تعدّدية التيارات الثقافيّة-السياسيّة في المجتمع الأردني والعربي المعاصر

يستطيع الدارس المتأنّي للتطوّرات الاجتماعية والفكريّة المعاصرة في الأردن والوطن العربي ملاحظة عددٍ متنوّع من التيارات الثقافيّة – السياسيّة، والفئات الثقافيّة المنضوية تحت لوائها، والتي تمتلك رؤىً نظريّة، ومواقف سياسية خاصة بها، وتفسيرات للواقع والحياة والمستقبل بما يتناسب مع مصالحها، وتطلّعات الجماعات والقضايا التي تمثّلها. وهي رؤىً متنافسة على الساحة الثقافيّة والسياسيّة بالرغم من التداخل الكبير بين مرجعياتها النظريّة، مما يُغني المشهد الثقافي ويزيده جاذبيّة، خصوصًا أن هذه التيارات الثقافيّة- السياسيّة تستمد جزءً كبيراّ من حيويتها من التعدّديّة السكانيّة من شتى المنابت والأصول التي تميّز المجتمع الأردني والعربي؛ فهي مصدر غنىً وإثراء للنسيج الوطني وللإنجاز الحضاري للدولة الوطنيّة العربيّة، ورافدًا للإبداع الأدبي والفني والعلمي بشكل عام. كما إنها تدعم الحوار الإيجابي الهادف للوصول إلى توافقات مجتمعيّة حول التشريعات السياسيّة، وسياسات الإصلاح والتطوير، ومواجهة التحدّيات المجتمعيّة، وغيرها. وهذه التعدّديّة عدة أنواع، منها تعدّديّة المكوّنات السكانيّة للمجتمع، وتعدّديّة المهن والنشاطات الاقتصاديّة، وتعدّديّة الطوائف الدينيّة، وتعدّديّة المكوّنات الفكريّة للتيارات الثقافيّة السياسيّة المتفاعلة والمتنافسة أحيانًا في تقديمها للتصوّرات النظريّة حول الواقع، وعوامل تشكّله، واقتراحاتها لبرامج عمل لتطويره بما يخدم مصالحها ومصالح المجتمع والدولة.
وبعيدًا عن التصنيفات المألوفة إلى وطني، وإسلاموي، ويساري فإن المشهد الثقافي- السياسي أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. فقد أدّت التطوّرات الاقتصاديّة والسياسيّة والمهنيّة والفكريّة المتسارعة إلى بروز تيارات ثقافيّة سياسيّة، وفئات ثقافيّة جديدة متعدّدة يتداخل بعضها مع التصنيفات الثقافيّة القديمة، ولكنها تتمايز عنها. ويمكن توضيح الخارطة الثقافيّة- السياسيّة العربيّة المعاصرة ودورها في صياغة الواقع وتطويره المستقبلي إلى ما يأتي: ثقافة السلطة السياسيّة وهي تُنتج الواقع الموضوعي بدعم من المؤسّسات الرسميّة، والتشريعات، والقوانين الضابطة للسلوك، وتقدّم المعلومات والتفسيرات التي تتحوّل إلى بنىً وحقائق قانونيّة واجتماعيّة ضاغطة وملزمة. والثقافة الأدبيّة- اللغويّة والفنيّة، وهي تتمثّل بشكل خاص بالرواية والشعر والفنون وتُنتج الواقع الافتراضي وجمالياته. وثقافة العلوم الاجتماعيّة، وهي تُنتج الواقع الموضوعي والاجتماعي التوافقي بما فيه من المعرفة والحقائق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، من خلال المناهج الإحصائيّة والمسوح الاجتماعيّة، واستطلاعات الرأي. وثقافة العلوم الطبيعيّة والطبيّة، وهي تقدّم المعرفة والحقائق الطبيّة والماديّة، وتنشر الممارسات العلميّة الصحيحة في مجالات محدّدة مثل الطب، والصيدلة، والهندسة، والتقنيات الإلكترونيّة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي. والثقافة الدينيّة- السياسيّة، وتقدّم المعارف والمهارات، والتفسيرات الدينيّة حول العبادات وأمور الحياة والموت والحياة الأخرى، وهي تستند إلى مرجعيات دينيّة، أو إلى تفسيرات دينيّة فقهيّة تتضمن اجتهادات ورؤى للواقع والمستقبل. والثقافة السيبرانيّة التقنيّة، وهي تقدّم المعارف والمهارات الإلكترونيّة والتقنيّة، وتنشر المنصّات والتطبيقات الإلكترونيّة التي تطوّرها، وخطوات استخدامها والاستفادة منها.
وغنيّ عن القول إن كل تيار من هذه التيارات الثقافية يُنتج ممثليه، ومؤسّساته، ومصالحه الخاصة، وتصوّراته النظريّة، ونجومه الذين يقومون بدورهم من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة، ووسائل التواصل الاجتماعي في تدعيم انتشار وهيمنة الثقافة التي ينتمون إليها نصرة لقضاياهم، وتدعيمّا لمصالحهم ومصالح الجماعات التي ينتمون إليها. بقي أن نقول إن الملاحق الثقافيّة في الصحف الأردنيّة والعربيّة لا تزال أسيرة لمرحلة سيطرة الثقافة الأدبيّة-اللغويّة التي هيمنت على المجتمع العربي فترات طويلة ماضية، بحيث يمكن الإشارة إليها على أنها لا تزال، إلى حد ملحوظ، ملاحق أدبيّة لغويّة أكثر من كونها ملاحق ثقافيّة وفنيّة. وتُبذل الجهود حاليًّا لتطوير هذه الملاحق لتنسجم مع التحوّلات العميقة في كلٍ من مفهوم الثقافة، ومفهوم المثقّف في الأردن والبلدان العربيّة.

mkhameshh@gmail.con