للقمع وجوه أخرى قراءة في "منديل أزرق جميل"‏

د. خولة شخاترة

ناقدة وأكاديمية أردنية

 

 

في المجموعة القصصية "منديل أزرق جميل" استطاع إبراهيم غرايبة أن يعرّي ‏واقعنا، فالقصص تُشعرنا بعبثيّة كل ما نقوم به، على الرّغم من كل المحاولات ‏الفرديّة التي يسعى من خلالها الفرد للخلاص، لكنه يُواجَه كل يوم بما يعيده للبدء من ‏جديد. وفيها تعبيرٌ عن الوجوه العديدة للقمع، وإدانة للهوّة السحيقة بين حياة بعض ‏القرى وبين العالم. ولعلّ "مربط الفرس" فيها قصة "إلى المدرسة"؛ فالمدرسة هي ‏الوجه الآخر للسجن، وهي التي أنتجت نموذجًا بشريًّا خائفًا من كل شيء.‏

 

تضمّ المجموعة القصصيّة للكاتب الأردني إبراهيم غرايبة "منديل أزرق جميل" 24 ‏نصًّا سرديًّا، وتُعدُّ القصة السادسة في المجموعة "إلى المدرسة" النّواة التي بُنيت ‏حولها المجموعة، أو البؤرة التي تتجمّع حولها خيوط المجموعة. يتَّضح هذا حين ‏يربطها المتلقّي بما سبقها وما يليها من قصص ونصوص. ‏

اللافت في هذه القصة العنوان المُخادع الذي اختير بعناية؛ كي يأسركَ لمتابعة القراءة، ‏ولا يكتفي بهذا، بل يمارس عليكَ الغواية كي تقع في حبائله، وكذا أيضًا عنوان ‏المجموعة كاملة؛ فالمدرسة في هذه القصة، ليست وسيلة من وسائل تطوير الذات، ‏وليست خطوة للتقدُّم وليست مرحلة مهمة لا بدّ من اجتيازها كي تفتح لك خيارات ‏متعددة في الحياة؛ فهي في هذه القصة ليست إلّا الحيز الذي يزرع فيه الرُّعب ‏المُمنهج، فلا يملك الطالب الضعيف أو المتردِّد أو الخائف إلا الرضوخ لهذا العذاب ‏المتكرر السرمدي ربّما، سيّما أنّ الطالب لا يعرف ما الذي يريده الأستاذ حتى ينهي ‏هذا العذاب؟ وما الذي يُرضي غروره واستبداده ويوقف تعطشه للسلطة والقمع؟ لعله ‏إن عرف ينتهي من هذا الرُّعب السيزيفي، لكن هيهات!‏

يعتقد المتلقّي للحظة أنَّ الأستاذ مخلص للعلم والتدريس، ولا يقبل على نفسه أنْ تمرَّ ‏معلومة دون فهم وحفظ، ولا يقبل بأيّ هفوة إلا إذا أتقن الطلاب، كل الطلاب، ‏مهارات الحفظ والتطبيق والفهم، فلا يستقرّ له قرار إذا أغفل الطلاب معلومة، لكنه ‏سرعان ما يُصاب بخيبة أمل حين يكسر النص أفق توقُّعه، إذْ يكتشف أنَّ الأستاذ لا ‏يملك علمًا ولا مهارةً ولا أسلوبًا، والطالب ضحيّة، مجرَّد ضحيّة، وما أسلوب القمع ‏والضرب والإهانة إلا للتغطية على جهل الأستاذ. فالسَّجين في القصة الأولى التي ‏تحمل عنوان المجموعة القصصيّة وَجَدَ المنديل الأزرق الجميل للتَّخفيف من قسوة ‏السِّجن، أمّا الطالب فإنه يواجه مصيره المُرعب وحيدًا بلا مخلّص يوميًّا. ويكبر ‏الطالب وهو يحفظ معارف وعادات ومعلومات عن أشياء لا يعرفها في قريته، فالقرية ‏الفقيرة لا تملك ترف الفاكهة، ولا طاولة السفرة، ولا الذهاب إلى طبيب الأسنان، كل ‏هذه لا يعرفها الطالب، وليس لديه صورة في الواقع عنها إلّا من بعض الصور في ‏الكتاب.‏

قرأتُ عن المؤسسات التي كان وسيلة لتدجين الإنسان لكنَّ هذه القصة بالذات لامسَتْ ‏شيئًا في داخلي، لأنَّني عشتُ تجربة تشبه ما ورد فيها، إذْ رأيتُ صورة عود في ‏الكتاب مثالًا على حرف العين -قبل أن أدخل المدرسة- استغربتُ الصورة لم أرَ في ‏حياتي عودًا بهذا الشكل، كلّ ما أعرفه عود الحراثة، إذ لم تكن كلمة محراث متداولة ‏في قريتي، وصرتُ أتخيَّل كيف يحرثون بهذا العود؟ وسألتُ أختي وقالت: "هذا عود ‏مختلف"، لماذا مختلف؟

هذا الكلام لا يعني أنْ يبقى الإنسان على جهله وضيق أفقه، إنَّما هي إدانة لهذه الهوّة ‏السحيقة بين حياة بعض القرى وبين العالم، والسؤال: لِمَ لا تساهم الدولة والأفراد ‏والجماعات برفع الوعي في القرى؟ لماذا حُكم على مناطق كاملة بالعزلة عن بقيّة ‏العالم؟ وظلَّت مناطق داخليّة مُهمَلة؟ لِمَ بقيت هذه القرى بلا خدمات، لا طُرُق ولا ‏مركز صحي ولا وظائف؟ المدرسة كانت تبرُّعًا من الأهالي، ولم يتغيَّر هذا كثيرًا؛ ‏حاليًّا أغلب المدارس هي على شكل مساعدات من هنا ومن هناك.‏

كيف استطعتُ التخلُّص من السؤال المُلحّ كلما رأيتُ صورة تختلف عمّا عهدته؟ ‏عرفتُ لماذا العود مختلف؟ لم يكن أمامي إلا كلام أمي عن الأشهر؛ فكانت تقول عن ‏الشهر الميلادي هذا تاريخ حكومة، والشهر القمري شهر عربي، وبالتالي مواسم ‏الزراعة واحتساب حمل النساء كان بالتقويم العربي وليس بتقويم الحكومة، وحين تأتي ‏سيدة وتقول: إنَّها حامل منذ شهرين، تقول لها أمي: "بشهر الحكومة ما بعرف، بعرف ‏بالعربي"، فوجدتُ الإجابة: هذا عود الحكومة، أمّا كيف تحرث به؟ فهذا ما لم أعرفه ‏لغاية الآن.‏

وإذا علمنا أنَّ صورة الحكومة التي زُرعت في أذهاننا هي العنف والضرب كما في ‏حكاية أحدهم التي كنت تروى لنا للتحذير من الحكومة: كان أحدهم خارجًا على ‏القانون وارتكب جرائم قتل، فقيل له: ألا تخاف من الحكومة؟ فقال: "شو الحكومة؟؟"؛ ‏استخفافًا بها وللتقليل من شأنها، فألقي القبض عليه بعد مدّة، وأوسع ضربًا، فعرف ما ‏هي الحكومة! ‏

وبالعودة إلى المدرسة في المجموعة القصصيّة "منديل أزرق جميل" فقد أنتجت هذه ‏المدرسة نموذجًا بشريًّا خائفًا من كل شيء، ولعلَّ "فدعوس" الشخصية الرئيسة في ‏قصة "أني والخوف أردنيان" من المجموعة خير مَن يمثِّل هذه المدرسة: فإنْ كان ‏قوميًّا فهو مُتَّهم وإنْ كان شيوعيًّا فهو مُتَّهم وإنْ صار إسلاميًّا فهو مُتَّهم، مع أنه ‏مواطن يدفع الضرائب والكل يحسده ويعتقد أنه شريك في السلطة. ويستمرّ عذاب ‏‏"فدعوس"، فلا حصّة له من البعثات الدراسيّة، أمّا حصّته من البطالة فهي جاهزة، ‏كانت الحجة القديمة عند غياب الوظائف في القرية، أنَّ هذه الأخيرة بلا خريجين، ‏وحين تخرَّج أبناء القرية من الجامعات ولم يتغيَّر أيّ شيء، بقيت البطالة شبحًا ‏يطاردهم، وحين توظَّف "عيشو" في مصنع النسيج وصدَّق كل ما درسه في المدرسة ‏حرفيَّا، وصدَّق أنه عمل بجد كما في قصة "مصنع النسيج"، اكتشف أنه مجرَّد ‏غطاء على وهم، وهم العمل والإنتاج، والربح، والكل يعلم أنها خدعة إلا هو، فكان ‏مصيره الموت المجاني.‏

ظلَّ الاستفهام يرافق هذا الانسان ويستعيد ما حدث له في المدرسة؛ الوجه الآخر ‏للسجن، لكنه اكتشف أنَّ السجن كانت له فائدة أكثر، إذ ساهم بإعطاء هؤلاء الناس ‏الجنسيّة، فعلى الرغم من أنهم عاشوا على أرض قريتهم، منذ ما قبل دولة المماليك ‏والعثمانين وبلغوا الدولة الحديثة وزرعوا أرضها التي أخذت منهم عنوة تحت مسمّيات ‏كثيرة، فلم يجدوا ما يثبت أنهم أبناء هذه القرية سوى سجلّات السجن التي احتفظت ‏ببعض الأسماء، فكان السجن في لحظة ما منديلًا أزرقَ جميلًا، منحهم الجنسيّة.‏

المجموعة القصصية مليئة باللادارية والاستفهام والمرارة واللاجدوى، لأنها تعرّي ‏واقعنا وتُشعرنا بعبثيّة كل ما نقوم به، على الرّغم من كل المحاولات الفرديّة التي ‏يسعى من خلالها الفرد للخلاص، لكنه يُواجَه كل يوم بما يعيده للبدء من جديد، وكأنه ‏سيزيف الذي يحمل صخرة عذابه السرمديّ.‏

هل صار المنديل الأزرق الجميل أقصى ما نتمنّى؟؟