أحد عشر يومًا وغزّة إلى الفنّان نبيل شحادة

قصة: تيسير نظمي

قاص وروائي أردني

 

 

أستطيع أنْ أقول إنَّني لو كنتُ لوحةً لكان ينقصني الكثير من الشمس قبل 24 آذار 2011. وإنَّني ‏ذات يوم مشمس اكتشفتُ ذلك في أواخر آذار من تلك السنة فلم أكمل طريقي إلى وظيفة مقيتة ‏أصبحت بالنسبة لي عبثًا غير مُجدٍ، أو لوحة ينقصها التفريغ الخلّاق. بعد ذلك بأقل من سنة ‏تعرّفتُ على فنان تشكيلي لا يؤمن بالوظيفة، فكان لي في معرفته حسن العزاء؛ فقد ذكّرني ‏بريعان الصّبا في فلسطين أيام كنتُ مفتونًا بالرسم بالألوان المائيّة والزيتيّة وبألوان بلدتنا. ومع ‏توطُّد صداقتنا بدأت زيارتي لمنزله في جبل عمّان، ومن ثم في جبل اللويبدة حيث مشغله ‏وعشرات اللوحات غير المكتملة والمكتملة وخاصة تلك التي في منزله والتي حالما جلستُ ‏بقربها، حتى قبل أن يُشعل المدفأة بقربي، شممتُ رائحة الليمون تنبعثُ من اللّون اللّيموني ‏الشّفيف بها. ‏

ثماني سنوات من الأحاديث عن اللون والشكل والتصميم والملء والتفريغ والتجريد والذكريات ‏والعلم والتهويمات والصمت والكلمات، لم تنقطع إلا مع بدء الحظر الكلّي الذي تصادف قبل ‏حضوره من زيورخ حيث يقيم إلى عمّان؛ فبقي عالقًا هناك وبقيتُ أنا عالقًا هنا. ‏

لونان متباعدان جغرافيًّا كما هي المسافة بين نابلس والقدس أو بين سيلة الظهر الجبليّة وبين جنين ‏السهليّة أو بين غزّة الساحلية وبين أيّ مدينة صحراويّة. ‏

في بداية جائحة "كورونا" والحظر بموجب قانون الدِّفاع بدأ عنقود عنب الأصدقاء بالفرط حبّة ‏إثر حبّة، واستمرّ تواصلنا عبر "الواتس" بشكل شبه يومي، واستمرَّ كذلك منزله مغلقًا على ما فيه ‏من لوحات، ومن بينها لوحة لشدّ ما حيّرتني، ولم أكتشف سرّ الحيرة بها إلا بعد كثير من ‏الخسارات والدمار والموت والخراب والداكن والقاتم والكئيب والموحش والأعزل والأسمى ‏والمقتل وما لا أعلم من ألوان جميلة صارت تحت رمال الصحراء الذهبيّة أحيانًا، والمدجّجة ‏بحروب القبائل وغزوات الماضي أحيانًا أخرى. ‏

كان هو كلّما شاهدتُها يحاول أن يقنعني عقليًّا بأنَّها غير ما أراه حسيًّا لدرجة أنَّني بدأتُ أتساءل ‏مع نفسي عن ثقافتي البصريّة التي بدأت تتشكّل مبكرًا قبل أن أبلغ الخامسة عشر وأتحوّل من ‏القراءة في الفن التشكيلي إلى فنون الكتابة التي تليق بالمساحات الضيّقة التي عليكَ أن تنتزعها ‏بقوّة إرادتك على البقاء. وربّما استهواه الحديث هو الآخر بما يستهوي بعض الكُتّاب الذين ‏يتحدثون دائمًا حتى وهم يكتبون! وحسنًا فعلت الجائحة كونها قطعت استمراريّة الحديث عن تلك ‏اللوحة لتتحدَّث مع شهر أيّار وفي العشر الأواخر من رمضان عن لوحات أخرى واقعيّة من لحم ‏ودم. ‏

كلانا انشغل بمتابعة ما يجري على أرض وبحر وفضاء وليل غزّة ونهاراتها الطويلة. رشقات ‏من الصواريخ أشبه بالألعاب الناريّة ليلًا وأبراج لبنايات فارهة تنهار في وضح النهار. "سلفادور ‏دالي" ينهض مجدَّدًا بعشرات اللوحات، كل لحظة يشاركه "بيكاسو" بما هو أفظع من جورنيكا ‏وأشد قسوة من التكعيبية. "فان جوخ" يقبع في أحد أنفاق غزة وآخرون يفرّون إلى البحر وبودّهم ‏لو أصبحوا أسماكًا إلى حين وأن تتخلّق لهم خياشيم للتنفُّس. لوحات تجريدية خالية من ‏الأوكسجين، وطائرات تريد أن تملأ مناخات الكرة الأرضية بثاني أكسيد الكربون. لا وقت لأيّ ‏لون أن يتشكّل طيلة أحد عشر يومًا وغزّة. أحد عشر يومًا واللد، أحد عشر يومًا وتل أبيب، أحد ‏عشر يومًا والقدس، أحد عشر يومًا ويافا، أحد عشر يومًا وأم تنتحب، أحد عشر يومًا وجندي ‏يضطرب، أحد عشر يومًا وأسرة بكاملها تُدفن حيّة تحت أنقاض مسكنها وتغلق أبوابها تاركة ‏طفلة لها خارج أسوار الموت الفاغر فاه مثل وحش يريد أن يفترس غزّة كلّها، القدس كلّها، اللد ‏كلها، ولا يعرف لماذا هو فعل كل هذا.‏

كنّا قد تواعدنا أن يأتي هو من سويسرا في الربيع المندحر، لكنه ما جاء. أنا أخذتُ حصَّتي من ‏‏"أسترازينيكا" منتظرًا الجرعة الثانية في حزيران. غزّة تناولت جرعتها الثالثة والرابعة ولم تشفَ ‏من القتلة بعد. هو ينتظر استكمال حصانته الصحيّة من اللقاح والسفر. وأنا متعايش مع الأردن ‏ومع "الطّفر". يرسل لي أحيانًا بلوحات وفيديوهات ومقالات مهمة. وأنا بالكاد أردّ عليه بتعليقات ‏مقتضبة. فقدتُ شهيّتي حتى للكلام. وأواصل ملاحقة الأخبار والصواريخ صارخًا بأحدها أن لا ‏ينفجر بالأسوَد ويشوِّه سماء فلسطين. أن لا يشوِّه الأزرق، بينما مقاتلات الفاشيين تدمِّر الأزرق ‏ناسيةً أنه لون علمها ونجمتها المغتصبة. برج "الجلاء" لم يرَ لونًا له مُسقطه من أعالي السماء. ‏لم يره وهو يتهاوى لينام في حضن غزّة من فرط الشموخ والسهر. وقانون الدفاع وقانون ‏الحصار يقولان معًا أن لا سفر. لكنّنا هو وأنا متفقان مجددًا أنّنا سنحيا ونلتقي ونتبادل العزاء ‏والأحاديث وما تبقى من ذكريات جميلة لنا؛ ذكرياته هو في القدس وذكرياتي أنا بالأمس أو ‏بالهمس. وعندما أفتح أنا تسجيلاته الصوتيّة المرسلة على "الواتس" أجده هادئًا واثقًا من أنه ‏سيأتي حتمًا إلى منزله المهجور في اللويبدة، واثقًا من أنه سيعمل لي مفاجأة ما من مفاجآته ‏المبدعة. وأنا واثق جدًا من أنني لن أعود إلى منزل أشرفت على بنائه عام 1966 واكتمل في ‏ربيع 1967 وغادرته منتكسًا في حزيران تلك النكسة، واثق أيضًا من أننا عندما أرى اللوحة ‏المختَلَف عليها لن نختلف مجدّدًا على سرّ الحيرة فيها لِما كان ينقصها من لون.‏

واثق من أنّني سأجدها غدًا كما وجدتها دائمًا تجريدًا له روح على الرّغم من أنه لا يبوح، لكنّني ‏غير متأكد أنّني إذا جلستُ ثانية قرب النّار وشاهدتُ مجدّدًا لوحة أسميتُها أنا "لوحة الليمون"، هل ‏سوف أشمّ الليمون مجدّدًا أم ألتفت إلى لوحة أخرى قد أشتمّ بها رائحة البارود؟

وسوف أسألكَ يا صديقي في كلِّ لوحةٍ من لوحاتكَ أشاهدُ بها اندلاقًا للّون الأحمر؛ قُل لي يا ابن ‏الخليل: اللّون الأحمر هذا، في التشكيل هذا، في الزمن هذا، أتراه لونًا للدم أم لونًا للنار في ‏عسقلان؟ الآن؟

أيّار 2021‏