حدث على جسر "أول" ‏

 

قصة: أمبروز بيرس‏

ترجمها عن الإنجليزية: سمير أحمد الشريف

قاص وكاتب أردني

 

وقف على جسر شمال "الباما"، نظر تحته نحو ماءٍ سريعٍ يتدفَّق على عمق عشرين ‏قدمًا، كانت يداه خلف ظهره، ورسغاه مثبّتتان بحبلٍ، وحول رقبته يلتفّ حبل آخر ‏موصول بقطعة خشبية تتدلّى فوق رأسه.‏

كان يقف فوق حافة خشبيّة صُنعت خصّيصًا لهذا الغرض، وبالقرب منه يقف جنود ‏جيش الاتحاد الذين سينفِّذون عملية الشَّنق، وعلى مسافة منهم يقف القائد الضابط ‏المسلَّح، وعلى كلٍّ من طرفي الجسر يقف حارسٌ يحمل مسدّسًا.‏

الرجل الذي تقرَّر تنفيذ شنقه لم يكن يلبس زيًّا خاصًّا. كان في الخامسة والثلاثين من ‏عمره، له ملمح جميل وشعر أسود طويل يتدلّى خلف رأسه وأذنيه وشارب كثّ ولحية ‏مشذّبة وعينان رماديّتان وملامح يكسوها اللُّطف لا توحي بملامح قاتل.‏

بدا كل شيء جاهزًا. تراجع الجنديّان للخلف. استدار الشاويش للقائد محيِّيًا ينتظر ‏إشارة البدء.‏

نظر المتَّهم تحته، رأى قطعة خشبيّة تتأرجح فوق سطح الماء، تبعها بنظراته، كم هي ‏بطيئة تلك الخشبة، يا له من جدول ماء كسول.‏

أغلق عينيه محاولًا تثبيتهما على آخر ما فكَّر فيه، زوجته وأولاده.‏

ضايقه الماء الذي لمع كقطعة ذهبيّة في يوم مشمس. يزعجه شيء جديد وهو يفكر ‏بأحبّائه، سمع ضجّة، كانت صوتًا لم يستطع تجاهله ولا استيعابه، الصوت واضح ‏وحاد مثل صوت مطرقة. تعجَّب، ماذا يكون هذا الصَّوت؟ هل هو قريب أم بعيد؟

عاد الصَّوت أعلى وأقوى، خشي على نفسه من الصُّراخ، ما سمعه كان دقّات ساعته، ‏فتح عينيه، رأى الماء تحته مرَّة أخرى، فكَّر:‏

‏"إذا تمكَّنتُ من تحرير يدي، فسأتمكَّن من حلِّ عقدة الحبل، والقفز والغوص تحت ‏الماء، يمكنني تجنُّب الرَّصاص، سأتمكَّن من السباحة للشاطئ والرَّكض داخل الغابة ‏ومن ثم العودة إلى البيت... شكرًا لله لأنَّ بيتي خارج حدود سيطرتهم، ولأنَّ زوجتي ‏وأولادي بعيدون عن أذى أعدائي".‏

لمعت تلك الأفكار في خاطر المتَّهم بينما القائد يوعز ببدء أمر التَّنفيذ.‏

مررتُ به كثيرًا، آخر مرَّة كان فاغر الفم واقفًا بشموخ، فكَّرتُ بالاقتراب، لكنّني لم ‏أفعل. شيء ما يعيقني.‏

هل كلّ مَن مرّوا به انتابهم هذا الشُّعور؟ أم مرّوا دون انتباه؟

الخلق معذورون.‏

لماذا لم يقترب منه أحد؟ هل هو الخوف؟

لفتتني رقبته الطويلة. أوَّل مرَّة رأيته فيها كان قريبًا من الرَّصيف، يفتح فاه للأعلى ‏كمن ينتظر تحقيق وعد، كان في وضع يسهل فيه أن يراه الجميع، كيف وصل إلى ‏هنا؟ هل جاء وحيدًا أم ضمن مجموعة؟ من أيّ البلدات جاء؟

قرَّرتُ أنْ أضعَ حدًّا لتردُّدي وأقترب أكثر. ربّما مرَّ به آخرون وتصرَّفوا به. حتمًا لن ‏يكون موجودًا.‏

وجدتُه في اليوم التالي بمكانه وهيئته، قريبًا من الدَّرجة الأخيرة في الزقاق الضيِّق ‏على الرصيف، اقتربتُ منه، ارتفع وجيب قلبي، مددتُ يدي، لم أجد غير ما توقَّعت، ‏ما فاجأني بسطار وبداخله قنبلة وخيط دم ممتدّ يعوي في البعيد.‏

مددتُ يدي المرتجفة وشيء يغور في أعماقي، وفي اللاوعي منّي يلمع لهب أحمر ‏وصوت انفجار يصمّ الآذان.‏

‏- - - - - - - - - - - - ‏

‏* أمبروز بيرس ‏Ambrose Bierce‏: ‏

قاص أميركي، وُلد في أوهايو. شارك في الحرب الأهلية، اشتهر بقصته القصيرة ‏‏"واقعة جسر أوول كريك"‏‎ An Occurrence at Owl Creek Bridge،‎ ‎‏ ‏ومن مؤلّفاته: "خيوط العنكبوت" و"الجمجمة الفارغة". ‏

‏* المصدر:‏

‏ ‏‎" An Occurrence at Owl Creek Bridge and Other Stories. ‎Courier Corporation. p. 7ff‏.‏