عزّ الدين المناصرة.. استحضار شاعر "عنب الخليل وكنعانياذا"

عمر شبانة
شاعر أردني

مفاجئًا وصادمًا كان رحيلُ الشاعر الفلسطينيّ عزّ الدين المناصرة (1946-2021)، على أثر إصابته بالفيروس اللعين، الكورونا، خصوصًا بعد تناوله جرعةً أو جرعتين ضدّ الفيروس، ولكنّه كان يُعاني مشاكل القلب والتنفُّس، الأمر الذي سهّلَ الوصول إلى خاتمته خلالَ أيّام قليلة في المشفى. ورغم معاناته وآلامه، كان شاعرنا ضيفًا دائمًا في مكتب دار "العائدون للنشر.."، حيث نشرنا له مختارات من شعره اختارَها هو بنفسه، وصدرت طبعةٌ أولى منها، تحت عنوان "من عنب الخليل إلى كنعانياذا"، وهما عنوانان لديوانيه الأوّل والأخير، ثم صدرت طبعة ثانية بعنوان "مختارات عزّ الدين المناصرة"، وكان سعيدًا بمختاراته التي تسلّمها قبل رحيله بأيّام.
لم يكُن مرور عزّ الدين عابرًا أبدًا.. فقد تبقّى منه الكثير، قصائد وحكايات ومواقف لا تُنسى. لقد مرّ في حياتنا الثقافيّة والشعريّة مرورَ الكبار، أصحاب الرسالة العميقة المؤثّرة. وحين نستحضرُه اليوم، فإنّما نستعيد قامةً لا مثيل لها. نستعيد ايّامه الأخيرةَ معنا قبل رحيله. نستعيد الخليل وعمّان و"قمر جرش كان حزينًا"، و "الخروج من البحر الميّت"، و"بالأخضر كفّنّاه"، والجزائر و"الحوزيّة"، بيروت ومخيّماتها، واليمن ودمشق.. والنهاية في عمّان، في جامعة فيلادلفيا. شاعر وناقد لا مثيل له في الثقافة الفلسطينيّة، ولا العربية، وقد كان لاذعًا في نقده وانتقاداته، ففي حين كان يواجه من يسمّيه "القائدَ العامّ"، كانت له خلافاته مع درويش الذي أطلقوا عليه لقب "الشاعر العامّ". وكانت هذه إحدى مشكلات المناصرة.
وظلّ شاعرًا وشامخًا
كنّا معه قبل أيّامٍ من رحيله. وكان لا يزال قادرًا على الوقوف بقدمَين شامختَين، نرجوه أن يجلس ويتكلّم، لكنّه يصرّ على الوقوف وهو يروي لنا حكايات بيروت. كان مناضِلًا ومُعلِّمًا في المدارس ومراكز النضال الفلسطينيّ.
وفي مختاراته التي ودّع بها الحياة، وودّعناهُ بها، تتجمّع عوالم الشاعر والإنسان المتعدّد الاهتمامات والمشاغل، يلتقي الشاعر ابن قرى الخليل، بمن طاف البُلدان، وعايَشَ الثقافات، ودرس النقد المقارَن أدبًا وفكرًا، فنال العالميّةَ بجدارة واستحقاق، ونال ما نال بلا تزلّف ولا استجداء من زعيم، فكان نسيج ذاته، وكان لفلسطين من أشدّ المكافحين، وظلّ ملتحمًا بجذوره الكنعانية الأعمق.
يبدأ شاعرنا "مختاراته" بقصيدة "نصائح"، وفيها واحدةٌ من أبرز سِمات شعره، سمةٌ تتعلق بالبساطة، والارتباط بالبيئة الشعبيّة، حيث يقول:
"حين تكونُ الجُملةُ مَخْفِيَّةْ
بدهاليزِ الفتنةِ، أوْ ﻓﻲ قلبِ الريحْ
وتكونُ الجملةُ ضَوءًا يجهلُ زيتَ القنديلْ
لا تشرحْ أسرارَ المنديلْ
بل يكفي أن تتركَ شيئًا للقالِ وللقيلْ
يكفي أن تتركَ للقارئِ فَسْحةَ صمتٍ بيضاءْ
من أجلِ التأويلْ."
وفي واحد من اشتعالاته الكنعانية، يكتب "يتوهَّجُ كنعان"، فيكشف لنا عن جانب من الوطن، عن علاقة العشق العميق بينهما، ولكن عن الغياب أيضًا، وعن الغربة، وقلّة التواصل، لشدّة ارتباطه بالوطن، وشدّة ابتعاده عنه:
"بطيءٌ بريدكَ يا وطني، والرسائلُ لا تصلُ العاشقينْ
فَجهِّز جوادكَ للرعيِ في مرْجِ ذاكرةِ الغيمِ قبلَ الحنينْ".
ويتوهّج المناصرة في قصيدته هذه، تشتعل الصّورةُ الشعريّة لديه، فنراه وقد طار في رقصة مع البحر، وهو ابنُ الجبل، جبل الخليل، لكنّه الخيالُ ممزوجًا بذاكرة المدن والبحار التي حلّ فيها:
"أحاولُ أن أمسكَ البحرَ من خصرهِ القرمزيِّ،
أراهُ كذلكَ،
لكنَّه يشتهي أن يكونَ ربيعًا،
لكي يُعجبَ الآخرينْ."

ذاكرة قد تعود به لقريته والمروج، فتجعله يُنشد حينًا:
"فَجهِّزْ جوادكَ للرعي ﻓﻲ مرجِ ذاكرةِ الغيمِ..."
ثم ينتقل إلى عوالم غريبة عن قريته وحقوله، حيث البحر وعوالمه:
"النوارسُ تزعقُ مثلَ رضيعٍ،
سَيُعلنُ رغبته في حليبِ الصباحْ"
وفي عالم المناصرة، نحن حيال عوالم شديدة التميّز والاختلاف، أساسه الرّيف والقرية بما تنطوي عليه من شجر ومياه، وهو ما لا نجده لدى غيره من شعراء، فنحن معه لا نقرأ عن الحقل والبستان، بل نقرأ عالمهما بشغف. ونراهما في حروفه وكلماته وتصويراته، نرى تمسّكه بالخليل أوّلًا، ويناديها كما ينادي الولد أمّه:
"وحتى أغيظَ الأحبّة، صحتُ بأعلى حنيني
حنانيكِ يا حارةً في الخليلْ..."
وعدا ذلك فهو ابن القرية وما تنتج حقولها من ثمار، هو شقيق التين وجذورها، يعرف كيف يلتقط من هذا العالم جوهره، ويصوغه في جملته الشعريّة:
"أرى التينةَ المقدسيَّةَ:
بلَّورُ سيقانها يصلُ المتوسّطَ،
أما الشُروش، فأعصابُ جدّي
ويهربُ منّي الكلامْ
إذا ما اصطدمتُ بتينةِ قلبي
عليها السلامْ.
هنالكَ أيضًا ستبقى الحجارةُ شاهدةً،
أنّها أصبحتْ مطعمًا للبلاغةِ:
مقهىً على الأبيضِ المتوسّطِ، دونَ نساءٍ
ودون سماءٍ، ودون ارتجافٍ،
ودونَ نراجيلَ أو زَنْجَبيل يُثير بقايا الحنينْ

شاعر الذكريات الحميمة
كان عزّ الدين على قدر من الحميميّة والعفويّة في حضوره. فهو شاعرٌ ريفيّ بامتياز، ومن أكثر ما يميّز شاعر الريف، ذكرياته، بل طريقته في سرد ما يتذكّر، وهي ميزة في شعره أيضًا، فضلًا عن شخصيّته، ولعلّ هذا ما يقوله في إحدى قصائده عن أبيه:
"كان وجه أبي
في مقالعِ مرمرِ قَرْيتنا، تَعِبًا،
حين غنّى مواويلَ ذاكَ المغنّي العراقيِّ،
قيل اسمُهُ... (بوعزيزْ)
وقالَ لنا أحدُ الأصدقاءْ:
إذا لم يكُنْ بادئًا، اسمهُ... هكذا
رسمَ الحاءَ فوقَ الترابْ
سأجْدَعُ أنفي وأرمي به للذُبابْ".
ومن أجواء قريته، من حاكورتها، ندخل عالم المواجهة مع العدوّ، في صور ورموز هي ذات دلالات تشير مباشرة إلى القاتل والضحيّة في مشهد المواجهة:
"أحاولُ: دارٌ وحاكورةٌ وسماءْ
وسمعتُ الجنودَ يقولون:
أين الذي قُدَّ من جَبَلٍ
واستعذتُ بزيتونةٍ
وركضتُ، ركضتُ... وكانتْ
ورائي
خنازيرُ قاتلةٌ، والذئابْ".
توظيف الموروث
معروف عن شاعرنا توظيفه اللهجة المحكية والتراث الشعبي في شعره، وقد كتب الكثير من الأغاني، ولعلّ ذلك يظهر في صور من قصائده، ويكفي أن نقتطف هذا المقطع منه، حيث لا يكتفي بالاستناد إلى هذا الموروث، بل يحاول تفسيره والكشف عن مصادره:
"منذ ثلاثين عامًا يحاصرني الحلْمُ: دارٌ وحاكورةٌ،
وضجيجٌ، عَتابا، تُعاتبني الدارُ،
والميجنا، سأصيح: أيا من جنَى
وطويلٌ ظريفٌ، تَمُرُّ بقامتها السرمديةِ،
حيثُ ضفائرها كانسكابِ الشعاعِ على الماءِ،
عاصفةٌ في الصباحِ، صباحِ كرومِ اليقينْ."
وكما يحضر الموروث في أشكاله وتنويعاته، تحضر الحوادث في زمن المقاومة والحصار والاجتياح، لكنَّها تأتي في صور ذات علاقة بالشاعر وعوالمه، والعالم من حوله، بشخوصه وأحواله، فنقرأ هذه الصور:
"يَجيئُكِ كنعانُ ملتحيًا بالثلوجْ
يطيرُ اليمامُ على كتفيهِ،
على فَرَسٍ أشهب، ليلةَ الاجتياحِ،
وَسُبْحَتُهُ صَدَفٌ تلحميٌّ... وجُبَّتُه من حريرْ
قُبيلَ صلاةِ رفيفِ الطيورِ على ساكناتِ المروجْ".
وربّما كان من بين ما يميّز هذا الشاعر القرويّ، صراحة غير محدودة، وبوحٌ بريء بالمشاعر والأحاسيس، تجعله في كثير من الأحيان يبدو صداميًّا، وهو كذلك كما عرفناه عن قرب، ففي قصيدة له بعنوان "أكثرُ ما يُعجبني فيك!!"، تتكشّف هذه السّمة على نحو يمكن أن نقرأه في أبياته مع شيء من التلميح أوّلًا:
"يا أيُّها الولد الهُمامْ
الغيمةُ البيضاءُ قد تأتي إليكَ
من البحار الزُرْقِ، متعبةَ القَوامْ
أو قد تجيء من الكلامْ
اشربْ حليبَكَ كي تنامْ
فالريحُ عاصفةٌ تُهمهمُ، والبُروقْ
قد تُشعلُ الغاباتِ… يحترقُ الحمامْ"
لكنّه لا يلبث أن يعلن عمّا يعجبه في هذا الشخص الذي يقابله، فيقول بصريح العبارة:
"أكثر ما يعجبني فيكْ:
أنَّكَ لا تكذبُ،
إلاّ علنًا فوق رؤوس الأشهادْ.
أكثر ما يعجبني فيكْ
أنك لا تسرقُ أموالَ الصَدَقاتْ
إلاّ بعد صهيلِ الليلِ على العَتَباتْ.
أكثر ما يعجبني فيكْ
أنك تشفطُ في المزرعة الخضراءِ، كؤوسَ الصالاتْ
كي تأتينا منتوفَ الريشِ، لطيفًا وابنَ لطيفْ
كي... عاملةَ التنظيفْ".
ليست هذه سوى ملامح بسيطة من شخصيّة شاعرنا الراحل وتجربته، لكنّ مختاراته الشعرية "الأخيرة" تقدّم صورة أوضح عن تجربته الشعرية الممتدة منذ عقد الستينيات حتّى رحيله قبل عامين.

= مختارات الشاعر المناصرة، دار العائدون للنشر، عمّان، 2021