الحافلةُ

رشاد رداد
قاص أردني


كنّا أحد عشر مُدمَّراً ضائعين في الصحراء، عندما باغتنا جنودٌ وحشونا في حافلة صغيرة لا تتسع لنصفنا، رؤوس بعضنا في مؤخرات بعضنا فيما كنت مصلوبًا على جدران الحافلة. أقدام البعض في بطني ولا أعرفُ أين نهاية يديّ وقدميّ، والجوُّ ملتهبٌ وقابلٌ للاشتعال في أيّ لحظة.
الحافلة مغلقةٌ، ولا يوجد غير نافذة صغيرة بحجم كف اليد، كنا نختلسُ النظرَ منها إلى الشارع، والسائقُ الذي كان شخصًا غليظًا غير مبالٍ بأحد، كأنَّه خلع ثوب الإنسانيّة قبل صعوده الحافلة، كان يدخّن بشراهةٍ ويستمع إلى أغنيات مزعجة، "يتنطط" على الكرسي كالقرد بكل حرية فيما نحن المقبورون في غرفة مظلمة ضيقة. وما يزيد في ألمنا سذاجة السائق وتفاهته، صرخ أحدُ المقبورين: إنَّنا أشبه ما نكون بعلبة "سردين" مغلقة.
قال آخر بصوت مخنوق: لكنَّنا لم نفقد رؤوسنا. تحسّست رأسي، خلصتُ إحدى يديّ من خلف ظهور المقبورين، وحككت بها شعري، كانت شبه مخدرة، لم أتأكد من نجاح التجربة، وأنّني برأسٍ تنبض بالحياة.
الأمر يزداد سوءًا، فالشمسُ تجلد صفيح الحافلة، ونحن أرغفةٌ محروقةٌ داخل الفرن، والعرقُ أخذ ينزّ من رؤوسنا وبطوننا ومؤخراتنا التي التهبت بفعل الحرارة والضيق، وأخذت روائح أجسادنا بالانتشار، ومما زاد من ارتباكنا أنَّ الباص انحرف متّخذًا طريقًا صحراويًّا.
ازداد الأذى أكثر فأكثر، وما كان يزيد في قهرنا وغيظنا أنَّه كلما استطاع أحدٌ منا أن يختلس النظر إلى السائق ومن معه الذين ما شبعوا من شرب العصائر وقضم الفاكهة.
أخذ بعضنا يصرخ ويدقّ على جدران الحافلة، ولكن السائق غير مكترث بنداءاتنا المخنوقة. بدأنا نسمع صوت انفجارات بعيدة، تسلل إلى قلوبنا الميتة خوفٌ ورعبٌ، وبطوننا الخاوية بعد قطع هذه المسافات المرهقة و"هزهزات" الباص، أخذت توجعنا.
صرخنا مرةً أخرى، دققنا الجدران مرة أخرى.
قال أحدُ المقبورين وقد سلقته الطريق والحرارة: نضحّي بأحدنا وننهشه. قال آخر: مدّ يدك واسرق لنا رغيفًا من السائق. قال آخر: لا توقفوا "الدقّ" حتى يتوقف السائق.
بعد لحظات توقفت الحافلة. سررنا قليلاً، نزل السائق الفظّ ومن معه من الجنود المدججين بالأسلحة والقسوة، فتح لنا الباب وقال لنا بغلظة: انزلوا، لقد غرزت عجلاتُ الباص بالرمل، هيا ادفعوا الباص.
"تبّاً لك نحن أموات ونريد ماءً، خبزاً، تبغاً...".
-هيا ادفعوا الباص أيّها الأوغاد.
ثم قام بدفعنا وهو يصرخُ: هيّا، هيّا، بعد ذلك يأتي الطعام.
تفاجأنا أنَّ الشمس قد هربت منذ ساعات، وأصبح الغروبُ محمرّاً بحزنِ المقبورين والناسِ الضائعين، وما نراه أشباه أشياء.
فالسائقُ أطفأ أنوار الباص خشية القصف، قلتُ لشخصٍ بجانبي: الحربُ الأولى كنتُ أسيرًا مثل هذه الحالة، هجمتُ على أحد الجنود، أخذتُ بندقيته، وقتلتُ كلَّ الجنود، وهرّبتُ كلَّ الأسرى.
صاح أحدُ الرجال وكأنَّه يستمع إليّ: اخرس، لسنا بحاجة لرامبو عربي، ولمثل هذه البطولات الزائفة.
ينهرنا أحدُ الجنود: هيّا، اصعدوا إلى الحافلة.
نظر أحدُنا إلى وجه الآخر، وقد غبّرت وجوهنا الصحراء.
-هيّا ادخلوا...
وصرنا نصعدُ كالخراف، ونصرخُ: الخبز، الماء...
عاد الباصُ يسير ببطء، أصبحت أحوالنا أكثرَ سوءاً عمّا قبل، بفعل الهواء الفاسد الذي يخنقنا بين الحين والآخر. الطريقُ صعبةٌ، وزادت في تعقيدنا وآلامنا، والقصفُ صار مسموعًا بوضوح، وكذلك هديرُ الطائرات والمدافع.
قال أحدُ المقبورين: كان بإمكاننا الهرب، لو قمنا بانتفاضةٍ صغيرة.
قال آخر: يا رجل، نحن ميتون، وهذا قبرٌ جماعي يسير بنا نحو الجحيم.
توقف الباص مرةً أخرى، نزل السائق، فتح الباب، ثم قال: - تقاسموا هذين الرغيفين، والزجاجتين.
قال أحدُ الرجال: لا نريد دواءً، نريد ماءً.. مااااااء
-"اصعدوا.. اصعدوا.. قبل أن تقصفنا الطائرات..."
بدأنا بالصعود، فيما أنا ما زلتُ أجلسُ على فرشةٍ إسفنجيّةٍ في غرفة هادئة ودافئة، وأمامي مشهدٌ لأسرى يصعدون حافلةً غريبة.