محطّة القطار في عمّان... ‏ بوّابة الحلم والعهد الجديد

محطّة القطار في عمّان... ‏

بوّابة الحلم والعهد الجديد

سحر ملص

كاتبة وأديبة أردنية

 

تُعتبر مؤسسة الخط الحديدي الحجازي إحدى المؤسسات التي قدَّمت خدمات جليلة في قطاع ‏المواصلات في تاريخ المملكة الأردنيّة الهاشميّة وبلاد الشام والحجاز، إذ تمَّت أوَّل رحلة لنقل ‏الحجّاج والمعتمرين في بلاد الشام إلى الأراضي المقدَّسة في الرابع والعشرين من شهر آب ‏عام 1908. وصارت محطة السكة الحديدية في عمّان شاهدًا على أحداث تاريخية ‏واجتماعيّة حملت للناس عبقًا من ذكريات عزيزة.‏

 

صباحًا أستيقظ على صدى صوت صفيرٍ حادٍّ وحالم، يترنّح في الأفق لقاطرةٍ تُعلن عن عهدٍ ‏جديدٍ، يوقظ فيّ طفولةً مضت، فأخلع غلالة النوم عن عينيّ... ثم أحمل فنجان قهوتي وأرحل ‏إلى محطة القطار... بوّابة الحنين والذكريات.‏

وعمّان كعادتها في الصباح الباكر تغفو بوداعة طفل تتراقص في سمائها غيوم فتيّة... تكاد ‏تمطر من شدّة توقها وحنينها لعناق أرض مدينتها... بينما الشمس الخجولة تبعث بسلاسلها ‏الذهبيّة تمشط بيوت المدينة، وتصلّي من أجلها. في السماء ألمح حمائم بيضاء تحلّق بأجنحتها ‏وترسم رقمًا مئويًّا؛ وكأنَّها تشارك بطريقتها الخاصة باحتفال المملكة.‏

على بوّابة المحطّة وقفتُ خاشعة مثل عابد يريد الدخول إلى محراب معبدِه، كان قلبي يخفق ‏بشدّة... وعقارب الساعة قد تجاوزت السادسة، هبطتُ ثلاث درجات، لتستقبلني البوّابة ‏الحديديّة فاتحة ذراعيها، لألمح طيف طفولتي يقف أمامي يشدُّ على يدي ويسحبني كي أدخلَ ‏المحطّة، وأستقلَّ عربة القطار للسَّفر إلى الشام بصحبة أهلي كما في الماضي، حين كان القلق ‏يتلبَّس قلبي الصغير، خشية أنْ يسافرَ القطار الهادر ويترك أبي على الرَّصيف مع المودِّعين ‏الملوِّحين بأياديهم... لتذرف لحظتها العبرات بانتظار أن يُقرع الجرس النحاسيّ في المحطّة ‏إيذانًا بالرَّحيل، وتطلق القاطرة البخاريّة صفيرها... فيضطرب قلبي هلعًا ثم نمضي إلى ‏الشام...‏

طيفٌ آخر لاح لي، بل أطياف... سمعتُ منها صدى التَّهاليل والتَّكبيرات لأفواج الحجيج ‏القادمين من الشام ليحملهم القطار إلى مكة؛ للحج إلى بيت الله الحرام، مختصرًا عليهم رحلة ‏شاقة في قوافل الجمال، وسط لهيب الصحراء...‏

وقبل أنْ أتابعَ سيري انطلقَتْ صافرة القاطرة بحدّة، تذكِّرني بأنَّ الخط الحديدي الحجازي قد ‏ارتبط بالثورة العربيّة الكبرى، وأنه مَعْلمًا مهمًّا من معالم التراث المرتبطة بتاريخ الأردن ‏الحديث.‏

من هنا تبدأ الحكاية. ففي شهر أيلول من عام 1900 كشف السلطان عبدالحميد الثاني النّقاب ‏عن خطّته لإقامة الخط الحديدي الذي يصل إلى الحجاز، وذلك أثناء الاحتفالات التي أقيمت ‏بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلائه العرش، فقد وجَّه يومها -بصفته الخليفة- نداءً ‏إلى الدول الإسلاميّة كافة، ولجميع المسلمين في أنحاء العالم، لجمع التبرُّعات من أجل إنشاء ‏الخط الحديديّ، وذلك تسهيلًا لنقل الحجّاج إلى الديار المقدَّسة، فقوبل هذا النداء بالعطف ‏والحماسة الشديدين، وبالدَّعم من المسلمين كافة، ليبدأ العمل في إنشاء الخط الحديدي الضيِّق ‏بعرض 105سم، بجانبه خط اللاسلكي للاتصال التلغرافي لربط مدينة دمشق بالمدينة المنوّرة ‏عبر مدينة عمّان، وقُدِّرت تكلفة هذا المشروع بخمسة ملايين ليرة عثمانيّة، وقد تطوَّعت ‏جميع قطاعات الشعب للعمل مع الجيش، حتى إنَّ بعض النساء قد تبرَّعن بمصاغهنّ.‏

كانت رحلة الحُجّاج من دمشق إلى المدينة المنوّرة تتمّ برًّا باستخدام قوافل الجِمال، وتستغرق ‏من أربعين إلى خمسين يومًا، أمّا عبر البحر فكانت تستغرق من عشرة إلى خمسة عشر يومًا، ‏ولكنَّها مع استخدام القطار صارت تستغرق ستين ساعة تقريبًا.‏

لذلك، كان عام 1909 بداية العهد الجديد لنقل الحجيج والمسافرين، بعيدًا عن الأوبئة ‏والمشقّات والظروف القاهرة. وقد تمَّ نقل ما يقارب 199033 مسافرًا، بينهم 19965 ‏حاجًّا، و8480 عسكريًّا، وبلغت ذروة النقل في عام 1913 حيث تم نقل 232563 ‏مسافرًا.‏

وقد كان قرار إنشاء الخط الحجازي يحمل أهدافًا سياسية واقتصادية واستراتيجية، منها ‏تسهيل حركة الجيش التركي إلى الجهة الغربيّة حتى شبه الجزيرة العربية، دون عبور قناة ‏السويس، وفي عام 1914 تم نقل (147,586) عسكريًا دون أن ينقل في ذلك العام أيّ ‏حاج.‏

وعندما أطلق الشريف الهاشمي الحسين بن علي طيّب الله ثراه رصاصة الثورة العربية ‏الكبرى في العاشر من حزيران عام 1916 إيذانًا بعصر جديد من النهضة العربية، كان لا ‏بدّ من تعطيل الخط الحديدي في المناطق الواقعة جنوب وشمال محطة معان وذلك لمنع ‏استخدامه من القوات التركية ضدّ الثورة العربية الكبرى، وفيما بعد تمّ إصلاحه...‏

وقد كان للخط الحجازي الأردني الشَّرف بأنْ أقلّ جلالة الملك المؤسس عبدالله الأوَّل طيَّب ‏الله ثراه بأحد القطارات في رحلته الأولى من معان إلى عمّان عام 1921حاملًا معه عزيمة ‏الهاشميين وشمسًا ساطعة تبوّأت السماء معلنًا إقامته إمارة شرق الأردن من محطة الجيزة.‏

كانت البداية حين وصل إلى معان في 21/11/1920 حيث استقبله الأهالي استقبالًا ‏حافلًا... وهناك حدَّد هدف قدومه وهو تحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي، وقد قوبل ‏بالترحاب والحماسة من أهل معان وباديتها. وأحدث وجود الأمير في معان واتصالاته ‏ودعوته للوحدة انتصارًا للقوميين والنهضة ومعاني العروبة والأصالة.‏

وفي يوم الثلاثاء، الأوَّل من آذار عام 1921، وصل القطار من معان إلى محطة الجيزة ‏حاملًا جلالة الملك عبدالله الأوّل. وقد استقبله شيوخ القبائل من بني صخر في المحطة ‏وأكرموه ومَن معه من شيوخ الحويطات والكرك ومعان الذين رافقوه من مدينة معان التي ‏أحبَّها وأحبَّ أهلها.‏

وفي اليوم الثاني أكمل القطار رحلته إلى عمّان وتوقف في ماركا الشماليّة (محطة القطار) ‏الساعة الحادية عشرة ظهرًا من يوم الأربعاء 2/3/1921، حيث كان في استقباله جمع من ‏أهالي عمّان وشيوخ المنطقة والشراكسة وأهالي ناعور ووادي السير وغيرهم... مرحبين ‏معاهدين على الوفاء.‏

وهكذا كانت محطة القطار بداية عهد جديد في وطن العزّ والمجد.‏

تُعتبر مؤسسة الخط الحديدي الحجازي إحدى المؤسسات التي قدَّمت خدمات جليلة في قطاع ‏المواصلات في تاريخ المملكة الأردنيّة وبلاد الشام والحجاز، إذ تمَّت أوَّل رحلة لنقل الحجاج ‏والمعتمرين في بلاد الشام إلى الأراضي المقدَّسة في الرابع والعشرين من شهر آب عام ‏‏1908.‏

الآن أجدُني أقف في محطة القطار، يحملني خيالي إلى ذاك الزَّمن الجميل لأشاهد الحجاج ‏بملابس الإحرام يقفون بنوافذ عرباتهم، متكئين عليها، يلوِّحون بأياديهم المعروقة للفلاحين ‏الذين انحنوا على أراضيهم يزرعونها... ليرفعوا رؤوسهم للحظات طالبين من الحجيج الدُّعاء ‏لهم بمكة.‏

دخلتُ إلى المحطة... ورحتُ أتجوَّل على طرف السكة ليستوقفني مبنى المحطة الحجريّ، ‏وقرميدها الذي يكلِّل غرّتها، بينما تتسلّق النباتات الخضراء جدرانها، لتحيط بالجرس النحاسيّ ‏هامسةً في أذنه... تحدِّثه عن عمر المحطة فيهتزّ طربًا!‏

في شرق المحطّة مبنى قديم يطلق عليه اسم "الدبو"، وهو مصفّ للقاطرات، المتدرّجة من ‏البخار إلى قاطرة الديزل. هناك تقف أربع قاطرات بخارية وقد تمَّت صيانتها بأيدي كادر ‏المؤسسة بعدما كان من المقرَّر شطبها، حيث تمَّ رفع قيمتها السوقيّة من عشرة آلاف دينار ‏أردني إلى مليوني دينار للقاطرة الواحدة...‏

خيّل إليّ وأنا أنظر إلى هذه القاطرات بأنَّها سيدات طاعنات في السنّ، قد جلسن مثل شيخات ‏تتدلّى ضفائرهنّ لتتحدَّث كل واحدة منهنّ عن زمن شبابها، وذكرياتها، وتحصي عدد ‏الرحلات التي قضتها ما بين دمشق ومكة، متباهية بحمولتها وما نقلته من حجيج وجنود ‏مسافرين.‏

أمّا خزّان الماء الذي كان يغذّي القاطرة البخاريّة في الزمن القديم، فما زال خرطومه يتدلّى ‏تلهو به الرياح. وفي جانب المحطة تقف آليّة خضراء ثقيلة في حالة استراحة مؤقتة، إذْ إنها ‏تسبق القطار في كل رحلة مستكشفة الطريق!‏

قرب مبنى المحطة القديم أقيم متحف تراثي في أحد المباني العثمانية القديمة، يضمّ آلات ‏ومعدّات كانت تُستخدم منذ تأسيس الخط الحديدي الحجازي، وثمّة مجسَّم في قاعة المتحف ‏يوضِّح مسار الخط في الأردن، ويعبِّر عن عدد من المحطات الأردنيّة منها الزرقاء وخربة ‏السمرا والمفرق ومحطة الجيزة في الجنوب، والقطرانة ومعان.‏

ويضمُّ المتحف جهازًا قديمًا لمقاسم الهواتف، إضافة إلى البيارق الخضراء والحمراء التي كان ‏يستعملها موظفو السكة ليرشدوا السائق إنْ كانت الطريق سالكة أو فيها بعض المخاطر؛ ‏فيحذِّرونه برفع البيرق الأحمر.‏

على الجدران تربَّعت صور الهاشميين، وفي صندوق زجاجي شاهدتُ عددًا من تذاكر السَّفر ‏القديمة، فمددتُ يدي وأخذتُ واحدة علَّها تحملني من جديد في عربة تسافر إلى الشام...!‏

خرجتُ من المتحف لأقف أمام بناء حجريّ أبيض ضخم، على جدرانه وأقواسه زخارف ‏ونقوش إسلامية؛ هو مبنى متحف الخط الحديدي الحجازي الذي ما زال تحت التأسيس؛  ويتمَّ ‏تشييده بالاتِّفاق والدَّعم من الجمهورية التركية.‏

محطة القطار... خابية الحنين... ومواطن الذكريات... أقف خاشعة أمام مبنى ضمَّ الكثير من ‏حكايا المجد...‏

أجدُني أقف أمام العربة الملكيّة التي أقلّت جلالة المغفور له عبدالله الأوَّل ابن الحسين... أشتمُّ ‏بها عبق التاريخ... وأسمع صدى صوته مودِّعًا لمحطة معان التي كانت مستقرّه الأوَّل ‏وكادت تذرف دمعها حين غادرها.‏

رحتُ أطوفُ حول العربة والمحطة مثلما يطوف حاج حول كعبته أردِّد في نفسي: "آه كم ‏حمل هذا القطار من البشر... ومن قصص الحب... والحنين والوداع... كم حمل رسائل ‏الناس... وخبايا الذكريات".‏