رحلة (ملياجروس) إلى أثينا!!

مفلح العدوان
كاتب ومسرحي؛ رئيس مختبر السرديات الأردني
• أرواح الشاعر
كأنّني أعيشُ بأربعة أرواح، وأتجدّدُ.
هكذا أحسّني، أشعرُ بتلك الدماء المختلطة في عروقي، فتنتابني الحيرة مما أنا فيه، وكأنَّ مولدي في (جدارا) هو إعلان النسخة الأخيرة من هذه الحيوات، لأكون (ملياجروس بن يوكراتيس) اليوناني الأصل، وأمّي كانت حين تزوجها أبي ابنة أحد سكان (جدارا)، كما أن اسم مدينتي (جدارا) كنت طيلة حياتي التي عشت أوثقه في أشعاري باسم (أثيس).
مرةً تتحرك في ذاتي أرواح اليونان القدماء، فأكون (ملياجروس بن أونيسيوس)، وأعيش في مدينة (كليرون) في إحدى جزر اليونان، كان أبي ملكًا للمدينة، لكنَّه في لحظة تهور منه أغضب (أرتيمس) إلهة الصيد والبرية، حامية الأطفال، ربة الإنجاب والخصوبة والعذرية، ابنة الإله الأكبر (زيوس)، فانتقمت منه بأن أرسلت إليه خنزيرًا بريًّا ليخرّب مدينته (كليرون)، فواجَهْتُه ومعي أبطال المدينة، وقضينا على الخنزير.
هذه الروح المقاتلة تسكنني، فتحيلني إلى مغامر جَسور، في بعض الأحيان. ولكن ربما روحي الثانية تسهم أيضًا في جرأتي ومغامراتي، حين كنت قائدًا مقدونيًّا، (ملياجروس) المساعد للإسكندر المقدوني. غير أن روحي الثالثة غلبت تلك الأرواح المغامرة، حين كنت في زمن آخر واحدًا من النحاتين الرسامين.
أنا الآن تجليات كل تلك الأرواح بنشوة وقلب الشاعر (ملياجروس)، ابن مدينة (جدارا)، التي فيها ولدت ونشأت.
جلسة الشعراء غرب (جدارا)، التي التقينا فيها بعد طول ممات، أثارت فيّ الشوق لأمكنة طفولتي وصباي، فاستأذنت منهم لأتبع دروب طفولتي وصباي فيها.
ها أنا وحدي أسير في طرقات المدينة التي تغيرت عليّ، وقد كنت أسير فيها ذات زمن متتبعًا خطاي لأَدرس الفلسفة والبلاغة واللغة اليونانية.
كبرتُ هنا، قلبي كان ينبض بالحياة والشعر، وكنت أتقصّد أن أكون وحيدًا لأقف على إطلالة أسرح فيها باتّجاه البحيرة أمامي، بحيرة طبريا، وأتعداها بخيالي إلى أثينا التي حدّثني عنها وعن فلاسفتها وشعرائها كثيرا أساتذتي، فكانت أولى قصائدي كتبتها عند تلك الإطلالة، وكان كتابي الأول في الشعر قبل أن أبلغ العشرين، فيه محاورات نثرية وشعرية، وأشهرته باسم (ربات الجمال).
كنت أتساءلُ: ماذا يوجد وراء هذا الفضاء الذي يتعدى المدينة؟
وكنت أمضي وقتي بين منزل أبي وأساتذتي، وأتوه في عيون صبايا (جدارا) التي أحبُّ، وأعشق قوامهن الجميل، هن خليط بين أجناس ودماء كثيرة، تمازجت ليكون هذا السحر المسكوب؛ نساء (جدارا) التي أعشقُ.
ولكنَّني منذور لغير سجن، وأريد أن أتحرّر، وأستزيد فلسفة وعلمًا وشعرًا ومعرفة.
• الخروج إلى (صور).
تذكر (ملياجروس) هواجسه التي جعلته يصمّم على الرحيل، وكانت جلسته مع أبيه (يوكراتيس) حاسمةً في ذلك الوقت. كم يحبُّ أباه الذي لم يبخل عليه بكلِّ ما يطلبه، بالنصيحة والدعم؛ ليحقّق ما يريد. غير أنَّ نقطة ضعفه كانت أمّه، ابنة (جدارا) التي لم تخرج من هذه المدينة طيلة عمرها، ولذا فقد حاولت معه كثيرًا أن يبقى ويكون شاعر (جدارا) وسيّد شبابها. بكت، فتفتت قلبه شفقة عليها وحبًا لها، حاول تهدئتها بقوله إنَّه لن يكون بعيدًا عنها، فمدينة (صُور) ليست بالمكان القصيّ، وما هي إلا مسافة خمسة وعشرين ميلًا، مسيرة ساعات على فرسه، وسيقوم بزيارتها كلما أُتيحت له الفرصة.
كان يقول هذا، وهو يعلم في قرارة نفسه أنَّ ترحاله لن يتوقف عند (صور)، فهناك عالمٌ كبيرٌ محتجبٌ خلف (صور)، ولا بدَّ له من ولوج آفاقه. عدة مرات حاولت أمّه معه، لكنّه لم يتزحزح عن قراره.
ليست أمّه وحدها التي بكت بعد إشهار قراره بالرحيل، بل حبيبته التي وعدها أن يكون لها وحدها، تلك الفاتنة التي كتب فيها قصائد بدايات حبّه وتوقه في (جدارا)، بكت كثيرًا لتثنيه عن مغادرته إلى (صور) بعيدًا عنها، مسح دموعها بيده، واعداً إيّاها أن يأتي لزيارتها، ولن يطيل الغياب. كان قد اتّخذ القرار بالتخلي عن المكان ومن فيه.
تذكّر أنّه كتب قبل رحيله:
"أيتها الكواكب
وأنت أيّها القمرُ الجميل
الذي يضيء ليل العاشقين
وأنت أيّها الليل
وأنت أيّتها الأداة الصغيرة
رفيقة ملذاتنا العربيدة،
قولوا لي جميعًا:
هل سأجدُ الحبيبة تنتظرني...
تشكوني بحرقة إلى مصباحها؟
أو سيكون إلى جانبها رجل آخر؟
سأعلق على باب بيتها
هذه الأكاليل من الزهور
التي أذبلتها دموعي
لكي تشفع لي لديها".
كتب كلماته هذه وهو يدري أنَّ حبيبته التي سيفارقها في (جدارا) لن تشفع له هذا الغياب، ستنسى بعد أشهر، وستكون مع أحد شباب (جدارا) عاشقة ومحبوبة، هكذا هي مدينته، فرجالها ونساؤها لا يحبون فراغ القلب، ودائمًا لا بدَّ من أن يكون منشغلاً بحبيب محب عاشق قريب لا يغيب. وهو سيغيب، ولو عاد بعد طول ارتحال، لن يجد الحبيبة تنتظره، ستكون قد تزوجت من غيره، وهو سيكون عشق نساء أخريات غيرها.
كان يتابع مسيره بين خرائب مدينته التي كانت عامرة بالحياة حين غادرها صبيحة يوم قبل مئات السنين، يحاول أن يرسم صورة حبيبته تلك في مخياله، فلم يستطع، ولم يتذكر وجهها، حاول أن يستحضر اسمها، لكنَّه عجز عن ذلك، وتاه اسمها بين عشرات الأسماء لنساء عرفهن، وكتبهن شعرًا، خلال إقامته في (صور)، وفي أثينا التي كانت مستقره الأخير.
قادته قدماه شمال (جدارا)، كأنَّه يستعيد لحظة خروجه منها، كان يعرف أنَّه لن يجد مبتغاه وطموحه في هذه المدينة التي ولد فيها، رغم أنَّها كانت تسمّى أثينا الشرق، هو يريد أكثر، والمجد الذي يتوق إليه يتعدى حدود المكان هنا.
آنذاك جمع أوراقه، ومتاعه، وودع الأهل والأصدقاء وحبيبته، وسار شمالًا كما يفعل الآن، شمالًا، ولكن ليس إلى حد السور لجدارا، بل تعدى البوابة، وعيناه باتجاه (تيروس)، حاضرة الصناعة والبحر والعلم، التي صارت تعرف بمدينة (صور) الفينيقية، هناك أعظم علماء الفلسفة، هناك الماء والحضارة والنساء والعلم، كل هذا موجود بوفرة فيها.
وصل الى حدّ (جدارا) الشمالي، وهو يتذكّر رحلته إلى (صور)، ترى لو عادت به الأيام هل يعيد تلك الرحلة؟! تساءل وهو يعود بعجلة الزمن حتى تلك المرحلة من شبابه. ابتسم. ردّد: حتى لو عدتُ ألفَ مرة، سأرتحلُ إلى (صور)، وسألتحقُ بمدارس الفلاسفة المشّائين الرواقيين فيها، وأقضي عنفوان عمري، وزهرة شبابي، عابثًا، لاهثًا وراء المسرات والمتعة والتسلية. الحياة لا تعود مرتين، الحياة تُعاش مرةً واحدة، وقد عشتها بكلِّ تجليات البهجة والفلسفة واللذة والشعر.
• مناكفة الإله أيروس
سرح بخياله إلى (صور)، عاد بذاكرته إلى تلك الأيام التي كتب فيها أجمل أشعاره في الحب والنسيب. انتشى حين عادت إليه ملامحه آنذاك، وعشيقاته يبثّهن بأسمائهن الصريحة في كلِّ قصائده التي تغنّى فيها بالحبِّ والنشوة، ولم يقف حينها عند غزله بالنساء اللاتي أحبهن جميعًا، كأنَّه يريد أن يستحوذ على كل نساء (صور)، بل تعدى في عبثه وشعره ليصل إلى حد مناكفته لإله الحبّ (أيروس).
هبّت نسمة من بحيرة طبريا أنعشته في وقفة التذكار هذه لأيام صبابته في (صور). شعر كأنَّ هذه النسمة مبعوثة من الإلهة (تايكي) باتجاهه تناجيه محبةً، ولكنَّها تريد أن تحذّره من التعدي على حرمة الآلهة، حتى لو مرّت مئات السنين بينه وبين تقلبات مزاجه في( صور).
أغمض عينيه بنشوة وهو يستعيد صورة (أيروس) الذي كانت تماثيله منتشرة في كل أرجاء (صور)، على هيئة فتى جميل يحمل سوطًا، وأحيانًا شبكة، ويلبس صندلًا، وفي تماثيل أخرى هو حامل القوس والنشاب. أي تناقض هذا بين براءة الطفولة، وقوّة الحب والخصب، ليجتمعا في (أيروس)!!
ومض في ذهنه اجتهادُ بعض الفنانين في رسوماتهم ومنحوتاتهم بأن أضافوا لأيروس جناحين، وبعد حين من الزمن صاروا يخلطون اسمه بين (أيروس) وبين (كيوبيد).
همس لروحه مندهشًا: الآلهة تتلاعب فيها خيالات الفنانين والنحاتين. هو أيضًا عرف هذه اللعبة، واستثمرها في شعره، فصار يكتب قصائده في مناكفة هذا الإله الذي يحبّه، لأنّه يقف دائمًا بصف الحب.
ما الذي نرجوه من الحياة؟
لم لا نحياها كما هي، دون فلسفة فائضة عن المتعة أو تحميلها أكثر من أنّنا عابرون فيها، ولا بدَّ من امتلاك كل ما يُتاح لنا من حبٍّ وحياة ونشوة!
• العشيقات الفاتنات
كان المساء قد داهم (ملياجروس) وهو ما يزال واقفًا عند هذه الإطلالة الشمالية لجدارا، والقمر يتجلى رويدًا رويدًا، وهو يتبعه بنظره.
أحسَّ مع الليل كأنَّ حزنًا يعتصره، تذكر مساءاته مع حبيباته في جزيرة (كوس) اليونانية، كانت علاقاته كثيرة بنساء فاتنات ساحرات باهرات الجمال مثيرات، أمطر في عشقهن الغزير الكثير من القصائد، شعر بشوق إلى ثلاث عشيقات كن الأقرب إليه، غير أنه لم يتزوج أيًا منهن.
كان لحبيبته (زينوفيلا) العديد من العشاق، بعد أن يئست من انتظاره ليكون زوجًا لها، وهو لم يتحملها. عشيقته الثانية كانت (ديمو)، التي اكتشف خيانتها أيضًا. غير أنَّ عشقه الذي أرّقه كثيرًا، هو ما كان مع حبيبته (هيليودورا)، التي لم يمهلها إله الموت كثيرًا، فتوفيت وهي في زهرة الشباب، فبكيها، واحترق قلبه عليها.
تمتم لروحه باسمها: (هيليودورا)، ياه ما أجملها وما أقربها، عذبة كانت، فائقة الجمال، فياضة المشاعر، دافئة الحضور. كنت أناجي الليل عشقًا لها، وأسكر بكل مفاتنها، وأكتب القصيدة تلو القصيدة لبهي مقامها:
"اسكُب... في صحة (هيليودورا)
(هيليودورا) سيدة الإغواء
وفي صحة (هيليودورا)
سيدة العشق
وكذلك في صحة سيدة البهاء
ذات الكلام العذب
ولأنَّي لا أعرف ملهمة لي
سوى (هيليودورا)
فإنَّني أشرب اسمها الحلو
ضمن هذا... الصافي".
مساءات جدارا ليست كمساءات اليونان؛ هناك البحر، والجزر، ومجمع الآلهة، والعشيقات الفاتنات، هناك فتنة أخرى لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن.
الليل موحش بلا أضواء أثينا، بعيدًا عن بلاد اليونان.
تساءل (ملياجروس): لماذا أُعيد استحضار قصيدتي هذه الآن، وقد غابت معشوقتي (هيليودورا) منذ زمن بعيد؟ وذاك الخصم المتخيّل بعد أن هجرتني الحبيبة، لماذا دعوتُ عليه أن يكون صورة ثانية من (إنديميون) الذي أحبته إلهة القمر؟
ها أنا أغار من هذا العشيق الآن بعد أن استلبتني رؤية قمر (جدارا) الذي طغى بنوره على مرآة السماء؟
لعل إلهة القمر (سيليني)، أعادت سيرتها، وأسطورتها، عليّ أنا، لا على عدوّي المتخيل القابع تحت لحاف (هيليودورا)، فأكون بعد هذا الغياب أنا الراعي فائق الجمال الذي كنت أعيش على جبل (لاتموس)، وكانت تزورني الإلهة كل ليلة لتقبلني وأنا نائم، ولم تتحمل فكرة موتي، فأبقتني حيًّا، ومكَثْتُ نائمًا إلى الأبد.
هل أنا الآن أعودُ من نومي الخالد، في هذه الصحوة المؤقتة، ساعات معدودات ثم أرجع بعدها إلى أحلامي، وإلى قبلات إلهة القمر كل ليلة.
تلمّس خده، وتابع شعاع القمر...
سار مع الشعاع أبعد من حدود مدينة (صور) التي ألّف وهو فيها كتبًا في الفلسفة، وكتب هناك كتابه الذي أسماه (قصائد حُب الشباب)، سار مع التماعة القمر متتبعًا أثر خروجه من (صور) إلى مدينة أثينا، مركز الفنون والعلوم والفلسفة، أمضى فيها عدة أعوام ثم ألحّ عليه نداء الترحال واكتشاف آفاق أخرى، فمضى إلى مدينة (إسبرطة)، بقراها الخمس، وقصص جيشها الذي لا يُقهر، ثم تابع مسيره إلى (طيبة)، مدينة الأبجدية والبوابات السبع. لم يبق كثيرًا في تلك المدن، رغم مروره أيضًا على (ميليتوس)، و(سرقوسة) مدينة الإلهة (ارتيمس)، و(أولمبيا) حيث الحج إلى معبد كبير الآلهة (زيوس)، وبعدها مضى إلى معبد (ديونيسويس) في مدينة (بيرغامون)، لكن قراره الأهم كان في إقامته في جزيرة (أبيقراط)، جزيرة (كوس).
غابت عنه أيام شبابه، وهو لم يتزوج، ولا أبناء له، رغم أنه ثري ميسور الحال، لم يحتج على أحد أبدًا، ولم يمدح، بل عاش حياته كما أراد، في جزيرة (كوس)، التي عشقها كما لم يعشق مكانًا مثلها. تذكر أنَّه في سنوات عمره في (كوس)، تراجع عن مناكفة الإله (أيروس) ابن (أفروديت) إلهة الحب، و(آريس) إله الحرب، لقد اتّخذ قراره بأن يهبَ نفسه خادمًا في محراب (أيروس).
• آخر الكلام.. الوصية
عادت عيناه عن تتبع شعاع القمر، عاد وفي قلبه غصةٌ، استعاد لحظة مناداته لصديقه النحات الفنان (أرابيوس)، كان قريبًا منه وهو في (كيوس)، وقبل أن يموت في الثمانين، أملى عليه وصيته لينقشها على لوحة حجريّة، لتوضع شاهدًا على قبره.
قال كلماته الأخيرة؛ اكتب يا (أرابيوس): "خففِ الوطء، أيَّها الصديق، إذ يرقد بين الموتى الطاهرين، شيخٌ غمره النومُ الأبدي الذي هو مآل البشرية، (ملياجروس بن يوكراتيس)، الذي أوقد الصلات بين (أيروس) و (ملهمات الملاحة والفتنة)، لقد بلغ مبلغ الرجال في (صور) ربيبة السماء، وأرض (جدارا) الطيبة، واحتضنته في شيخوخته (كيوس) الحبيبة –مهد الميرويين-، إن كنت أيها الصديق سوريًّا، أحييك تحية سوريّة، قل "سلام"، وإن كنت فينيقيًّا، أحييك تحية فينيقيّة، قل "أودوني"، وإن كنت يونانيًّا، أحييك تحية يونانيّة، قل "خايريه"، وتقبل مني التحية، وحيّني بمثل ما أحييك به".
كادت تسقط من عينيه دمعة وهو يهمّ بالعودة لتفقد دروب (جدارا) وأبنيتها، يدان التفتا حوله تحضنانه، كان قربه (أرابيوس) الجداري الذي كان تركه مع مجلس الشعراء على إطلالة البحيرة، كأنَّه كان يتبعه، أو أنَّه كان خائفًا عليه من الذاكرة التي اجتاحته من كل أنحاء (جدارا). شعر بقرب (أرابيوس) منه، كأنَّه يتذكره حين لحقه ذات زمن بعيد في رحلة ليتفقده في جزيرة (كوس)، لم يمكث كثيرًا عنده، كأنَّه كان يعلم أنَّ نهايته اقتربت، وقد شارف على الثمانين، كان (أرابيوس) ما زال شابا لمّاحًا لافتًا ذكيًّا، وشاعرًا وفنانًا ونحاتًا، عندما رآه آنذاك، قال سأكتب وصيتي بحضورك يا (أرابيوس)، وكتب الوصية عدة مرات.
احتضن (أرابيوس) بقلب أب، وبروح فنان. قال (ملياجروس): قبل أن نعود إلى مجلس الشعراء الذين ينتظروننا، ذكّرني بالنقش الأول الذي كتبته شاهدًا على قبري. ابتسم بحزن (أرابيوس)، كان يريد أن يقول له أطال الله في عمرك، لكنَّه تذكّر أنَّهما ميتان منذ مئات السنين، وما عودتهما هذه إلا جزءًا من حلم أو مخيال كاتب يريد تأليف قصة عنهما.
كأنَّ (أرابيوس) كان يتوقع هذا الطلب من (ملياجروس)، كأنَّه حفظه ليعيد سرد النقش الشاهد على مسمع الميت الذي يقف أمامه الآن.
قال (أرابيوس): هذا هو نقش شاهد قبرك أي (ملياجروس) العظيم:" إن جزيرة (صور) رأت شبابي، ولكن (جدارا) السوريّة، التي كانت معروفة باسم (آتيس) سابقًا هي مسقط رأسي، أنا (ملياجروس بن أوقراتيس) الذي شبّ مع ملهمات الشعر، ولعب في طفولته الأولى مع ملهمات الجمال (المينيبيات)، يجب ألا تعجب أيها الغريب من أصلي السوري، لأنَّ العالم بأسره هو موطن الإنسانية كافة، ولأنَّ هذا الجنس الفاني بكامله قد ولد من الفوضى العارمة، أنا إنسانٌ عجوزٌ عشت سنوات طويلة، وسجلت أفكاري على اللويحات التي تجدها أمام قبري، لأنَّه عندما يبلغ الإنسان الشيخوخة يصبح قريبًا من عالم العدم (هاديس)، ولكن هيّا، اذهب الآن فأنا عجوزٌ قد أصبحت ثرثارًا وقدّم لي التحية؛ لأنَّك في أحد الأيام ستثرثر بالكلام كأيّ عجوز آخر".