عبقريةُ المكان في لوحاتِ الفنان التشكيليّ أحمد الخطيب.

مجدي دعيبس
روائي أردني
احترتُ في البداية بعنوان المقال؛ هل هي شاعريّة المكان أم عبقريته، فعدتُ إلى لوحاته وتمعنتُ فيها وأطلت النظر إليها بتفاصيلها وألوانها وزواياها، عندها أدركتُ أنّ هناك شيئًا أكبر من الشعر وغنائيته، أدركتُ أنّ هذا المكانَ كائنٌ من لحم ودم ينبض بالموسيقى والعشق والحكايات وصوت الربابة والميجنا، أدركتُ أنّ هذا المكانَ كائنٌ خرافيّ وعبقريّ لا ينفكّ يشدّنا إلى ذراته فنلتصق بها وتلتصق بنا فنصبح منه ويصبح منّا. لا أريد أن أتشطّط في رأيي هذا، لكنّني سأقولها صراحةً بلا مواربة: الفنُّ الذي لا يقدّس المكان لا يعوّل عليه. أيّ حبّ أعظم من حب الأم لابنها؟! وأيّ تعلّق أشرف من تعلّق الإنسان بمكانه؟! وهذا من الفطرة السّليمة التي نُجبل عليها، ولا يد لنا فيها.


ينوّع الفنان التشكيلي "أحمد الخطيب" في تقنياته وأدواته، لكنّ الهاجس الذي يسيطر عليه واضحٌ وجليّ. بعض اللوحات مائيّة وأخرى زيتيّة وأخرى إكليريك بحسب الموضوع ودرجة التفاصيل التي يودّ الفنان إبرازها. عندما انتبهتُ أنّ هناك ثلاث لوحات تمثّل جسر الخط الحجازي فوق نهر اليرموك بزوايا مختلفة عرفتُ أنّني وضعت يدي على أحد مفاتيح شخصيّة الفنّان. هذا الهاجس الملحّ الذي يهتف برأسه دون توقف يدفعه لرسم المنظر عينه مرتين وثلاثًا، لأنَّه يصل إلى قناعة راسخة في وجدانه أنّ المنظر أجمل من اختصاره في لوحة واحدة، تمامًا مثل الشاعر المتيّم الذي ينظم في محبوبته قصائد كثيرة، متغنيًا بحسنها وجمالها ويشعر أنّه ما زال مقصّرًا. هذا الجسر المعروف باسم جسر اليرموك أو المجامع؛ كان يصل إلى حيفا قبل عام 1946 حيث قامت منظمة البالماخ الصهيونيّة بتفجيره لحرمان الفلسطينيين من الدعم العربي، لكن الفنان يرفض فكرة تدمير هذا الجسر ويعيد بناءه وترميمه كما هو واضحٌ في اللوحات. في هذه الجزئيّة رمزية تعاند الواقع وتسخر من الجغرافية المفروضة على الشعوب، فكرٌ مقاوم باللون واللوحة وبناء ثقافة الجسور القائمة بين الناس.


تبرز في بعض اللوحات ملامح من بيئة الفنان التي يعرفها جيّدًا كما في لوحة الراعي وأغنامه وهي لوحة مائيّة حيث يظهر جالسًا في التلال على حجر كبير بشماغه الأبيض وجاكيته الأسود وملامحه التي لوّحتها الشمس ناظرًا إلى البعيد متأمّلًا أو متحسرًا على أمر مضى، لكنّ الأمل ما زال يحدوه بحدوث شيء ما، فتنقطع أسباب الحسرة وتزول دواعي الألم.
في لوحة الغربال امرأةٌ ريفيّة تضع عصبة على رأسها وتغربل القمح، ولعلَّ هذه اللوحة تمثّل جداتنا اللواتي انطبعت صورتهن في مخيلتنا على هذا النحو، القمح والغربال و"الشرش" الأسود و"الشمبر" و"العرجة" والدعاء لنا بطول العمر. تتعمق صورة الجدات في لوحة الغليون الطويل الذي كان من المناظر المألوفة برائحة "التتن" القوية وصعوبة المحافظة على اشتعاله لفترة طويلة، ثم تأتي إجراءات التنظيف ورفعه على حافة الشباك الداخليّة. في بورتريه البدوي تأكيد على شخصية البدوي التقليديّة من نباهة وذكاء، ويظهر هذا جليًّا في نظراته وعينيه. كما أنّ اللوحة لم تغفل هيئة البدوي المعروفة وعلى الأخص الجدائل التي تنسدل على كتفيه وصدره.
تتصدى بعض اللوحات لإزاحة النقاب عن طبيعة المنطقة الخلّابة من تلال ووديان ومنحدرات وطرق وشوكيّات تنبت هناك في "كفرسوم"، وباقي القرى المحيطة بها. لم يغفل الفنان أيضًا عادات الأفراح في القرى والبوادي مثل رقص "الدحيّة" التي لها تقاليد راسخة في اللباس والحركات والانتظام في إيقاع صارم.
وقد حظيت "كفرسوم" بنصيب الأسد من اللوحات التي قدّمت تصوّرًا لبيوتها وسهولها وزيتونها وباقي تفاصيلها. التقاطات غنيّة تشكّل في مجموعها توثيقًا بصريًّا لعشرات السنين من عمر المكان وتاريخه. في لوحة بيوت كفرسوم القديمة آثر الفنّان أن ينقل إلينا مشهد الغروب بإحساسه ورؤيته. تبدو القرية في لقطة بعيدة وتشتمل على تفصيلات كثيرة: منظر اختفاء الشمس خلف الأفق الغربي بينما لون الغروب ما زال متشبّثًا بالفضاء، أشجار الزيتون المزروعة بنظام دقيق في محيط القرية، شجرتا سرو باسقتان، دور ريفيّة من الحجر بسقوف داكنة، "سناسل" متهدّمة تحدّد حوش كل دار. لوحة تلخّص هيئة وشخصيّة القرية منذ كانت إلى اليوم. لوحة تستحق أن تكون من ضمن سرديّة بصرية تعرّف بالشخصية الأردنيّة. وهي من أجمل اللوحات التي توقفت عندها طويلًا.


لوحة "أم قيس" تركّز على النظام المعماري السائد؛ وهو أن تكون غرف الدار متجاورة على خط واحد وأمامها ساحة واسعة، ولها درج يصل إلى الطابق الثاني، وهناك أيضًا غرفة المونة أو الخزين التي تظهر تحت الدرج. لوحة مائية تقدّم ألوانها لمسة واقعية بنباتاتها الخضراء وحجاراتها الحورانيّة السوداء المشغولة بعناية، فتكاد تمدّ يدك لفتح غرفة الخزين أو اقتلاع بعض الأعشاب الضارة في السّاحة الخارجيّة.
وفي الختام؛ نقول إنّ تجربة التشكيلي أحمد الخطيب على اتصال وثيق بالبيئة، وتوثّق اللحظة الشعورية الطّاغية التي تدفع الفنان لاقتراف المزيد من البوح البصري المجبول بثقافة مترامية وإحساس مرهف. قد يأتي يوم- لا سمح الله- وتزيل الجرّافات كلَّ هذا الإرث الجميل والغني بحجّة الضغط الاقتصادي وتيسير التخطيط وتطوير البنية التحتيّة. أقول: هذه جرائم بحق التاريخ والثقافة ومشاعر الناس وأحلامهم، توقّفوا قبل فوات الأوان!
الفنانُ التشكيليُّ "أحمد الخطيب" حاصلٌ على الدرجة الجامعيّة الأولى في الفلسفة في جامعة دمشق. أقام معارض فنيّة عديدة، وشارك في معارض جماعية كان آخرها في ساحة الكنيسة في مدينة بطرسبورغ بمشاركة فنّانين روس، وله معرض بمناسبة إربد عاصمة الثقافة العربيّة.