دورُ المسجد الأقصى في الحياة الثقافيّة والفكريّة في القدس في القرن الثامن عشر الميلادي.

د. إيهاب زاهر
أكاديمي وباحث أردني

حظي المسجدُ الأقصى في احتضانه لمختلف العلوم الشرعيّة وخاصّة علم الحديث، وقصده عددٌ كبيرٌ من العلماء الأعلام، من بينهم الأئمة الأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد، والشافعي، رحمهم الله، وبزغ من القدس علماء مبرزون في مختلف العلوم الإسلاميّة، من بينهم محمـد بن أحمد المقدسي البشاري مؤلف "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" وأبو المعالي وابن تميم المقدسيان، وبرزت أُسرٌ علميّة كاملة من القدس، أبرزها عائلة ابن قدامة المقدسي صاحب "المغني"، وقد نزحت واستقرت العائلة في مدينة دمشق بعد الاحتلال الصليبي للقدس، ومن العلماء الذين استقطبتهم المدينة الإمام "أبو حامد الغزالي"- رحمه الله- الذي اعتكف في المسجد الأقصى وقدم إلى المدرسة النصرية وألّف فيها – أو فوق مصلى باب الرحمة- كتابه الشهير "إحياء علوم الدين"، أو بعض أجزائه حسب المصادر المختلفة .
وبعد التحرير الصلاحيّ للمدينة، عاد المسجد الأقصى إلى سابق عهده وأهميته بعد انقطاع دام طيلة فترة الاحتلال الصليبيّ، وتولى جانبًا من النهضة العلميّة فيه كلٌّ من القاضي الفاضل، والقاضي بهاء الدین بن شدّاد، وشهدت القدس نهضة علمية مميزة، وتطوّر التعليم في الأقصى خاصّةً وفي القدس عامةً مع إنشاء العديد من المدارس الوقفية، في العهود اللاحقة الأيوبية والمملوكية، وارتفع عدد المدرّسین والطلبة والفقهاء والعلماء المشتغلين فيها، وأُجريت على هذه المدارس الأوقاف والعطايا من السلاطين والحكام، وتحوّلت باحات الأقصى وأروقته ومصاطبه إلى جامعة حافلة، تشهد عشرات الحلقات العلميّة في التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، وغيرها من العلوم المتداولة حينها. وفي عهد صلاح الدين الأيوبي كان في القدس أكثر من سبعين مدرسة، إضافة إلى عشرات الزوايا والخوانق. واستقطبت المدينة علماء من اختصاصات متنوعة، فقد أمّها رشيد الدِّين بن أبي الفضل بن علي الصُّوري، وهو من أشهر علماء الصيدلة المسلمين، ومنها انتقل إلى خدمة ملوك الأيوبيين في مصر
وقد قام عددٌ من العلماء برحلاتٍ إلى بيت المقدس وزاروا المسجد الأقصى وتحدثوا عن بعض شيوخه وخطبائه، ومن هؤلاء الشيخ عبد الغني النابلسي الذي قام برحلته إلى بيت المقدس في نهاية القرن السابع عشر الميلادي، وسمّاها "الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية" والشيخ مصطفى أسعد اللقيمي، الذي قام برحلته للقدس سنة 1143هـ/ 1730م، حيث أسمى رحلته " موانح الأنس برحلتي لوادي القدس".
ويُعدُّ الشيخ عبد المعطي الخليلي من أبرز المدرّسين في المسجد الأقصى، حيث جاور في المسجد الأقصى، ودرَّس فيه، وقام بعمله بالإضافة إلى تدريسه بالحجرة النحوية، وقد عمل الشيخ عبد المعطي الخليلي في وظيفة قراءة الأجزاء الشريفة من كلام الله تعالى في كلِّ يومٍ بالصخرة المشرفة، وكان يتقاضى مقابل ذلك سلطانيين قطعة مصرية، عوضًا عن الشيخ مصطفى بن ماسية جلبي بحكم وفاته .

أمَّا المُدرّس الشيخ محمد بن الشيخ موسى أفندي الخالدي الذي تولّى وظيفة قراءة الجزء الشريف بالصخرة المشرفة بعد صلاة الصبح، بأجرٍ قدره كل يوم اثنا عشر "غرشاً" عثمانيًّا، وذلك سنة 1144هـ / 1731م، والمُدرّس عبد الباقي بن الشيخ علي الثوري ربع وظيفة قراءة الجزء الشريف بداخل المسجد الأقصى، بما لذلك من المعلوم في كل يوم عثماني، عوضًا عن المُدرّس الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ شمس الدين الثوري بحكم وفاته. وكان ذلك سنة 1144هـ / 1731م ونشط المدرسون الصوفيون، ومنهم مصطفى البكري الصديقي، الذي كان يلقي الدروس داخل المسجد الأقصى في خلوة يُقام فيها الذكر والتهليل .
ومن قرَّاء الحديث الشريف بالمسجد الأقصى المُدرّس الشيخ محمد بن السيد مصطفى النقيب بالقدس المتوفي سنة 1119هـ / 1707م، ، كما أنَّه برع في علم الفقه والتفسير، وبرز مدرسون برعوا في العلوم العلمية منها الفلكيّة مثل المُدرّس محب الدين ابن السيد عبد الصمد شيخ الحرم القدسي، وقد ذكر الحسيني أنَّه برع في علم الفلك، والتحريرات التركية. وممن تولَّى التدريس بالمسجد الأقصى الشيخ علي بن الشيخ محمد الخلفاوي، الذي درَّس في البداية في الجامع الأزهر ثم قدم للقدس سنة 1174هـ / 1760م وقرأ الدروس بالحرم الشريف للخاصة والعامة. ومنهم الشيخ محمد بن إبراهيم بن حافظ الدين الذي كان له معرفة بعلم الفلك، وكان شيخ القرّاء بالمسجد الأقصى، وتوفي سنة 1169هـ / 1748م، ثم خلفه ولده الشيخ محفوظ حيث تولَّى مشيخة القرَّاء، وتوفي سنة 1186هـ / 1772م، ومنهم الشيخ محمد بن محمد المغربي التافلاتي، قدم من المغرب الأقصى إلى القدس سنة 1172هـ/ 1758م، بعد أن زار مصر والحجاز واليمن وغيرها من البلدان، وقد تولَّى التدريس بالحرم القدسي الشريف، وله مؤلفات عديدة وشعر كثير، منه تخميس قصيدة كعب بن زهير.

وبرزت أسماء لمعت في الحياة الثقافية إلى جانب المدرسين ومنهم الخطباء مثل الشيخ محمد أفندي الجماعي، الذي تولّى الخطابة سنة 1124هـ / 1712م والسيد فيضي الله أفندي العلمي، الذي تصفه السجلات الشرعية "بعمدة الخطباء"، ومنهم السيد علي أفندي اللطفي وابن أخيه المرحوم السيد جار الله أفندي، حيث تولّا وظيفة نصف خطابة المسجد الأقصى بأجر قدره سبعة عثمانيات ونصف في كل يوم، وتولّا أيضًا وظيفة قراءة التفسير بالمسجد الأقصى، وذلك سنة 1146هـ / 1733م.
وممن تولى الخطابة أيضًا الشيخ أحمد بن صلاح الدين القدسي العلمي وقد ذكره النابلسي في رحلته "الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية" في حديثة عن أعيان القدس الذين التقى بهم، ومنهم الإمام الشيخ أحمد بن صلاح الدين العلمي، الإمام الحنفي بالصخرة المشرفة والخطيب بجامع الأقصى.

كما تولَّى الخطابة الشيخ علي بن الشيخ عبد الرحمن العفيفي الكناني، وهو من خطباء المسجد الأقصى المشهورين. ومنهم الشيخ محمد بن بدر الدين رئيس خطباء المسجد الأقصى، ذكره النابلسي على أنَّه من بين أعيان القدس الذين اجتمع بهم.
وبالإضافة إلى التدريس والخطابة فهناك بعض العلماء ممن تولّوا وظيفة الإمامة بالمسجد الأقصى الشريف منهم: الشيخ يونس أفندي شيخ الحرم سنة 1123هـ / 1711م، والشيخ محمد الخليلي إمام الشافعية بالمسجد الأقصى، والسيد داود أبو السعود الداودي إمام المسجد الأقصى وغيرهم كثير.
وقد أردنا من ذكر بعض أسماء من تولّى التدريس والخطابة والإمامة في المسجد الأقصى في القرن الثامن عشر الميلادي؛ لبيان الدور الذي كان يلعبه هذا المسجد في الحياة العلميّة في بيت المقدس في ذلك الوقت، واستمراره في رفد الحياة العلميّة، وتشجيع التدريس والتعليم على يد كبار أساتذته وخطبائه إلى يومنا هذا.


المراجع:
1- الحسيني، حسن بن عبد اللطيف، تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر الهجري، الجامعة الأردنية، 1985م .
2- النعيمات، سلامة، الحياة العلمية في القدس في القرن الثامن عشر الميلادي، عمان، 2009م .