حبيب الزيودي شاعراً

د. أحمد عودة الله الشقيرات
كاتب وباحث أردني

مقدمة:
عرفتُ حبيب الزيودي طالبًا في مدرسة الزرقاء الثانوية، وقد كان يملأ جيوبي بالشعر هو وطالبٌ آخر أصبح الآن قاضيًا. وكان حبيب مسكونًا بالشعر أعرف جوّانيّته واتجاهاته. وكانت آخر مرة جاءني فيها في التعليم العالي وقد حصل على منحة دراسيّة للماجستير في اللغة العربية في المغرب، وقبلها رأيته في الإذاعة وكان منتشيًا شيئًا ما (رحمه الله).
حبيب والشعر:
عرّف "إلتون" الشعر بأنَّه ليس إطلاقًا للأفعال، لكنَّه هروبٌ من الانفعال، إنَّه ليس تعبيرًا عن الشخصية، ولكنَّه هروب من الشخصية. ويقول "جون كيتس" الشاعر الإنجليزي المعروف: "إنَّ وظيفة الشعر ليست الوعظ". وتقول "اليزابيث درو":" فالشاعر طبيعتان: إنسانية وفنية". والشعر ينبع من مصدرين، من جبريّة غامضة تكمن في اللاوعي، ومن تنظيم صناعي تام الوعي، فهو عمليةٌ تختلط فيها الحياة باللغة، ويتزاوج فيها المعنى والمبنى، ويلعب فيها كل من التنقيح والطبع دورهما.
ويكاد حبيب يقترب من السيّاب في قوّة الغريزة التي كانت سببًا في تقلبه في الرأي والسلوك. فحبيب ينتقل من إربد إلى بيت سلمان عمّه، ويشطح إلى القول بأنَّ حبيبته تهزُّ القدر بعينيها.
"فهل تعلمين بأنَّ اتحادي
بعينيك سوف يهزُّ القدر."

ويقول من قصيدة "ما بال إربد؟" عن الظباء اللاتي جعلن ترغيبًا وليس خوفًا: هن الدوالي عتّقت قمصانها خمري المصفّى. ثم ينتقل إلى بيت عمّه الذي مات ولم تنتش أذناه بزغرودة، أو يشم الولد.
ولا يستغني حبيب عن الوزن في شعره؛ لأنَّ الشعر كما يقول ابن طباطبا في كتابه "عيار الشعر": "الشعر- أسعدك الله- كلامٌ منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خُصَّ به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجّته الأسماع، وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطرب عليه الحذق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه".
وأعتقدُ أنَّ حبيبًا كغيره من الشعراء الكثر يمتلك أدوات الشعر بحسب ما جبلت عليه شاعريته وأعانه على ذلك استعداده الفطري المصنوع. فمن الأدوات التي يذكرها محمد بن أحمد بن طباطبا: "التوسع في علم اللغة والبراعة في فهم الإعراب والرواية لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس، وأنسابهم، ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر، والتصرف في معانيه، في كل ما قالته العرب فيه، وسلوك مناهجها في صفاته ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها، والسنن المستدلة منها، وتعريفها وتصريحها، وإطنابها وتقصيرها، وإطالتها وإيجازها، ولطفها وعذوبة ألفاظها، وجزالة معانيها وحسن مباديها، وحلاوة مقاطعها وإيفاء كل معنى حظّه من العبارة، وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة، واجتناب ما يشينه من سفساف الكلام، وسخيف اللفظ، والمعاني المستبردة، والتشبيهات الكاذبة، والإشارات المجهولة، والأوصاف البعيدة، والعبارات الغثّة، حتى لا يكون متفاوتًا مرقوعًا؛ بل يكون كالسبيكة المفرغة، والوشي المنمنم، والعقد المنظّم، واللباس الرائق، فتسابق معانيه ألفاظه، فيلتذّ الفهم بحسن معانيه كالتذاذ السمع بمونق لفظه، وتكون قوافيه كالقوالب لمعانيه، وتكون قواعد للبناء يتركّب عليها ويعلو فوقها، فيكون ما قبلها مسوقًا إليها، ولا تكون مسوقة إليه؛ فتقلق في مواضعها ولا توافق ما يتصل بها، وتكون الألفاظ منقادة لما تراد له غير مستكرهة ولا متعبة، لطيفة الموالج (المداخل)، سهلة المخارج. وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي به تتميز الأضداد، ولزوم العدل وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها".
أمثلة من شعر حبيب تنطبق عليها كثير من أدوات ابن طباطبا للشعر:
عرّف بعضهم الشعر فقال:" الشعر ما دخل الأذن من غير إذن". وفي قصيدته "ارتعاشات" ومضات من شعر عرار في قصيدته "يا أردنيات" يقول حبيب:
"قفا على النبع، لي بالنبع حاجات حلّت على القلب من ذكراه، عِلّات
يا أردنيات أشلائي مبعثرةٌ فمن تلملمني.... يا أردنيات".
وله بعض الهفوات اللغوية كما في قصيدة "سنلتقي صباحًا" حيث يقول عن الغربان- تطفئ في نعيقها المصباحا ( ص22) ديوان "ناي الراعي". فالنعيق للبوم والنعيب للغراب- نعب الغراب ببين ذات الدملج-. وكذلك قوله من قصيدة "حمدان" "دليلي إذا توهتني الرمال عن الدرب قلبي". (ص272)، وهناك ضعف بائن في قصيدة "الشيخ يحلم بالمطر" يقول في ص (32).
"الموت في عينيك ذو طعم لذيذ
وأنا أحب الموت
ما أشهى الخناجر."

وفي قصيدة "طواف المغني" (ص 124) يقول: "ستعرف أبوابها وشوارعها، شارع شارع، ورصيف رصيف". وحقَّ ذلك أن يقول: شارعًا شارعًا ورصيفًا رصيفًا. وهو يكرّر بعض الأبيات مثل قوله في قصيدة "الشيخ يحلم بالمطر" (ص31) من " ناي الراعي": "ويصلبني على ألواح يحيى المعمدان، عن النفط الذي ينجب كل يوم ألف سالومي". ويكرّر الشطر" يصلبني...ثلاث مرات".
ومن سماته الحزن والفطريّة البدويّة، ويشمل ذلك معظم قصائده، ويشبه عرارًا في ذكر الكأس والخمر ففي قصيدة: "يا ليت عمان" التي يناجيها من فاس في المغرب، والبيت الأخير يشبه وصايا عرار وهو:
"وإن سَقطتُ على درب الهوى قِطعًا أوصيك أوصيك، بالأردن يا ولدي". (ص 82)
وبالرغم من رنَّة الحزن التي تلوّن شعر حبيب الزيودي إلا أنَّه يمتلك حسًّا قوميًّا فطريًّا، فهو يغني لشهداء العراق (ص 153) من قصيدة "أرى النخل والليل في رهبة يسجدان"؛ يقول:
"أرى شهداء العراق..... على ضفة النهر في ليلهم يوقدون المشاعل".
كما يغني للقدس، يقول من قصيدة "يا قدس" (ص 108) "أحببتها.. فليصمت الشعراء: وليرحل الحسّاد والرقباءُ
يا قدس .... يا وجعاً يعربد في دمي مالي من الوجع الثقيل دواء
لا تيأسي لا بد لي من جولةٍ أخرى ومهما امتدت الظلماء".
وتكاد لغته تلامس لغة عرار في هذا الاتّجاه أيضًا (القومي)، فهي تستقي من الكلام اليوميّ العاميّ، حيث تؤكّد الدراسات على أن معارف الأردنيين قبل بدء الإمارة اقتصرت على الشعر البدويّ الذي تناقلته الألسن بين مضارب البدو، كما يقول محمد عطيات.
يقول حبيب:
"كانت فلسطين يوماً طينةً وغدت لما نفخنا بها أرواحنا وطنا". (ص224) (ناي الراعي).
ويُعدُّ حبيب الزيودي من شعراء الأردن في الثمانينيات وما بعدها، الذين كان لهم دورٌ مهم في الحديث عن أمجاد أمتهم العربية القومية والوطنية، وحثّها على النهوض واستعادة دورها التاريخي والحضاري كما في شعره عن فلسطين.
حبيب الزيودي والحداثة المعاصرة:
ونقصد هنا بالمعاصرة، ما قيل في القرن العشرين الفائت، وفي النصف الثاني منه تحديدًا (1950-2000) لرصد الظواهر الفاعلة في تطوير هذا الشعر على الصعيدين الفني والموضوعي، وهي ظواهر أدبية إبداعية فنية جماليّة، من ناحية، وظواهر تاريخية واقعية ثقافية نفسية، من ناحية أخرى، كما يرى الدكتور أحمد الزعبي في كتابه (أسلوبيات القصيدة المعاصرة- دراسة حركة الشعر في الأردن وفلسطين).
أمَّا الحداثة فتعني: موقف كياني من الحياة في المرحلة التي نجتازها، تأخذنا بالجوهر لا بالمظهر. وإنَّ أهمَّ ما يميز الشاعر هو نوع ذاكرته، والطريقة التي يستخدمها بها. والعباقرة من الشعراء الموهوبين هم هؤلاء الذين يدركون نوع العلاقة التي لديهم بين الخيال والواقع، بحيث يمكن أن يُقال: إنَّ ميزتهم الكبرى، أيًّا كانت عبقريتهم، هي قوّة الخيال.
عضويّةُ العلاقة بين الشكل والمضمون عند حبيب:
مما لا شكَّ فيه أنَّ هناك علاقة عضوية بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي، وهذه العلاقة تستدعي ذكر المضمون إذا ذُكر الشكل، والعكس صحيح أيضًا فكلاهما يكوّنان كلاً واحدًا لا يمكن أن يقوم على أحدهما دون الآخر، ولكنَّنا لأغراض البحث نضطر إلى الفصل بينهما فصلًا نظريًّا، وبمقتضى ذلك نتساءل: ما المضمون؟ إنَّه المادة الخام التي يتشكّل منها العمل الأدبي، وهذه الموضوعات أو الأفكار الموجودة في الذهن البشري لا يمكن اعتبارها أدبًا إلا إذا وضعت في إطارها الصوري أو الشكلي، وعلى ذلك فالمضمون هو "إيماء الرموز اللفظية وعلاقاتها النحوية إلى أشياء موجودة في العالم الخارجي، أو إلى أفكار ووجدانيات مشتركة بين الناس جميعًا".


نموذج من عضويّة العلاقة بين الشكل والمضمون عند حبيب الزيودي:
يقول من قصيدة قصيرة " كانت تمشي":
"كانت تمشي بالمريول الأخضر
ذي الستة أزرار
ترتبك القرية حين تمر
وتشتبك الأشجار
وترشق صباحي بالسكر
تلك الغيمة
ذات الخطو الصامت والجسد الثرثار
حتى أصبحت لكثرة ما غنيت لها، ووقفت لها
شجرة حور
غمزتني ذات صباح فالتهمت خشبي النار".
وهي قصيدةٌ غاية في السبك والدلالة وعضويّة الشكل والمضمون.

حبيب: الصورةُ والرؤيّةُ في شعره:
يقول د. عبد القادر الرباعي: "هناك طرق شتى لدراسة هذه اللغة وما تحويه أو تخفيه من أبعاد مختلفة، لكنَّني اخترتُ من هذه الطرق واحدةً قد تكون جوهريّة في الكشف عما تحت الكلمات وخلفها في شعر (حبيب الزيودي) هي الصورة الفنية".
والصورة عند (حبيب) عالم مترامي الجهات، وسأحصر الصورة والرؤية فيما يأتي، بثنائيات متضادّة كشفت عنها العلاقة الحميمة بين الصورة والرؤية، وهذه الثنائيات هي:
1. النموذج الإنساني، سالبًا وموجبًا.
2. الأنا والآخر.
3. المكان والزمان.
4. الثبات والتحوّل
5. الجد والهزل.
وإذا تأملنا النصَّ عند حبيب الزيودي انطلاقًا من أنَّ للنصِّ استراتيجية خاصة وغير محدودة لإنتاج المعنى التجريبي كما يستوحيه القارئ، فقارئ النصِّ هو الذي يحسُّ رؤية ما لا يرى بصرف المعنى أو استنطاق الصمت، أو ملء الفراغات، أو تشخيص العوارض، أو اختراق الطبقات. ونصُّ حبيب الزيودي على وضوحه، مليء بالفراغات (الموحية)، مفعم بالصمت، لذا فهو ما زال بحاجة إلى اختراق حجبه وطبقاته.
نموذج تطبيقي: الثبات والتحوّل:
يقول حبيب:
"هذي الأرض ترضعني حليب الرفض
فآهٍ....آهٍ...لو تدرين
كم تمتدُّ في لحمي
وكم تمتدُّ في عظمي
حبيبة جوعي المجبول بالعرق البدائي
الذي ينصب من جبهاتنا أواه
لو تدرين كم تتقزم الكلمات
رغيف الخبز عن أفواهنا مقصي
فمن أقصاه؟."

ففي هذا النموذج يمكن أن نلمح أكثر من ثنائية، فالأنا والآخر موجود، وكذا الثبات والتحول، والنموذج الإنساني، سالبًا وموجبًا.
ونلاحظ هنا شرحًا لُغويًّا في لغة حبيب حال دون تجانسها؛ "حبيبة جوعي المجبول بالعرق البدائيّ"، وكذلك حال دون انسجامها مع هذه الأرض؛ "ترضعني حليب الرفض".

والخلاصة:
يمكن القول إنَّ هذا وكلَّ ما عالجه حبيب الزيودي في شعره يندرج تحت لغة الاغتراب النفسي وغيره من مظاهر الاغتراب، كالانسلاخ عن المجتمع – سلوكًّيا- وما يسوده من علاقات، والفوضى والعبث بما كان يقدسه الشعر، إضافةً إلى المخالفة للأعراف والتقاليد، وذكر الخمر في شعره، وغير ذلك.
ومن يقرأ شعر حبيب الزيودي يلمسُ هذا ببساطة، ولا سيَّما أنَّه تأثر بخروجه من القرية ومن طقوس الرعي، إلى المدينة-عمان- والزرقاء- وفاس في المغرب.