"أشباح ديرتنا"‏ محاولة للفهم

‏هاشم غرايبة

كاتب وروائي أردني

 

الإنسان وحده من بين الكائنات التي نعرفها قادر على التَّجريد، وقراءة الرَّمز، وفهم المجاز، ‏فصار للرُّموز معنى جوهريّ في الحياة، ووظيفة أساسيّة في التعبير عن الواقع والمتخيَّل، وفي ‏عمق الحياة الحديثة جذر ونسب قديم يزداد حضورًا وتعلقًا بتلك الرُّموز وما تولِّده من المجازات ‏والاستعارات والتأويلات التي عبَّرت عنها الأسطورة والحكاية الشعبيّة والخرافة وما أنتجته من ‏أشباح. فالرَّواسب الأسطوريّة والخرافيّة للبشر ومخرجاتها من سلوكيّات طقسيّة وخيالات شبحيّة ‏ساهمت ببناء منظومتنا الداخليّة، واستقرَّت في لا وعينا، وتسهم في توازننا النفسي أفرادًا ‏وجماعات، وما زالت تطلُّ من أحلامنا وتهيُّؤاتنا، دون أن ننتبه لتصوُّرات الأجداد الموروثة، ‏وتدعم إمكاناتنا الروحيّة التوّاقة لما هو أبعد من الحواس. ‏

 

الأحلام هي ما يحرِّك الحياة.‏

هذا التناغم المحيِّر بين الواقع والخيال هو الموسيقى التي نرقص عليها فيما ننجز واجبات كل ‏يوم، نواصل الرقص دون أن نعرف اسم اللَّحن أو المُلحِّن. المهم هو اللَّحن المخاتل ذاته الممتدّ ‏بين عالم الشهادة وعالم الغيب. ‏

إنَّ ثقل الأسئلة التي يطرحها علينا الكون، والتعايش مع عالمنا بما هو عليه من تعقيد، وقبول ‏الحياة بما تنطوي عليه من مفاجآت وآلام؛ يدفعنا للاستعانة بالوهم، الخيال، الفن، الحكايات، ‏الأساطير، الخرافات، وما تبثّه من خيالات وأشباح وأرواح، وكلّما تقدَّم فهمنا للعالم ارتقت ‏الأسطورة إلى شكل جديد واتَّخذت أشباحها أشكالًا أكثر حداثة.‏

عندما ينمو الصبيّ يحتاج حكايات أكثر إقناعًا، كذلك المجتمعات تحتاج أساطير أكثر ثباتًا ‏وأشباحًا أكثر وضوحًا.‏

عالمنا كان وما زال يقتات على السرديّات وما تنتجه من أشباح منذ أساطير الخلق الأولى عند ‏الشعوب وصولًا إلى سرديات علم الجينات، وعالم النانو، والذكاء الصناعي، وفيزياء الكم، ‏ونظريات الأوتار الفائقة، والأكوان الموازية.‏

المعارف العقليّة وحدها ليست كافية. فكلما تقدَّمنا بالمعرفة اتَّسع حقل المجاهيل أضعافًا ‏مضاعفة، فيما يتَّضح نقصنا البشريّ كلّما اتَّسع تقدُّمنا العلميّ والتكنولوجيّ!‏

حواسيبنا، الذكاء الاصطناعي، علم النانو، علم الجينات... ليست كافية بذاتها، إنَّها تستمدّ حيويّتها ‏من واقعيّتها الخاصة، وممّا تنتجه من سرديّات نثق بها دون أن نمحّص ما تبثّ من أساطير ‏وأشباح.‏

نحن مَن نخترع الحواسيب والمركبات الفضائية والأمصال، ونحن مَن نؤلف الأساطير ونتخيَّل ‏الأشباح؛ فكل شيء مرتبط بما نحن مهيّؤون للتفكير به. فالطريقة المُجرّبة لاستمرار الحياة التي ‏خبرها البشر وخزنها الوعي على مدى آلاف السنين تقوم على التوازن بين الواقع والخيال. بين ‏عالم الشهادة وعالم الغيب.‏

على أرض الواقع نحن نعيش مع الخيال أكثر ممّا نعيش مع المحسوسات، فخبرة الوجود الإنساني ‏تحدَّدت بما تدركه الحواس مناصفة مع الآخر الشبحي القادم من وراء الشكل المألوف والتجسيد ‏المعروف. ‏

أبعاد الكون لا يمكن إدراكها بالحواس فقط. لا بدَّ من الحدس بها وتتبُّع الأسئلة التي تثيرها. ‏حدوسنا وتجاربنا الواقعية والمتخيلة التي نشخصها وفقًا لخبرتنا بما نراه، واعتمادًا على الذاكرة ‏والتصوُّرات المسبقة عن الأشياء؛ إنَّما نعبِّر عنها باللغة (صورًا وكلمات وإشارات)، تلك اللغة ‏المرتبطة بقدرة الإنسان على الترميز. ‏

الإنسان وحده من بين الكائنات التي نعرفها قادر على التجريد، وقراءة الرمز، وفهم المجاز، ‏سواء كان ملموسًا كالدنانير والبطاقات، أو متخيلًا كالرياضيات والأشباح.‏

‏"تحيط بنا الرموز في هذه الأرض الفسيحة بأشكال لا تعدُّ ولا تحصى وتشكل جزءًا مهمًا من ‏حياتنا اليومية، وفي جانب مهم منها تتضمَّن تمثيلات للغيبيات كالأساطير والخرافات والأشباح، ‏وتشترك معظم الرموز المستخدمة في حياتنا الحديثة والتقاليد الطقسية القديمة في أصل مشترك ‏يتمثل في الفهم المشترك للرموز"(1).‏

لقد صار لهذه الرموز معنى جوهريّ في الحياة، ووظيفة أساسية في التعبير عن الواقع والمتخيَّل، ‏وفي عمق الحياة الحديثة جذر ونسب قديم يزداد حضورًا وتعلقًا بتلك الرموز وما تولِّده من ‏المجازات والاستعارات والتأويلات التي عبَّرت عنها الأسطورة والحكاية الشعبية والخرافة وما ‏أنتجته من أشباح. فالرواسب الأسطورية والخرافية للبشر ومخرجاتها من سلوكيات طقسيّة ‏وخيالات شبحيّة ساهمت ببناء منظومتنا الداخلية، واستقرَّت في لا وعينا، وتسهم في توازننا ‏النفسي أفرادًا وجماعات، وما زالت تطلُّ من أحلامنا وتهيؤاتنا، دون أن ننتبه لتصوُّرات الأجداد ‏الموروثة، وتدعم إمكاناتنا الروحيّة التواقة لما هو أبعد من الحواس. ‏

أجدادنا كانوا يأخذون عالم الغيب بجديّة أعلى، وسيَّرت الميثولوجيا حياتهم لقرون طويلة، وتركت ‏أثرًا لا يمحى جيلًا إثر جيل. فمنذ القدم مال البشر إلى تشخيص تجاربهم المتخيَّلة، وتحويلها إلى ‏رسومات أو كلمات قادرة على التوصيل والتواصل والتأثير. وقد كان لأجدادنا الأوائل خرافاتهم ‏وأساطيرهم وأشباحهم المستمدة من ثقافتهم المرتبطة بظرفهم الزماني والمكاني، وكوّنوا سردياتهم ‏التي تمنحهم توازنًا منطقيًا في مواجهة مخاوفهم ودعم آمالهم وتخفيف حيرتهم. وصبغوا على هذه ‏القوى المجهولة صفات خاضعة لحواسهم وظروف عيشهم.‏

نحن بحاجة إلى فهم خرافاتنا و"أشباح ديرتنا" عبر حكايات الناس عنها، وتجاربهم الشخصية ‏معها، وتقصّي رمزيّتها ومجازاتها ودلالاتها، وفهم البيئة التي أنتجتها، والثقافة الكامنة خلفها، ‏وقدرتها على منحهم التوازن ضمن الممكن، ولا مناص من تصنيفها، وإعادة سردها بلغة ‏معيارية تسهِّل توصيلها والتواصل معها، مع الحفاظ على جذرها وروحها.‏

‏-‏ هل رأيتم الرّصد الذي على شكل دجاجة سوداء؟

‏-‏ كلا لقد كان على شكل أفعى لها قوائم.‏

‏-‏ بل على شكل تيس بقرنين هائلين. ‏

ما بدأ كأشباح متخيّلة وما رافقها من تمائم وتعاويذ عند أجدادنا كأيقونات وأحراز ورسومات على ‏الأجساد والجدران وفوق الأبواب لحمايتهم من أذى الأرواح الشريرة؛ استمرَّ حتى يومنا هذا عبر ‏مظاهر ثقافية متعددة. فما تزال النساء تهدي الأمهات الجدد "تعليقات"(2) توضع حول رقبة ‏المولود أو في لفافته، للحماية من العين الحاسدة، بعضها على شكل عين، وبعضها على شكل ‏كف. ولا يزال الأدباء والسينمائيون يتمثلون قصص الساكونة والندّاهة والغولة، وما زالت تلك ‏الأشباح تتوالد في مخيّلاتنا وأحلامنا، وتؤثر في واقعنا، وفي نمط عيشنا.‏

عندما كنتُ صبيًّا كنتُ على يقين أنَّ هناك ملكين على كتفي يسجِّلان حسناتي وسيّئاتي.‏

الآن أدرك أنَّ ذلك مجازًا. لكنَّ هذين الملكين ما زالا يؤثران على قراراتي.‏

الأشباح وما يرافقها من حكايات كانت تفعل فعلها، وتفتح لأجدادنا بابًا للاشتباك معها ومحاولة ‏تطويعها.‏

ماذا يفعل أجدادنا حيال خسوف القمر الذي لا يعرفون سرّه؟

هل يجلسون على مصاطب بيوتهم ويتبادلون الحديث كما كل يوم؟

لكنَّ الخسوف حدث استثنائيّ. ‏

هل يقف أجدادنا حيرى بلا ردّة فعل؟

‏-‏ القمر بلعته الغولة!‏

‏-‏ هيا نحرر قمرنا من مأزقه.‏

يندفعون إلى الخلاء حاملين كل ما يمكن أن يصدر صوتًا، ويشرعون بالقرع والصراخ: ‏

‏-‏ هاتِ قمرنا يا غولة..‏

وقد يلبث الخسوف طويلًا، لكن الاحتجاج الصاخب يخيف الغولة في النهاية، ويبدأ القمر بالتحرُّر ‏من فمها، فتعلو زغاريد النصر.‏

كانت جدَّتي تحدّثنا عن الغولة والساكونة وكأنّها تتحدّث عن إحدى الجارات. ‏

طبعًا لا نستطيع أن نسخر من حواسهم التي تؤيِّد ما يعتقدون!‏

عندما يحتبس المطر عن قُرانا، كان يخرج الأطفال منشدين لأم الغيث. وإذا صادف وفاة امرأة ‏في حالة ولادة يضعون في كفيها مناديل مبلّلة بالماء كرسالة بطلب الماء من العالم العلويّ.. ‏

ألم تسهم هذه الممارسات الطقسيّة بصنع توازن موضوعي لشعورهم بالعجز، وهدهت قلقهم، ‏ومنحهتم الشعور بأنهم شركاء في صنع أقدارهم؟

قد ننظر إلى هذه الطقوس والأشباح المتخيَّلة باستخفاف، لكنها ساندت أجدادنا، وشكَّلت وسيلة ‏توازن ضرورية مع القدر. وخفَّفت عنهم ثقل الواقع المعاش، وصاغوها وفقًا لظروف عيشهم ‏ورواسب موروثهم الثقافي.‏

إنَّها منظومة من المجازات المحكومة بظرفي الزمان والمكان، والتي دعمت توازنهم بين ما هو ‏مجهول وما هو معلوم، وصاغوها حكاياتٍ منسوبة للواقع، ولكونها شفويّة غير مكتوبة فهذا ‏يجعلها معرَّضة باستمرار للحذف والإضافة بحسب السياق ومزاج الرُّواة، وبحسب ثقافتهم ونمط ‏عيشهم، ومحكومة بظرفي الزمان والمكان.‏

‏"الأمر كله مرتبط بالتوازن"(3).‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ موقع "الحوار المتمدن"، العدد 5884، أمجد سيجري‎ ‎

‎ https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=600263‎

‏(2)‏ ‏ الكف والخرزة الزرقاء- لـِ"كَفّ" البلاء ودرء شرّ مرتقب، ومنهم مَن رأى فيها رمزًا لاستجداء ‏القوة، والبركة، والحماية، والخير. ويُعرف هذا الرمز باسم "يد مريم" نسبة إلى أخت موسى ‏في اليهودية، ومريم الأم والدة يسوع المسيح في المسيحية، كما يعرف بـ"يد فاطمة" نسبة لابنة ‏النبي محمد في الإسلام. أمّا كلمة "خمسة" فارتبطت بالأهمية الرمزية لهذا الرقم لدى العديد ‏من الفلسفات والأديان المختلفة، بما في ذلك الأصابع الخمسة المتصلة بـ "الشكرات- أي ‏مراكز الطاقة في الجسم"، والحواس الخمس، وأركان الإسلام الخمسة. كما رُبطت كلمة ‏‏"خمسة" بآيات سورة الفلق الخمس والتي يستعاذ بها من الحسد.‏

‏(3)‏ ‏ توشيكازو كواغوشي، قبل أن تبرد القهوة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2020.‏