالطبع كان للراحل نصيب ‏وافر منها حتى وفاته‎.‎

‏لقد حفظ الـ"‏YouTube‏" العديد من تلك اللقاءات والمحاضرات والمقابلات التي ولّدت العديد ‏من المقاطع المجزَّأة للمفكر الراحل وبمواضيع مختلفة وأحيانًا تحت عناوين علمية محكمة وأحيانًا ‏تحت خطوط عريضة ومحاور عامة لا تقل أهمية ‏‏وموضوعية عن العناوين العامة، لكن ثمّة ‏تفاوت في دقة التصوير وتباين في ‏وضوح الصوت من رابط إلى آخر بحسب احترافية الجهة ‏المنظمة للفعالية المنقولة أو بحسب تمكُّن صاحب القناة على ‏‎ YouTubeمن عالم التقنية ‏التكنولوجيا والنشر الإلكتروني.‏

‏كما أنَّ هناك عشوائية في النشر الإلكتروني للمحاضرات ولقاءات الراحل الكبير بين قنوات ‏الـ"يوتيوب" حيث إنَّ بعضها كان رسميًّا في القنوات الإخبارية وبعضها أكاديميًّا مثل المنتديات ‏والمنصّات التنويرية ومواقع الجامعات والمكتبات، وبعضها غير رسمي حيث نشرت محاضرات ‏علمية مهمّة ومعمّقة ومطوّلة من دون تقطيع، غير أنَّ هذه الحسابات غير الرسمية ينشر بعضها ‏بأسماء مستعارة مجهولة لا تليق بمستوى المحاضرة أو المحاضر.‏

وثمة أيضًا قنوات في الـ"يوتيوب" شخصيّة ولأسماء حقيقيّة مُعلنة تعود لإعلاميين أو أساتذة ‏أكاديميين نشروا للراحل القدير لقاءات كاملة أو مقاطع مجتزأة سواء لمجرَّد النشر ‏أو للردّ ‏والتعليق عليها، الأمر الذي أضاف ثراء وتفاعلًا على تواجد الدكتور حسن حنفي على الشبكة ‏الإلكترونية.‏

‏تجدر الإشارة إلى أنَّ كثيرًا من المنشور على الشبكة عبر قنوات الـ"يوتيوب" المختلفة هو في ‏الحقيقة لا يتجاوز العقد من الزمن، لكن أحيانًا ما يكون زمن التسجيل يمتد لعقود تجلّى فيها ‏الدكتور حسن حنفي في عدد من الدول العربية والأجنبية وفي فعاليات مختلفة، تحدَّث بكل عمق ‏وتألُّق نتج عنها تفاعل الجمهور معه في الغالب، من خلال التعقيبات والمداخلات المشتركة.‏

وللتنويه، فإنَّ ما ينطبق على كاتبنا ومفكرنا الراحل يجري على الآخرين من مفكرين وسياسيين ‏وفنانين وغيرهم ممّن هم بحاجة إلى رقمنة مشاريعهم وأنشطتها وتوثيقها إلكترونيًّا.‏

‏وللتفصيل والتوضيح أكثر وتحديدًا في عمليات البحث على موقع الـ"يوتيوب"، نجد على سبيل ‏المثال محاضرة كاملة للراحل في الكويت نشرت بتاريخ 9 آذار/ مارس 2018 ولكن تحت ‏عنوان "الموروث الديني"، وكذلك محاضرة في مدينة قم المقدّسة (هكذا نشرت في القناة ‏اليوتيوبية) في جمهورية إيران الإسلامية عام 1999 وتمَّ ‏النشر الإلكتروني في شباط/ فبراير ‏‏2017 وكان عنوان المحاضرة المشهد الثقافي العربي المعاصر.‏

‏يلاحَظ أنَّ العناوين المختارة في الكويت وإيران كانت عناوين عامة على الرغم من أنَّ التغطية ‏لها كاملة وشاملة وواضحة بدرجة مقبولة، بيد أنَّ محاضرة إيران نشرت في حساب المنظمين ‏الرسميين؛ أي المكتبة الأدبية المختصة، بينما نشرت محاضرة الكويت في قناة تنويرية تناصر ‏وتحمل اسم مفكر عربي آخر وهو المفكر المصري نصر أبوزيد!!‏

إنَّ عموميّة العناوين ليست عيبًا، وأحيانا يتم اعتمادها من قبل الأكاديميين لجذب الجمهور أكثر ‏في ظل العزوف الكبير من الطلبة والشباب على المحاضرات الفكرية، والدليل على ذلك استعانة ‏مؤسسة متمكنة مثل "مؤمنون بلا حدود" بمثل هذه العناوين، ‏ومع المفكر الراحل حنفي أيضًا مثل ‏محاضرة "في فلسفة الدين" المنشورة 14 أيار/ مايو 2014 "وعقائد بلا حدود" المنشورة في ‏‏16 أيلول/ سبتمبر 2014 وهي من أعمق وأشهر المحاضرات للدكتور حسن حنفي ولم تكن ‏عائقًا يحجب رؤيته العلمية المنهجية.‏

‏وحتى العناوين العلمية المحكمة، فإنها وإنْ نُظِّمت تحت عنوان علمي صارم، إلا أنَّ النشر كان ‏بشكل غير رسمي؛ على سبيل المثال: ‏محاضرة "ظاهرية الروح عند هيغل- قراءة جديدة" والتي ‏كانت أحد نشاطات الموسم الثقافي في مكتبة الإسكندرية 2007- 2008 وتاريخ نشرها إلكترونيًّا ‏كان في 22 أيار/ مايو 2014، ولكن للأسف في قناة تنويريّة باسم مستعار.‏

‏‏بالطبع إنَّ الأسماء المستعارة ليست عائقًا أمام نشر الفكر الحر المستنير، بل هي غطاء حماية ‏ضد السلطات القمعية والجهل يلوذ بها المواطن العربي لينشر قدر استطاعته شذرات العلم والفكر ‏ومطالباته الحياتية واعتراضاته السياسية ‏مستفيدًا من أفق وديمقراطية الشبكة الإلكترونية وميدانها ‏المفتوح.‏

‏ثمّة –أيضًا- مقاطع قد نشرت للمفكر الراحل في قنوات إعلامية رسمية مثل قناة العربية ‏الإخبارية عندما استضافت الدكتور حسن حنفي في برنامج "منارات" تموز/ يوليو 2015، ‏وأخرى في قنوات لإعلاميين مثل ما نشره الإعلامي السعودي محمد رضا نصرالله في 24 ‏تموز/ يوليو 2019 عندما أجرى مقابلة مع الراحل على قناة السعودية الأولى.‏

وبعيدًا عن المحاضرات المطوَّلة والمقابلات الكاملة، ثمّة مقاطع مجتزأة من تلك الفعاليات بحسب ‏توجُّهات الناشرين، وقد تُنشر في عناوين مختلفة تتماشى مع غاية المقطع وليس مع العنوان ‏الحقيقي للمحاضرة، وأحيانًا تكون تلك المقاطع مصحوبة بتعليقات مؤيدة، وأحيانًا معارضة.‏

من هنا يتضح ضرورة الإعداد والتدوين الرقمي لمشروع الدكتور حسن حنفي، وهو مشروع ‏فلسفي ضخم وثري، لا يقل أهمية عن التدوين المطبوع والأرشيف المحفوظ عنه.‏

كما أنَّ من المهم تدوين ما قاله الراحل في محاضراته ومقابلاته لما ورد فيها من أفكار سياسية ‏جريئة وتقدمية تتناول عددًا من المحاور والقضايا وأهمّها ما كان مواكبًا لأحداث الربيع العربي، ‏حيث ثارت الشعوب العربية ضد الطغيان وسياسات القمع والتنكيل والتي لا تقل بشاعة عن ‏سياسات التجهيل التي تعاني منها كل المجتمعات العربية.‏

‏إنَّ ما يدعونا إلى المطالبة بالتدوين الرقمي لكل محاضرات ولقاءات الراحل حسن حنفي هو تدفُّق ‏المواقف الثقيلة والآراء القيِّمة والأفكار العميقة التي قالها الراحل بشكل ارتجالي خلف الكاميرا أو ‏أمام الجمهور، وهي لا تقل أهمية عن آرائه ومواقفه وأفكاره المطبوعة والمكتوبة بلحظات بحث ‏وتدبُّر.‏

‏على سبيل المثال في برنامج مواجهات على قناة اقرأ الفضائية، نشر الكاتب الصحفي محمد ‏بركات من قناته اليوتيوبية، ‏لقاء مع الراحل الذي وصف العلمانية بالسلفية المقلوبة، موضحًا أنَّ ‏السلفية تتشابه مع العلمانية من زاوية احتكار الحقيقة غير أنهما اختلفتا في المصدر والمنهج، ‏حيث السلفية تقدِّس الماضي بينما العلمانية تقدِّس الغرب ولا تأخذ العلم من غيره.‏

‏وفي اللقاء نفسه أيضًا، شخّص مشكلة المجتمعات العربية من خلال طغيان الدولة ومحاولة ‏القضاء على التعددية، واستشهد بدلائل تاريخية ونصية قديمة وحديثة ومعاصرة.‏

‏نفى حنفي أن يكون الإسلام سبب التخلف، فالإسلام عامل من عوامل التقدُّم الإنساني، إذ الإنسان ‏هو وريث الوحي في إعمار الأرض قائلًا: إننا لو استعنّا بالمنهج القرآني فإنه بالإمكان معالجة ‏قضايا آنيّة تعاني منها دولنا العربية والإسلامية، مثل الفقر والقهر ومقاومة الاحتلال والتشرذم ‏والتبعية واللامبالاة.‏

‏وأضاف باللقاء نفسه بأنه إسلامي الثقافة والتوجُّه والهدف، بحكم البيئة التي عاش فيها، وأنه ‏محكوم بالمتغيرات والظروف المحيطة حيث ضياع فلسطين والثورة الاشتراكية، وحركات ‏التحرر الوطني ومطالبات العدالة الاجتماعية، مؤكدًا أنَّ الإسلام هو الإطار المرجعي والثقافي له ‏في تصوُّر العالم، كما أنَّ الثورات العربية والناصرية تشترك في تشكيل فكر أبناء جيله.‏

‏وفي ندوة تجديد الخطاب الديني أشار حنفي إلى ضرورة التجديد من بوّابة اللغة وتجاوز الثنائيات ‏القديمة مثل العلاقة بين اللفظ والمعنى والنفس والبدن؛ حيث النفس ثابتة والبدن متغير واللفظ ‏متغير والمعنى ثابت، ‏موضحًا أنَّ اللغة القديمة هي لغة الألفاظ والمعاني، بينما اللغة الحديثة هي ‏لغة العلامات.‏

وأوضح حسن حنفي أنَّ اللغة العربية ‏تقدِّم اللفظ بثلاثة معانٍ، معنى اشتقاقي يربط اللفظ بأصله ‏الحسّي، واصطلاحي يربط اللفظ بالمعنى الجديد الأيدولوجي، والمعنى العرفي التداولي الذي ‏يرتبط بحياة الناس اليومية، مضيفًا أنَّ اللغة العربية فرع من اللغات السامية، لذا نجد الكثير من ‏الألفاظ الأعجمية في لغتنا العربية وحتى في النص القرآني.‏

‏كذلك، وفي مقطع مجتزأ من إحدى المحاضرات نشرت قناة شبكة يقين الإخبارية تحت عنوان ‏‏"حسن حنفي: الخطاب الديني منذ 1000 عام كان سياسيًّا للدفاع عن السلطة"، أكّد فيه المفكر ‏الراحل أنَّ التجديد يعني التغيير في المضمون وليس بالألفاظ فقط حيث يتجاوز التجديد الألفاظ ‏إلى المعاني والأشياء التي يحيل إليها الخطاب.‏

تجدر الإشارة، إلى أهميّة بعض المقتطفات للراحل الدكتور حسن حنفي، وإلى أفكاره العميقة التي ‏وردت على "اليوتيوب" في سياق بثّ خبر وفاته في الحسابات والقنوات اليوتيوبية المختلفة، ‏حيث نشرت كتقارير موجزة عن حياة الراحل ومسيرته الفكرية وأثره عربيًّا وإسلاميًّا، إذ ‏تضمَّنت هذه التقارير مقاطع لأهمّ كلمات الراحل، واختلف زمن كل مقطع بحسب المادة المتوافرة ‏لصاحب كل قناة بثّت الخبر.‏

كما تجدر الإشارة إلى فيديوهات أكاديمية ‏وإعلامية نشرت لبعض مؤيدي فكر الدكتور حسن ‏حنفي حيث بعض ما نشر كان شرحًا أو تلخيصًا أو تعقيبًا مع الاتجاه ذاته دون معارضة أو نقد ‏سلبي.‏

وفي المقابل ثمّة مقاطع مسجّلة تصدّى أصحابها لفكر ومشروع الراحل، ‏أكثرهم كان ينتقد من ‏زاوية التراث حيث اصطفّوا مع قدسيّة النص على حساب حرية العقل والتفكير، الأمر الذي ‏ناضل الدكتور الفقيد في معالجته طوال حياته، ساعيًا إلى تقديم ما يواكب العصر ويسهم في تقدُّم ‏الأنظمة العربية والإسلامية دون انتهاك لثوابت دينيّة وقواعد شرعيّة أو قيم اجتماعيّة.‏

كلمة أخيرة لا بد منها؛ وهي التنويه إلى أنَّ عددًا من قنوات "اليوتيوب" قد نشرت العديد من ‏المحاضرات للدكتور حسن حنفي باللغة الإنجليزية لا مجال لنشرها والحديث عنها في هذا ‏السياق، كما نشير هنا إلى أنَّ ثمة احتفاء وتقديرًا لفكر الراحل الكبير في مختلف دول العالم، ‏حيث يتمّ تدريسه في عدد من الدول غير العربية مثل أندونيسيا وماليزيا، في حين تفتقر ‏الجامعات العربية والمؤسسات العلمية إلى الاحتفاء بمثل هذه القامة الكبيرة بين أروقتها وفي ‏مناهجها الدراسية.‏

وبالطبع، فإنَّ هذه الدعوة ليست حكرًا على الفقيد الراحل، وإنَّما لكل الأدباء والمفكرين العرب ‏الذين تزخر بهم دولنا في كل المجالات وجميع القطاعات ومختلف أقطارنا العربيّة.‏

هي دعوة فرديّة مؤسسيّة رسميّة للاحتفاء بكل مجتهد ومبدع على المستوى الكتابي المطبوع ‏وعلى مختلف مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع المتنوِّعة. ‏