أثرُ الفنون الإسلاميّة في الفنون الأوروبيّة

حسناء عبد الحميد محمد
كاتبة وباحثة مصرية
بدأت الفنونُ الإسلاميّةُ تؤثر في الفنون الغربية الأوروبية منذ العصور الوسطى، حين أُعجب الفنانون الغربيون بكثير من منتجات الصناع والفنانين في ديار الإسلام، سواء أكانوا من المسلمين أم من النصارى وأخذوا عنهم بعض الموضوعات الزخرفية والأساليب الفنية.
وليس هذا التبادل الفني غريباً في شيء، فقد اتصل الشرق الإسلامي بأوروبا في العصور الوسطى بواسطة التجار أولاً والمدينة في الأندلس وجزيرة صقلية ثانياً، وبفضل مشاهدات الحجاج النصارى في الأراضي المقدسة وما كانوا يحملون معهم إلى أوروبا من التحف الإسلامية، ثم بواسطة الحروب الصليبية، بالإضافة إلى اتصال الأوروبيين بالدولة العثمانية بعد ذلك.
دور التجارة
أمَّا التجارة بين موانئ مصر والشام وآسيا الصغرى وموانئ شبه الجزيرة الإيطالية وساحل فرنسا الجنوبي فكانت زاهرة إلى حد بعيد، وكان التجار لا ينقلون إلى أوروبا بضائع الشرق الإسلامي فحسب، بل ينقلون أيضاً ما يجمعه التجار من بضائع الشرق الأقصى، وكانت العلاقات التجارية وثيقة بين الأمم الإسلامية وبلاد الروس ووسط أوروبا وشمالها، وكانت قوافل التجار المسلمين منتشرة في الطرق التجارية بين بحار الصين وآسيا الوسطى وسواحل بحر البلطيق وأكبر دليل على ذلك ما عُثر عليه من قطع العملة الإسلامية في روسيا وفنلندا والسويد والدانمارك وغيرها، وهذه العملة ترجع إلى القرنين الأول والخامس بعد الهجرة( السابع والحادي عشر الميلادي)، وكذلك تؤيد كتب الرحلات وتقويم البلدان تردّد التجار المسلمين على جنوب روسيا القسطنطينية والمدن التجارية في إيطاليا، وتشير إلى وصول بعضهم إلى أوروبا الوسطى، كما أنَّها تصف المملكة التي أسسها البلغار في حوض الفلجا الأوسط وانتشر فيها الإسلام وزارها الرحالة ابن فضلان سنة( 309ه) ( 921م).
بولندا حلقة الوصل
وكانت بولندا من حلقات الاتصال بين الغرب والشرق الأدنى ولا سيّما في القرنين الثامن والتاسع بعد الهجرة(الرابع عشر والخامس عشر للميلاد).
وتأثرت كثيراً بالفنون الإسلامية في تركيا وإيران على الرغم من أنَّها لم تكن جزءاً من الإمبراطورية العثمانية كما كانت شبه جزيرة البلقان مثلاً؛ وذلك لأنَّ المدن الواقعة جنوب شرقي بولندا كانت تحصل على تحف شرقية كثيرة من مواني البحر الأسود، بالإضافة إلى أنَّه كان في بعض مدن بولندا وبخاصة "لوفوف" أو "لمبرج" مهاجرون من الأرمن واليونان نزحوا إلى تلك البلاد منذ القرن السابع الهجري( الثالث عشر الميلادي) ولكنَّهم لم يقطعوا أسباب الاتصال بأوطانهم الأولى، فكانوا يستوردون منها البضائع والتحف الشرقية، كما كانوا يشيدون الكنائس والعمائر في مهجرهم على الأساليب الفنية التي تلقونها في بلادهم، وقد أصبحت هذه الأساليب الفنية ذات صلة وثيقة بالفنون الإسلامية منذ استولى المسلمون على أرمينيا وامتدَّ نفوذهم الفني إلى البلقان.
وزاد اتصال بولندا بالشرق الأدنى في القرنين العاشر والحادي عشر للهجرة( السادس عشر والسابع عشر للميلاد)، بعد أن امتدَّ نفوذ الأتراك العثمانيين شمالي البلقان فعظُم نشاط التجار الترك والأرمن واليونان وأصبحت بولندا من أهم الأسواق لتصريف البضائع والتحف التركية والإيرانية، ثم أقبل الصناع والفنانون البولنديون على تقليد هذه المنتجات الفنية ولا سيَّما المنسوجات والسجاد والتحف المعدنية والحلي والأسلحة، وكانت بعض الأسر البولندية توصي بنسج السجاجيد الشرقية في تركيا وإيران على أن تنسج عليها شعارها أو شاراتها الخاصة.
الأندلسُ رمزُ المدنيّة الإسلاميّة
أمَّا الأندلس فقد ازدهرت فيها المدنيّة الإسلاميّة، وأصبحت قرطبة في القرن الرابع الهجري( العاشر الميلادي)، أكثر المدن في أوروبا ازدهاراً وأعظمها مدنيّةً، وكان عصر ملوك الطوائف باعثاً على تعدد مراكز العلم والأدب والفن في شبه الجزيرة، وجاء ملوك المرابطين والموحدين فكان اضطهادهم للمستعربين من بني الأندلس سبباً في هجرتهم إلى الشمال حيث نقلوا كثيراً من عادات المسلمين وأزيائهم وصناعاتهم.
ولمَّا تقدمت فتوحات المسيحيين وأخذ نفوذ العرب في التقلص دخل كثير من المسلمين تحت حكم المسيحيين وصاروا يعملون للملوك والأمراء الأسبان، وتعلّم منهم غيرهم فانتشرت أساليبهم الفنية.
وكان سقوط طليطلة في يد المسيحيين سنة(478ه)، (1085م)، ثم قرطبة سنة( 634ه)، (1236م)، فإشبيلية سنة (646ه)، (1248م)، أكبر عامل على امتزاج الصُنّاع العرب أو المستعربين بغيرهم، ثم كان سقوط غرناطة سنة( 897ه)، (1492م)، خاتمة هذا الطور الذي تعلّم فيه الغرب من المسلمين كثيراً من أسرار صناعاتهم في العمارة والفنون الزخرفية، ولعلَّ أهمَّ مظهر لهذا الطور هو الطراز الأسباني الذي يُنسب إلى المدجنين،( وهم المسلمون الذين دخلوا في خدمة المسيحيين بعد زوال دولة الغرب).
وقد نشأ هذ الطراز في طليطلة، واشتغل الصنّاع المدجنون بزخرفة الكنائس ودور الخاصة في أنحاء إسبانيا ونبغوا في صناعة الخزف والمنسوجات والنقش على الأخشاب، وفي العاج، وأينعت الحضارة الإسلامية في جزيرة صقلية منذ فتحها بنو الأغلب في سنة(112ه)، ( 827م)، وعندما زال عنها حكم المسلمين واستولى عليها النورمنديون سنة( 482ه)، (1089م)، بقيت الأساليب الفنية الإسلامية سائدة مدة طويلة، بل انتشرت منها إلى جنوبي إيطاليا وسائر أنحاء القارة الأوروبية؛ لأنَّ النورمنديين اتّبعوا سياسة تسامحٍ دينيٍّ عظيم وعملوا على المساواة بين رعاياهم من العرب والبيزنطيين وسائر المسيحيين.
دورُ الحروب الصليبيّة في نقل الفنون
أمَّا الحروب الصليبيّة بغض النظر عن أهدافها ونتائجها التي ليست مجال دراستنا هذه، فإنَّها قد زادت الاتصال بين المسيحيين والشرق الإسلامي، وأوجدت منفذاً لتجارة المدن الإيطالية ك"جنوة والبندقية"، وكان من النتائج العملية لتأسيس المملكة اللاتينية في بيت المقدس نمو تجارة هذه المدن وإنشاء معاقل لها في الشرق الأدنى، حتى أقام البنادقة على سكِّ نقودٍ ذهبيّة للتعامل مع المسلمين، وكان على هذه النقود كتابات عربية وآيات قرآنية بالإضافة للتاريخ الهجري، وقد ظلَّ ضربها إلى أن احتجَّ عليها البابا "أنسونت الرابع" عام( 1249م).
مظاهرُ الفنون الإسلامية في فنون الغرب؛ العمارة أولى المظاهر:
تتمثل أهم مظاهر الفنون الإسلامية في فنون الغرب في العمارة حيث اقتبس الصليبيون بعض الأساليب المعمارية من قلاع سوريا ومصر كالمشربيات( وهي عبارة عن دعائم يتقارب بعضها من بعض وتحمل فوقها حواجز بارزة، وبين كل دعامتين فتحة مقفولة بباب مستور يمكن أن تصّوب السهام منه إلى رؤوس المحاصرين الذين يحاولون أن يحفروا تحت الجدران، كما يمكن أيضاً أن يُصبُّ على رؤوسهم الزيت أو الماء المغليان، وأكبر مثال لذلك هو باب قصر "قيلنوف ليه أفيجنون" بفرنسا الذي تم إنشاؤه في القرن الرابع عشر الميلادي.
كما اقتبس المعماريون الإنجليز من العمارة الإسلامية زخارف من فروع نباتيّة كانوا يرسمونها في العمائر، تبدو بارزة بروزاً بسيطاً ويسمونها" أرابيسك".
ويظهر تأثير الفنون الإسلامية واضحاً في بعض البلاد الواقعة في جنوب فرنسا ولا سيّما في بلدة "بوي" حيث يُرى الطابع الإسلامي في العقود المتعددة الفصوص، ومن الزخارف المشتقة من الكتابة الكوفية والزخارف المؤلفة من الجدائل أو سعف النخل، ومن العقود ذات الفصوص الملونة وفي الكوابيل الخشبية، وينسب مؤرخو الفنون اختراع العقود المدببة والعقود الستيفية إلى العمارة الإسلامية، ويسلمون بأنَّ العمارة القوطية أخذت عنها استخدام الزخارف الحجرية التي تملأ بها الشبابيك ويركب بينها الزجاج.
الفنون التطبيقية والزخارف
وفي ميدان الفنون الزخرفيّة والتطبيقيّة، فقد كان للزخرف الإسلامي أثرٌ كبيرٌ في تطوّر صناعة الخزف في أوروبا ولا سيّما بواسطة الأندلس الإسلامية التي ازدهرت فيها صناعة الخزفِ ذي البريق المعدني، وكانت مصانعها تشتغل لحساب كثير من البابوات والكرادلة والأسر النبيلة في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وقد نقل الإيطاليون هذه الصناعة عن الأندلس في القرن الخامس عشر.
ونقل الأوربيون عن إيران وتركيا رسوم بعض الزهور التي لم تكن معروفة في الغرب إلا بفضل رسومها الواردة عن الشرق الأدنى منذ القرن الثامن الهجري( الرابع عشر الميلادي).
التحف المعدنيّة
وتأثر الأوربيون كثيراً بالأساليب الفنية في صناعة التحف المعدنية الإسلامية التي كان الإقبال عليها عظيماً في أوروبا، فأقبل الصنّاع على تقليدها خصوصاً في المدن الإيطالية وأوروبا الوسطى، وقد ورثت البندقية هذه الصناعة بعد أن بدأت في الاضمحلال في الشرق الإسلامي منذ القرن الخامس عشر.
وكذلك أقبل البنادقة على تقليد التحف الزجاجية الإسلامية ولا سيّما ما كان منها مموهاً بالميناء، وانتشرت هذه الصناعة من البندقية إلى غيرها من المدن الأوروبية.
نقشُ الخشب وتطعيمه
أمَّا أساليب المسلمين في نقش الخشب وزخرفته وتطعيمه فقد ظهر تأثيرها في فنون البلاد الأوروبية التي كان لها بالعرب اتصال مباشر كالأندلس وجنوبي فرنسا وصقلية، وقلّد البنادقة صناعة التجليد الإسلاميّة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بعد الميلاد، ونقلوا بعض أساليبها التي نقلها عنهم غيرهم من صنّاع الغرب، ولا يزال أثر هذه الصناعة موجوداً في الكتب الأوروبية والصناعة حتى الآن.
فنُّ المنسوجات والسجاد
بينما المنسوجات الإسلامية عمّت شهرتها أوروبا في العصور الوسطى وأصبحت أكثر أنواع المنسوجات في ذلك العهد تحمل أسماء شرقية أو تنسب إلى مدن إسلامية، وكان العرب قد أقاموا في صقلية مصانعَ للنسيج ظلّت عامرة بعد أن زال سلطان المسلمين عن الجزيرة، فتعلم منها الإيطاليون أسرار النسج الإسلامي ودقائقه ونقلوه للمدن الإيطالية المختلفة.
وكان السجاد أيضاً مما أخذه الأوربيون عن الشرق منذ القرن الربع عشر الميلادي، فتعلّم الصنّاع الغربيون صناعته من المسلمين واحتفظوا مدةً طويلةً بالأساليب الشرقية في زخارفه، وقد كان للموضوعات الزخرفية الإسلاميّة أثرٌ كبير في الزخارف الأوروبية عامةً منذ نقلها المدّجنون والصنّاع في المدن الإيطالية؛ وخصوصاً مدينة البندقية.