النشرُ كصناعةٍ ثقافيّة

الدكتور ربحي مصطفى عليان
أستاذ علم المكتبات والمعلومات/الجامعة الأردنية

النشرُ في معناه الواسع: جعل الشيء معروفًا علانية، ويعرف النشر بأنَّه: العملُ الذي يقوم به الناشر من خلال إصداره وعرضه للبيع مطبوعًا، أُنتج عن طريق نوع من أنواع الطابعات أو الاستنساخ أو إعادة التصوير. كما يُعرّف بأنَّه: إعدادُ عمل المؤلف في أفضل صورة مناسبة، وتقديمه إلى أكبر قدر من الجمهور. وهو عملية إعداد وتصنيع وتسويق الكتب والمجلات والصحف وغيرها من المطبوعات.
يمكن القول إنَّ صناعة النشر قديمة قدم الفكر وحركة التأليف في الحضارات الإنسانية، وفي الحضارة العربية والإسلامية ازدهرت صناعة النشر في العصر العباسي (العصر الذهبي) خلال القرن الثامن للميلاد على يد الورّاقين. وكانت تعرف بالوراقة، واستمرت على مدى خمسة قرون، نتيجة لعدة عوامل أهمها: حركة التدوين والترجمة والتأليف، وانتشار صناعة الورق في المدن الإسلامية الكبيرة، وتشجيع الخلفاء والأمراء، حتى أن ابن النديم رصد في كتابه (الفهرست) 8500 كتابًا نُشر في القرون الأربعة الأولى للهجرة.
وبالرغم من أنَّ الطباعة اختُرعت على يد "غوتنبرغ" الألماني في منتصف القرن الخامس عشر للميلاد، إلاّ أنَّها لم تدخل إلى البلاد العربية إلاّ بعد ثلاثة قرون من انتشارها في أوروبا. وكانت أول مطبعة في الوطن العربي في حلب عام 1706م، ثم في جبل لبنان عام 1733م. ومع دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م أُنشئت أول مطبعة رسمية، وفي عام 1820م، أُنشئت مطبعة بولاق على يد محمد علي، والتي نشرت العديد من الكتب العربية والتركية المؤلفة والمترجمة، لينتشر الكتابُ المصريُّ في ربوع الوطن العربي، ومع مرور الوقت تطوّرت صناعة النشر في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن وبقية الدول العربية.
ويمكن القول إنَّ النشرَ صناعةٌ صغيرة نسبيًّا، ولكنَّها ذات أهمية بالغة في الحياة التعليمية والثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية. كذلك يمكن النظر لصناعة النشر كمرحلة مهمّة من مراحل الاتصالات الإنسانيّة والبشرية كونها أساس تسجيل وتدوين وحفظ النتاج الفكري البشري والمحافظة عليه من التلف والضياع. كما يمكن القول إنَّ صناعة النشر هي قلب الصناعات الثقافية، وهي جزء من صناعة المعلومات والتي تشملُ الصناعات التي تتعامل مع المعلومات بدءاً من إنتاجها وجمعها وتحليلها وتخزينها وتنظيمها ثم استرجاعها وتسويقها وبيعها للمستفيدين على هيئة سلع أو خدمات. وقد أصبحت صناعة المعلومات موردًا اقتصاديًّا مهمًّا لكثير من الدول.
ويمكن حصر المؤسسات ذات العلاقة بشكل مباشر أو غير مباشر بصناعة النشر بالمؤسسات التالية:
أولاً: المؤسسات المسؤولة عن إنتاج وتوفير المعلومات اللازمة كمراكز البحوث والدراسات والجامعات ومحطات الأبحاث والتجارب وغيرها.
ثانيًا: مؤسسات النشر المختلفة (دور النشر) التجارية والأكاديمية والحكومية.
ثالثًا: مؤسسات الرصد والتحكم الببليوغرافي سواء على المستوى الموضوعي أو اللغوي أو الجغرافي (الوطني والإقليمي والعالمي).
رابعًا: مؤسسات جمع المواد المنشورة وتنظيمها وإعدادها للاستخدام، وتشمل المكتبات بمختلف أنواعها (الوطنية والعامة والجامعية والمدرسية والمتخصصة) ومراكز التوثيق ومراكز المعلومات.
وهناك الكثير من الإجراءات التي تمرُّ بها عملية نشر الكتاب، ومن أهمها: مرحلة التأليف، ثم توقيع العقد ما بين المؤلف والناشر، لضمان حقوق الطرفين، ثم مرحلة إنتاج الكتاب، وتشمل تحرير النصِّ الأصليّ والصف والتنسيق والتدقيق اللغوي وتصميم الغلاف وطباعة الكتاب بالكمية المتفق عليها، ثم الإعلان والترويج للكتاب من أجل تسويقه، ولهذا فإنَّ الكتاب يُعدُّ منتجًا خاصًّا له حقوق مشتركة بين المؤلف والناشر.
وهناك اتفاق على أنَّ صناعة النشر تضمُّ ثلاث حلقات رئيسة:
1. الحلقة الأولى: التأليف، ويقوم به المؤلف وهو المسؤول عن المادة العلمية أو الأدبية.
2. الحلقة الثانية: حلقة الطباعة أو التصنيع، والتي تحوّل المادة العلمية أو الأدبية للمؤلف إلى كيان مادي قابل للتداول بين الناس في شكل نسخ متعددة.
3. الحلقة الثالثة: حلقة التوزيع، والتي يقوم بها باعة الكتب والموزعون؛ وتهدف إلى توصيل النسخ المطبوعة إلى المستفيدين أو السوق، وهم الأفراد والمكتبات بأنواعها المختلفة.
هذه الحلقات الثلاث تتكامل فيما بينها لتشكّل ما يُعرف بصناعة النشر، ولا يمكن لأي حلقة فيها أن تكون قائمة بذاتها ومستقلة عن الحلقتين السابقتين. والأطراف الثلاثة (المؤلف والمطبعة والموزع) لا يعرف بعضهم بعضًا، ولا توجد علاقة مباشرة تربط بينهم، ولهذا دعت الحاجة إلى وجود طرف رابع يجمع بين هذه الأطراف الثلاثة، ويدير العلاقة بينهم وهو (الناشر).
أمَّا الناشر فهو الشخصُ أو الهيئة التي تتولى مجموعة الإجراءات والعمليات للمطبوع من صورته المخطوطة حتى يصل إلى يد القارئ. والناشرُ مسؤولٌ بعد حصوله على المادة من المؤلف أو الكاتب عن عمليات التحرير والصف والطباعة والتجليد والتوزيع للمادة. ويُعدُّ الناشر الشخص الذي يستثمر أمواله في إنتاج الكتب وغيرها، وهو يدفع الأموال للمؤلفين والمترجمين والمحررين والطابعين ومصانع الورق وغيرهم لإنتاج الكتاب، ثم يستردُّ أمواله ممن يشترونه. وتختلف دار النشر عن المطبعة، وقد يكون الناشر صاحب المطبعة.
ويأخذ الناشر مكان المركز في عملية النشر، إنَّه يأخذ المادة الخام (النص) من المؤلف أو الكاتب ويحوّلها إلى مادة مصنّعة بعد طباعتها، ويقوم بتسويقها وتوزيعها بعدة طرق. إنَّ الناشر هو الذي يدير النتاج الفكري المنشور، وهو المسؤول عن الكم والكيف في المادة المنشورة؛ ولهذا يجب أن يكون إداريًّا وناقدًا وعالمَ نفسٍ وفنانًا وخبيرًا بشؤون الطباعة والنشر والتوزيع. ومن الواضح أنَّ كلَّ هذه المهارات لا يمكن أن توجد في شخص واحد، لذلك فإنَّها توزع في دور النشر على عدد من الأخصائيين؛ ولهذا أصبحت دور النشر الكبيرة مؤسسات يعمل فيها عدد كبير من الأشخاص في مختلف التخصصات.
أمَّا عن دور الناشر في صناعة النشر، فيتمثل فيما يلي:
- الناشرُ هو الذي يختار العنوان والموضوعات لأنَّه يعرف ميول القراء.
- الناشرُ هو الذي يدير العلاقة بين أطراف النشر الثلاثة (المؤلف والطابع والموزع) بماله وجهده ووقته.
- الناشرُ هو الذي يتحمل مسؤولية التمويل المالي إلى جانب مخاطر النشر.
- الناشرُ هو الذي لديه العلاقةُ المتعددة مع الموزعين ومع المكتبات، ولديه خبرةٌ في أسواق ومعارض الكتب والدعاية والتسويق.
- الناشرُ هو الذي لديه مجموعةٌ من المستشارين والمحرّرين والمصمّمين والمدقّقين الذي يحوّلون المسودة الأولى للمؤلف إلى كتاب، وهو الذي يدفع الأموال لهم وللمطبعة وغيرها من الأطراف.
بالنسبة للنشر الإلكترونيّ فهو ذلك النوع من النشر الذي يتم من خلاله نقل المعلومات أو الرسائل الفكرية من المصدر (المؤلف أو الكاتب) إلى المتلقي (المستفيد)، اعتمادًا على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة؛ مثل الحواسيب وما يرتبط بها من وسائل خزن واسترجاع وبث للمعلومات من خلال شبكات المعلومات وغيرها.
وقد تمَّ التوجه للنشر الإلكتروني لمواكبة الانفجار المعلوماتي، والحاجة الماسة لمتابعة ما يُنشر بشكل سريع وبطرق سهلة وغير مكلفة، كما أنَّ النتاج الفكري العالمي المطبوع يحتاج إلى أماكن واسعة وتكلفة عالية للحفظ، أضف إلى ذلك توافر الحواسيب العملاقة والمتقدمة وربطها من خلال شبكات المعلومات المحلية والوطنية والعالمية، وانخفاض تكلفة ذلك سارع في ظهور النشر الإلكتروني.
وقد دخل النشر الإلكتروني إلى العديد من أوعية المعلومات من خلال الكتب الإلكترونية والدوريات الإلكترونية والمراجع الإلكترونية والصحف الإلكترونية والرسائل الجامعية الإلكترونية والخرائط والصور، وغيرها من المواد السمعية والبصرية.
ويتطلب النشرُ الإلكتروني وجود المؤلف والمعلومات وأخصائيي المعلومات والأجهزة اللازمة؛ وبخاصة الحواسيب والماسحات الضوئية والطابعات، بالإضافة إلى البرمجيات المناسبة وشبكة الإنترنت.
ويمتاز النشرُ الإلكتروني بتوفير تكلفة الورق والطباعة والسرعة في عملية البحث والاسترجاع للمعلومات، وسهولة تحديث النص أو المحتوى، والحرية المطلقة في النشر، ورخص تكلفة التسويق والتوزيع، وسهولة البحث عن المعلومات، وإمكانية النشر الذاتي، وإتاحة المادة لعدد غير محدد من المستفيدين، والجودة العالية والتفاعلية، والمردود الاقتصادي للمؤلف وللناشر، بالإضافة إلى المحافظة على البيئة.
وتتأثر صناعة النشر بعدد من العوامل التي تؤثر فيها من حيث التقدم والتطور، أو التأخر والتعثر؛ ومن أهمّها:
- حركة البحث العلمي.
- توافر الحوافز المادية والمعنوية للتأليف والترجمة والنشر.
- دعم القطاع العام والقطاع الخاص لحركة التأليف والنشر.
- توافر المجتمع القارئ (مجتمع المعلومات).
- انتشار المكتبات ومراكز المعلومات بمختلف أنواعها.
- وجود مؤسسات ذات علاقة مثل جمعيات المكتبات واتحادات الكتاب واتحادات الناشرين وغيرها.
- الإعلام المتعلق بالنتاج الفكري على المستوى المحلي والوطني والعالمي.
ولكن هل لصناعة النشر دورٌ اقتصاديّ؟
الجواب نعم بالتأكيد، ذلك أنَّه على هامش صناعة النشر تقوم مهن وحِرَف وصناعات صغيرة أخرى كثيرة يشتغل بها عددٌ كبير من أفراد المجتمع، كالتأليف والترجمة والصف والإخراج والتصميم والتحرير والطباعة والتجليد والتغليف والمحاسبة والشحن والتخليص والتوزيع والمكتبات التجارية والبرمجة وغيرها. وتشمل صناعة النشر نشاطات ثقافية عديدة كالندوات وحفلات توقيع الكتب ومعارض الكتب وغيرها.
وتواجه صناعة النشر في الدول العربية العديد من المشكلات والتحديات؛ من أهمها:
- ارتفاع نسبة الأمية القرائية في العديد من الدول العربية.
- العزوف عن القراءة وضعف الاهتمام بتنمية عادة القراءة عند الصغار.
- اقتصار عادة القراءة على الكتب العلمية والأكاديمية المتخصصة.
- تشديد الرقابة على النشر في معظم الدول العربية.
- تفشي ظاهرة التزوير والنسخ والتصوير والاعتداء على حقوق الملكية الفكرية للمؤلف وللناشر.
- ارتفاع تكاليف السفر والشحن والرسوم الجمركية والمشاركة في معارض الكتب.
- تواضع الميزانية المخصّصة لشراء الكتب في المكتبات المدرسية والعامة والجامعية وغيرها.
- الأوضاع السياسية والاقتصادية وجائحة كورونا.
وتمرُّ صناعة النشر في الدول العربية بأزمة خانقة جدًّا منذ بداية الربيع العربي، بسبب إلغاء أو تأجيل معظم معارض الكتب في الدول العربية؛ وبخاصة معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي كان الناشرون ينتظرونه سنويًّا؛ ليسهم في حلِّ كثيرٍ من مشكلاتهم التسويقية والمالية، ثم جاء الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمرُّ فيه جميع الدول العربية، والذي ينعكس مباشرة على المكتبات ومؤسسات المعلومات ليزيد من حجم المشكلة. وأخيراً جاءت جائحة كورونا لتشكّل ضربة موجعة لصناعة النشر في الدول العربية حيث توقفت تمامًا، وأُصيبت بالشلل التام عند بعض الناشرين، وقد تنهار كما قال أحد الناشرين، كما تحتاج إلى عدة سنوات لكي تتعافى كما يقول رئيسُ اتحاد الناشرين الأردنيين.

المراجع:
- ربحي مصطفى عليان. حركة النشر في الأردن، عمان: اتحاد الناشرين الأردنيين، 2003.
- ربحي مصطفى عليان وإيمان السامرائي. النشر الإلكتروني، عمان: دار صفاء، 2010.
- شروق العصفور، صناعة النشر، أزمة خانقة ومستقبل مجهول alrai.com/article تاريخ الدخول: 12/5/2021م.
- محمد رشاد. صناعة النشر في عالمنا العربي. info@arab-pa.org تاريخ الدخول: 10/5/2021.