ضوءٌ كما الماء!

غابرييل غارثيا ماركيث*
ترجمتها عن الإسبانية: أمل العلي
كاتبة ومترجمة أردنية
" <esperanza92002@yahoo.com

في عيد الميلاد، طلب الطفلان زورق التجديف مجدّداً.
قال الأب: حسناً، سنشتريه بعد عودتنا إلى كارتاخينا.
لكن "توتو"، البالغ من العمر تسعة أعوام، و"خويل" في السادسة من عمره، كانا أشد تصميماً مما اعتقده والداهما. فقالا معاً:
- كلا.. إنَّنا نحتاجه الآن وهنا.
قالت الأم: أولاً، لا يوجد ماء للإبحار سوى الماء الذي ينزل من دش الاستحمام.
وقد كانت هي وزوجها على حق؛ ففي بيتهم في "كارتاخينا دي اندياس" يوجد فناء فيه رصيف على الخليج، ومكان يتسع ليختين كبيرين، أمَّا هنا في مدريد فيعيشون في شقة ضيقة في الطابق الخامس من المبنى رقم 47 في شارع "باسيو دي لا كاستيانا". ولكنَّهما في نهاية المطاف لم يستطيعا الرفض، لأنَّهما وعدا الطفلين بزورق تجديف مع آلة السدس، وبوصلة إذا فازا بإكليل الغار في السنة الابتدائية الثالثة، وقد فازا به. وهكذا اشترى الأب كلَّ شيء، دون أن يخبر زوجته، وهي الأكثر معارضة لتحمل ديون من أجل الألعاب، كان زورقاً بديعاً من الألمونيوم، مزيّناً بخطٍ ذهبي عند حد الغطاس.
عند الغداء كشف الأب السر قائلاً:
- الزورق موجودٌ في المرآب.
المشكلة أنَّه لا يمكن الصعود به في المصعد أو على الدرج، ولا يوجد مكان كافٍ في المرآب. ومع ذلك، دعا الطفلان أصدقاءهما يوم السبت التالي للصعود بالزورق على الدرج، وتمكنوا من حمله إلى غرفة المستودع في البيت.
قال لهم الأب: تهانينا... ماذا الآن؟
أجاب الطفلان: لا شيء الآن، كلُّ ما أردناه هو حمل الزورق إلى الغرفة، وها هو ذا هنا.
مساء يوم الأربعاء، ومثل كل أربعاء، ذهب الوالدان إلى السينما، أمَّا الطفلان، صاحبا البيت وسيداه، فقد أغلقا الأبواب والنوافذ، وكسرا أحد مصابيح الصالة المضاءة، فبدأ تيار من الضوء الذهبي والبارد مثل الماء يتدفق من المصباح المكسور، تركاه يسيل إلى أن بلغ ارتفاعه أربعة أقدام. عندئذ أقفلا التيار، وأخرجا الزورق وأبحرا بين جزر البيت باستمتاع.
كانت هذه المغامرة الرائعة نتيجة طيش "مني" حين شاركت في ندوةٍ حول شعر الأدوات المنزلية، فقد سألني "توتو" كيف يُضاء النور بمجرد ضغط الزر، ولم تكن لديَّ الشجاعة للتفكير بالأمر مرتين.
فأجبته: الضوءُ كما الماء، يفتح أحدنا الصنبور، فيخرج.
وهكذا واصلا الإبحار مساء كل أربعاء، وتعلما استخدام آلة السدس والبوصلة، وحين يعود الوالدان من السينما يجدانهما نائمين مثل ملاكين على الأرض. وبعد عدة شهور، كانا متشوقين للمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، فطلبا أجهزة للصيد تحت الماء، مجموعة كاملة: أقنعة، وزعانف الغوص، وأسطوانات أكسجين، وبنادق هواء مضغوط.
قال الأب: أمرٌ سيء أن يكون لديكما في غرفة المستودع زورق تجديف لا يمكن استخدامه في شيء، لكن الأسوأ من ذلك هو أن تطلبا الحصول على أجهزة غوص.
قال "خويل": وإذا فزنا بالغاردينيا الذهبية في الفصل الدراسي الأول!
فقالت الأم مذعورة: لا، لا شيء آخر.
لامها الأب على عدم تساهلها.
فقالت: المشكلة أنَّ هذين الولدين لا يفوزان بمِقص الأظافر لمجرد القيام بالواجب، أمَّا من أجل نزواتهما فإنَّهما مستعدان للفوز حتى بكرسي المعلم.
وفي نهاية المطاف، لم يقل الوالدان "نعم" أو "لا"، ولكنَّ "توتو" و"خويل" اللذين كانا يحتلّان المراكز الأخيرة في الأعوام السابقة، فازا كلاهما بالغاردينيا الذهبية في تموز وحصلا على ثناء علني من المدير. وفي ذلك المساء نفسه، ودون أن يطلبا، وجدا في غرفة نومهما أجهزة الغوص في عُلبها الأصلية. وفي يوم الأربعاء التالي، بينما كان الوالدان يشاهدان "التانغو الأخير في باريس"، ملأ الطفلان الشقة إلى ارتفاع ذراعين، وغاصا مثل سمكتي قرش وديعتين تحت الأثاث والأسِرّة، وأخرجا من أعماق الضوء الأشياء التي كانا قد فقداها منذ أعوام في الظلام.
وعند منح الجوائز النهائية، تم اختيار الأخوين طالبين مثاليين في المدرسة، وقُدمت لهما شهادات الامتياز. وهذه المرة لم يطلبا شيئاً، لأنَّ والديهما سألاهما عما يريدانه، وقد كانا عاقلين لدرجة أنَّهما لم يرغبا إلا في إقامة حفلة في البيت لتكريم زملائهم في الفصل.
كان الأب متألقاً وهو يتحدث مع زوجته على انفراد: هذا دليل على نضجهما.
فقالت الأم: آمين.
وفي يوم الأربعاء التالي، وبينما كان الوالدان يشاهدان فيلم "معركة الجزائر"، رأى الناس الذين كانوا يمرون في شارع "كاستيانا" شلالاً من الضوء يهوي من عمارة قديمة مختفية بين الأشجار، كان يخرج من الشرفات، ويتدفق بغزارة على واجهة المبنى، ويجري في الجادة العريضة في سيل ذهبي يضيء المدينة حتى "غواداراما".
حطّم رجال الإطفاء الذين تم استدعاؤهم على عجل باب الطابق الخامس، ووجدوا البيت طافحاً بالضوء حتى السقف. كانت الأريكة والمقاعد المغلفة بالجلد تطفو في الصالة على مستويات عدة ما بين زجاجات المشروب والبيانو بشرشفه الذي صُنع من "المانيلا"، وكان يتحرك وسط الماء مثل سمكة مانتاريا ذهبية. وكانت الأدوات المنزلية في أوج شاعريتها، تطير بأجنحتها الخاصة في سماء المطبخ، بينما تطفو أدوات الجوقة الحربية التي كان الطفلان يستخدمانها للرقص على غير هدى بين الأسماك الملونة التي تحرّرت من الحوض الذي تحبسها فيه الأم. وكانت تلك الأسماك الملونة التي تحرّرت هي الوحيدة التي تطفو حيّةً وسعيدةً في المستنقع الفسيح المضيء. وفي الحمام، كانت تطفو فراشي أسنان الجميع، وأنابيب الكريم، وطقم أسنان الأم الاصطناعية. وكان تلفزيون الصالة يطفو مائلاً وهو لا يزال مفتوحاً يبثُّ الحلقة الأخيرة من فيلم منتصف الليل المحظور على الأطفال.
في نهاية الممر، كان الطفلان عائمين بين مائين... "توتو" جالساً في مؤخرة الزورق، متشبثاً بالمجدافين والقناع على وجهه، وهو يبحث عن فنار الميناء بقدر ما سمح له الهواء الموجود في الأسطوانة، و"خويل" يطفو في مقدمة المركب، وهو ما يزال يبحث بآلة السدس عن موقع نجم القطب. وكان رفاقهم- في الفصل- السبعة والثلاثين يطفون في جميع أرجاء المنزل، ويخلدون لحظة تبولهم في أصيص الجرانيوم، ويغنون النشيد المدرسي بكلمات محورة ساخرين من المدير، أو يتناولون خفية كأس براندي من زجاجة الأب.
ولأنَّهم فتحوا أنواراً كثيرة في وقت واحد، فقد فاض البيت وغرق جميع تلاميذ الصف الرابع الابتدائي في مدرسة "سان خوليان" في الطابق الخامس من المبنى رقم 47 في "باسيو دي كاستيانا" في مدريد بإسبانيا، المدينة النائية ذات الصيف الحار والرياح المتجمدة، والتي لا يوجد فيها بحر ولا نهر، ولم يكن سكانها أبداً ماهرين في فنون الإبحار في الضوء.
---------------------------
*عن المؤلف: روائي وصحفي وناشر وناشط سياسي كولمبي. ولد عام 1927 في مدينة أراكاتاكا في مديرية ماجدالينا وعاش معظم حياته في المكسيك وأوروبا ويقضي معظم وقته في مدينة مكسيكو. نال جائزة نوبل للأدب عام 1982 وذلك تقديراً للقصص القصيرة والروايات التي كتبها.

المصدر:http://arquitectura.unam.mx/uploads/8/1/1/0/8110907/luz_agua_marquez.pdf