المونودراما في المسرح الأردني

د. عدنان مشاقبة

أكاديمي وناقد مسرحي أردني

 

المونودراما شأنها شأن أيّ صيغة مسرحيّة أخرى تتفرَّع إلى أنواع، ونستطيع التوافر على ثلاثة أنواع ‏متمايزة للمونودراما بحسب الشخصية وتداعياتها: المونودراما أحاديّة الشخصيّة، ومونودراما النَّفس ‏المنقسمة، والتي تصوِّر الأجزاء المتشظية لروح الفرد في صراع ضمن الفرديّة، وأخيرًا المونودراما ‏متعدِّدة الشخصيّات، حيث البيئة والشخصيّات الأخرى تحضر وتتمثَّل عبر مُرشح الوعي لشخصية البطل. ‏وقد ظهرت المونودراما في المسرح الأردني على صعيدي النص والعرض، وبدأ الاهتمام بها منذ ثمانينات ‏القرن العشرين.‏

كثُر الحديث عن المونودراما بوصفها مسرحًا يُعلي من شأن الذات المنفردة، في مقابل المسرح المبني على ‏الحوار الدرامي ذي الصبغة الجماعيّة الذي يتأسَّس على روح الجماعة، ويُعيد الكثيرون هذه النّزعة إلى ‏الرّغبة في العودة إلى الأصل الذي نشأ عليه المسرح الإغريقي أيام (ثسبس)، وممّا يتفق عليه الباحثون ‏تاريخيًّا في هذا المجال أنَّ "المونودراما بوصفها صيغة فنية أنشأها (جان روسو) وذلك في مسرحيّته ذات ‏الفصل الواحد (بيجماليون)، هذا العمل الذي يُرجح أنه كُتب في العام 1763، ولكن لم يتم إنتاجه حتى ‏العام 1770".‏

وترى (نهاد صليحة) أنَّ المونودراما هي "مسرحية يقوم بتمثيلها ممثل واحد يكون الوحيد الذي له حق ‏الكلام على خشبة المسرح. فقد يستعين النص المونودرامي في بعض الأحيان بعدد من الممثلين، ولكن ‏عليهم أن يظلّوا صامتين طوال العرض".‏

ونذكر هنا أنَّ المونودراما شأنها شأن أيّ صيغة مسرحية أخرى تتفرَّع إلى أنواع، ونستطيع التوافر على ‏ثلاثة أنواع متمايزة للمونودراما بحسب الشخصية وتداعياتها "المونودراما أحاديّة الشخصيّة، ومونودراما ‏النَّفس المنقسمة، والتي تصوِّر الأجزاء المتشظية لروح الفرد في صراع ضمن الفرديّة، وأخيرًا ‏المونودراما متعدِّدة الشخصيّات، حيث البيئة والشخصيّات الأخرى تحضر وتتمثَّل عبر مُرشح الوعي ‏لشخصية البطل". وقد ظهرت المونودراما في المسرح الأردني على صعيدي النص والعرض، وبدأ ‏الاهتمام بها منذ ثمانينات القرن العشرين، فأنتجت ثلاثة نصوص مونودراما في عام 1984 هي (حال ‏الدنيا) تأليف ممدوح عدوان وإخراج حاتم السيد، و(أغنية البجع) لتشيخوف من إخراج محمود إسماعيل ‏بدر، و(وحدي في بيت الجنون) للكاتب الفلسطيني توفيق فياض وهي من إخراج خالد الطريفي.‏

ومن أهم الكتاب والمسرحيين الأردنيين الذين كتبوا وأعدّوا نصوصًا للمونودراما في المسرح الأردني: ‏نادرة عمران حيث كتبت مونودراما (كواليس 1992) وقامت بتمثيلها وأخرجها جواد الأسدي، كما أعدَّت ‏مسرحية (نوبة صحيان) عن مونودراما (يقظة) لداريوفو. وكتب جمال أبوحمدان مونودراما (ليلة دفن ‏الممثلة جيم 1992) وقد أخرجها جميل عواد وقامت بتمثيلها جولييت عواد. وغنام غنام في نصوصه ‏‏(خمس دمى 2003، أنا لحبيبي 2007، وسأموت في المنفى 2017). ومفلح العدوان في (آدم وحيدًا، ‏تغريبة ابن سيرين، ومرثيّة الوتر الخامس). وشايش النعيمي في (النجمة والهيكل، والرسالة). وسوسن ‏دروزة في (مصابة بالوضوح). وفتحي عبدالرحمن في (لعبة الشاطر). وحسن ناجي في (داليا 2008) ‏وهي مونودراما للأطفال. ويحيى البشتاوي في (عائد إلى حيفا 2009) التي أعدَّها بالاشتراك مع غنام ‏غنام عن رواية بالاسم نفسه للأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. وعائد ماضي في (شاطئ الفنان). ‏وفراس الريموني في (رجال في الشمس 2011) من إعداده وإخراجه عن رواية بالاسم نفسه لغسان ‏كنفاني. ومصطفى أبوهنود في (القميص المسروق) والتي أعدَّها عن ثلاثة نصوص لغسان كنفاني أيضًا، ‏هي: (القميص المسروق، ورقة من الطيرة، وورقة من حيفا). ومنصور عمايرة في (ابن فضلان في بلاد ‏العربان). وهناء البواب في (على قيد الموت). وأحمد الطراونة في (فيس بوك). وعاطف الفراية في ‏‏(البحث عن عزيزة سليمان 2013) التي فازت بالجائزة الأولى في المسابقة الدولية لنصوص ‏المونودراما/ النسخة العربية التي تجريها هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام. ‏

وعلى صعيد الإخراج تبرز جهود المخرج حاتم السيد في إخراجه لمونودراما (حال الدنيا) من تأليف ‏‏(ممدوح عدوان) وتمثيل الفنان زهير النوباني في عام 1984، وقُدِّمت المسرحية في مهرجان جرش على ‏مسرح أرتمس. ويُعدُّ النوباني واحدًا من الذين مثّلوا عددًا من نصوص المونودراما، وكان قد درس الإدارة ‏والعلوم السياسية في الجامعة الأردنية وتخرج فيها عام 1969، وخلال أيام الدراسة تفتَّحت موهبته الفنيّة ‏وقدَّم عددًا من المسرحيات مع (أسرة المسرح الجامعي) في الجامعة الأردنية، وكانت تلك المرحلة بمثابة ‏مرحلة تأسيسيّة مهمّة لمسيرة المسرح الأردني، وقدَّم النوباني خلالها مونودراما (بقبق الكسلان) من تأليف ‏ألفريد فرج.‏

 

الفنان زهير النوباني: قدم المونودراما منذ كان طالبًا في الجامعة الأردنية

 

وفي تجربة أخرى أخرج المخرج حاتم السيد مونودراما (الزبّال) عام 1992 وقدَّمها في مهرجان ‏المسرح الأردني، من تمثيل ناصر عمر، لكنَّ العرض توقَّف بسبب انشغال الممثل بمشاريع أخرى، ‏ونتيجة لنجاح العمل أعاد السيد إخراجه عام 2010، وقد مثله عبد الكامل الخلايلة، وقدّم العرض في ‏مهرجان الفجيرة للمونودراما في الإمارات.‏

دعت المسرحية إلى احترام إنسانيّة الإنسان، وأكّدت على دور المثقف في ترسيخ القيم المثلى، وتدور ‏أحداثها حول عامل لجمع القمامة أمضى في مهنته أكثر من ثلاثين عامًا، وقد مكَّنه هذا العمل من التعرُّف ‏على سكان أهل الحارة وأسرارهم، يقول: "أعطني قمامة أيّ عائلة أقول لك مَن هو صاحبها". ‏

 

المخرج الأردني حاتم السيد استهوته نصوص المونودراما التي كتبها ممدوح عدوان

 

اعتمد السيد الرومانسية والتعبيرية في إخراجه للعرض، وحول ذلك يقول: "لقد فقدَتْ الحارة العربية ‏الدفء وروح العلاقات، وأصبحت العلاقات الاجتماعية مادية، ولم يعد هناك تواصل وتراحم بين الناس، ‏وهذا ينساق على الأمة العربية بأكملها، فهي مفكّكة وبعيدة عن بعضها بعضًا، ممّا جعلها ضعيفة أمام ‏المحن والكوارث التي تواجهها".‏

ولم تغب المونودراما عن تجربة المخرج باسم دلقموني الذي قدَّم أعمالًا عديدة، ولا يزال يساهم في تنشيط ‏الحركة المسرحية في الأردن، وفي توجيه الممثل، في ظل إيمانه بروح الفريق المسرحي الجماعية. وقد ‏تعامل الدلقموني مع نصوص مسرحيّة متنوّعة الاتجاه والطُّرُز والبناء والأسلوب، فقد أخرج مسرحيات ‏لمؤلفين أجانب وعرب وأردنيين، حيث كان قريبًا من مشاكل المجتمع الأردني، وكرَّس معظم أعماله ‏لمناقشة هذه المشاكل ومعالجتها. وقد استطاع أن يضع يده -وبأسلوب ساخر وناقد- على قضايا عانى ‏ويعاني منها المجتمع الأردنيّ، ولربَّما العربيّ، مثل قضية التعليم، الزواج، وأمانة المسؤول. ومن بين ‏المسرحيات التي أخرجها الدلقموني مونودراما (يوميّات مجنون) لغوغول، حيث قام بتمثيله باحتراف ‏سليمان العمري. ثم قدَّم غير ذلك من الأعمال المسرحية المهمة.‏

‏ وتظهر المونودراما في تجربة فريدة للمخرج يحيى البشتاوي الذي أخرج مسرحيّة (عائد إلى حيفا) عام ‏‏2009 عن رواية غسان كنفاني، كما ذكرنا سابقًا، إعداد يحيى البشتاوي وغنام غنام، وسينوغرافيا فراس ‏الريموني، وفيها جاءت الرؤية الإخراجية نابعة من معطيات المسرح السياسي، حيث اعتمد المخرج في ‏تقديمه للشخصيات على القدرة الأدائيّة للممثل الذي قدَّم على المسرح شخصيّات متعدِّدة هي (صفية، خالد، ‏خلدون، المستوطن أفرات كوشن، مريام زوجة المستوطن، المسؤول الفلسطيني، إضافة إلى شخصية ‏سعيد زوج صفية الذي قام بسرد الحكاية، وغيرهم).‏

تبدأ الأحداث من مشهد العزاء حيث يتوقَّف سعيد، وعلى وقع آيات من القرآن الكريم، ليصافح الناس الذين ‏يقدمون له واجب العزاء بابنه خالد الذي استشهد في سجون الاحتلال، ثم تتوالى اللوحات لتتوزَّع بين ‏لوحات معبِّرة عن شخصية خالد وهو في السجن، أو شخصية سعيد وهو يبحث عن صفية وسط الفوضى ‏التي عمَّت المدينة بعد دخول عصابات الاحتلال، وحتى يرسّخ المخرج ارتباط الأحداث بالواقع الفلسطيني ‏نجده يستخدام الموسيقى ومقطوعات الأغاني الوطنية التي تنتمي للتراث الفلسطيني والتي تحيلنا إلى ‏فلسطين بشكل عام، أو إلى سجن عكا، أو إلى مدينة حيفا التي غادرتها الشخصيات تحت وقع الإرهاب ‏والتهجير، وعلى المستوى الصهيوني تمَّ اختيار الرَّقصات والأغاني واللهجة المعبّرة عن شخصية ‏المستوطن الصهيوني.‏

 

غنام غنام في مسرحية عائد إلى حيفا ‏

 

تحمل المسرحية روحًا نضالية تميط من خلالها اللثام عن الوجع الفلسطيني الذي يعبِّر عنه أبطال ‏المسرحية (سعيد، صفية، خالد، وخلدون) الذين يمثلون أنموذج البطل الضحيّة، وإذا كان ديفيد هنا يرمز ‏إلى جيل جديد لا يخرج عن كونه الجيل الذي سينشأ بين أحضان المغتصب، والذي قد يتنكّر لوطنه ‏ولأهله، فإنَّ المسرحية جاءت لتدقَّ ناقوس الخطر حول سياسات الاستيطان والتهويد التي سعى إليها الكيان ‏الصهيوني منذ قيامه على تراب فلسطين، وهذه السياسات الموغلة لم تتوقف عند حدود ابتلاع الأرض ‏وإنَّما امتدَّت إلى الاستحواذ الفكري على الإنسان الذي ينبغي تحريره لكونه يشكِّل قضيّة مثله مثل الوطن، ‏وبالتالي فإنَّ هذا الواقع يجعل من المقاومة مرتكزًا أساسيًّا لتحرير الأرض والإنسان الفلسطيني الذي ‏فرضت عليه الظروف السياسية والعسكرية واقعًا مأساويًّا جديدًا.‏

وفي مونودراما (الرسالة) من تأليف وتمثيل الفنان شايش النعيمي عام 2010، ومن إخراج محمد خير ‏الرفاعي، قدَّمت الأحداث قضيّة تتعلق بالصراع العربي مع العدو الصهيوني، حيث تمَّ تناول القضية ‏الفلسطينية بإبعادها المحلية والدولية، وانعكاسها على الإنسان العربي والأردني بشكل خاص، من خلال ‏قصة جندي يرفض بيع بيته، أو المساومة عليه، والمقصود رمزيًّا بالبيت هو (الوطن).‏

 

 

الفنان الأردني شايش النعيمي

 

في هذه المسرحية، يستذكر الابن وصيّة والده من خلال رسالة له قبل استشهاده على أرض معركة ‏‏(الكرامة)، ولم يتمكّن الابن من تنفيذ وصيّة والده، ليس تخاذلًا منه وإنَّما لأنَّ القيادات هي التي فرضت ما ‏جاء بها، منذ لحظة إيقاف إطلاق النار مع العدو، وما تبع ذلك من اتفاقيات مع العدو أعقبت زيارة محمد ‏أنور السادات للكيان الصهيوني، واتفاقية أوسلو التي تضمَّنت تفاهمات بين حكومة الاحتلال ومنظمة ‏التحرير الفلسطينية والتي وقّعت عام 1993، وما لحقها من اتفاقات استسلاميّة مع العدو الصهيوني، ‏وصولًا ليومنا الحاضر، وما آل إليه الواقع العربي.‏

ويرى الناقد مؤيد البصام أنَّ الرفاعي استطاع صياغة عدد من الرُّموز والدلالات في العرض، وجمع أكثر ‏من أسلوب في تنفيذ العمل، فقد أفاد من البريختية في استغلال الإمكانات الصوتية والحركية للممثل، ‏وجعله يبدو كحقيقة واقعيّة وليس تمثيلًا، حتى لا يضيع التأثير العقلي للمتفرج، وفصَلَ المَشاهد المسرحية ‏بعضها عن بعض، لتُظهر ما يشبه حياة الإنسان في حركته وشعوره ونفسيّته، ودفَعَ بالممثل لكسر البُعد ‏الرابع بإنزاله إلى الجمهور، وجرّ المسرحية نحو مسرح الجماهير أو المسرح الثوري، ضمن فهم أنَّ مهمّة ‏المسرح ليس الاتِّكاء على الواقع وتقديمه كما هو، بل تعريته وتفجير تاريخه وكشف المسكوت عنه، ‏مركّزًا بناءه المعماري على الإيحاءات التي خلقها في أجزاء بسيطة، ولكنَّها تمثِّل أهميّة في البناء العام، ‏مثل قدسيّة النهر والماء والبئر والجديلة للجدّة، وتمَّ تقسيم حركة الممثل على المسرح، فالعمق للتضحية ‏والاستبسال والرؤية النضالية للأحداث والتاريخ.‏

وحمل التشكيل البصري لحركة الممثل دلالات فكرية وجمالية متعددة، فقد تم استخدام مقدمة المسرح ‏لعرض الأحداث الراهنة، واشتغل على توظيف المساحة بشكل متوازن من خلال حركة الممثل وتوزيعات ‏الضوء ضمن المكان، وقد أخذت الأحداث امتدادًا تاريخيًّا حمل معاناة الإنسان العربي المعاصر بكل ‏تشعُّباتها السياسية والاجتماعية، واعتمد المخرج في التأسيس البصري لرؤيته الإخراجية على مجموعة من ‏الحوادث والوحدات الصورية الحياتية، التي رسّختها تقنيات المونولوجات الداخلية والمناجاة الذاتية، ‏المعبِّرة عن مأساة البطل، وبهذا كانت تقنيات الحركة والصوت تجسيدًا حقيقيًّا لمعاناة الإنسان المهشّم ‏والضائع بين الأوامر التي تصوغ حياته، دون إرادته، وبين مشاعره ومدركاته وقناعاته السياسية.‏

وقدَّم الفنان غنام غنام عددًا من نصوص المونودراما مؤلفًا ومخرجًا، وكان من بينها (سأموت في المنفى) ‏التي وظف فيها تقنيات الحكي والإيماءات وحركات الجسد في تقديم الحكاية الفلسطينية، ضمن مكان ليس ‏فيه سوى حقيبة السفر، حيث روى لنا سيرته الذاتية، وحكاية والده وجده وشقيقه، أبناء (كفر عانا)، ‏ويستعرض جزءًا من تاريخ القضية الفلسطينية، ولا يلقي باللوم على العالم العربي فقط، بل على ‏الفلسطينيين أنفسهم، أيضًا، الذين تركوا الاحتلال يمحو بعضًا من فلسطين، ليمحو الفلسطينيون أنفسهم ‏الجزء الباقي بتركهم لأرضهم وترابها. ويتابع غنام الحكي عن رحلة إلى فلسطين المحتلة تبدأ في عام ‏‏2011 حينما تمَّت دعوته وفريق عمل مسرحية (عائد إلى حيفا)، حيث يروي حكايته من عمّان إلى رام ‏الله، ويرى منزله في أريحا ويبصر نفسه حينما كان طفلًا يصعد وينزل درجات المنزل، فيسترجع أحداث ‏منذ عام 1967، عن البيت الذي وُلد فيه وعاش قبل نزوح أسرته إلى الأردن، يقول في مسرحيته: "هذا ‏البيت الذي عشتُ فيه، هنا كنّا نلعب، هنا كنّا نجلس كل مساء لنغنّي، هذا درج البيت الذي يقبع في الدور ‏الأول، ثلاث وعشرون درجة، كنتُ أعدُّها صعودًا ونزولًا حين كنت طفلًا يتحدّى نفسه بصعود كل ‏درجتين معًا ثم كل ثلاث.. آخر مرَّة هبطتُ الدرج في الخامس من يونيو عام 1967، كنتُ في الثانية ‏عشرة من عمري، وها أنا بعد أربعة وأربعين عامًا أصعدها من جديد".‏

ويجوبُ غنام تراب فلسطين ويأخذ منه حفنة ويكون جلّ ما جمعه تراب وحجر وعدّة صور على ذاكرة ‏الكاميرا، لكنّه يجمعها فرحًا في حقيبة، ويحاول أن يعبر بها الحدود إلى الأردن، لكنَّ قوات الاحتلال تأخذ ‏ما جمعه، فيواسي غنام ذاته في مونولوج بديع شامتًا في الاحتلال، الذي حتمًا سيُعيد التراب والحجر مرّة ‏أخرى لموضعه، لكنه لا يملك أنْ يسرقَ الذاكرة التي تحمل في ثناياها الحقائق التي لا تُمحى‎.‎‏ ثم يتوالى ‏السرد الاسترجاعي في المسرحية، فيستذكر البطل حال أمِّه بعد وفاة أخيه فهمي، وتفاصيل وفاة ذلك الأخ ‏عام 1992، وشاهدة قبره التي حملت اسم بلدته الفلسطينية (كفر عانا)، تلك البلدة التي هُجِّرت منها ‏أسرته، ثم حكاية أبيه صابر، وهنا يبلغ السَّرد درجة عالية من الشاعريّة المؤثِّرة حينما يحكي البطل عن ‏مأساة أبيه: "صابر مات حرقًا في حاكورة البيت في جرش، لم تسعفه ساقه المبتورة من أسفل الركبة ‏بسبب الغرغرينا على النّجاة، كان يجمع ما جفّ من أعشاب الحاكورة ليشعل بها نارًا ويتخلّص منها، لم ‏يكن يعلم إنّما يُشعل نارًا ستأكله كما العشب الجاف الذي جمعه(...). صابر أيها النشيد الوحيد البعيد الفريد، ‏هل كان الشجر ظلّك؟ هل كان العشب وعدك..؟ صابر أنت الذي لم يكن يكفّ عن الدندنة والغناء حين ‏تكون وحيدًا، ماذا كنتَ تغنّي وأنت تجرّ بمشط الأرض الأعشاب الجافة قبل أن تصبح وقودًا لنارك؟ ‏صابر لم تستطع العودة إلى فلسطين، وأخاف أنْ أعدك بأنني سأحمل رفاتك يومًا إليها، لأنني مثلك سوف ‏أموت بعيدًا عنها، مثلك سأموت في المنفى".‏

إنَّ هذه المسرحية تشكل سيرة ذاتية اعتمد فيها غنام الحكي وسرد التاريخ والغناء والشعر، مستعينًا بأشعار ‏محمود درويش وأحمد شوقي، وكل ذلك للتعبير عن أوجاع غربته التي يلخصها بقوله: "كل البلاد العربيّة ‏وطني إلا وطني".