دروبُ الملح؛ تجارةُ الملح عند البدو والبذور الجنينيّة لسيرورة العولمة المعاصرة.

سعود الشرفات
كاتب وباحث أردني
"للملح تاريخ آخر غير الذي نعرفه اليوم". أمجد ناصر
توطئة
أولاً؛ ليست هذه المقالةُ تنظيراً في البحث السوسيولوجي، ولا الأنثربولوجي المؤسسي أو الأكاديمي الصارم. ولا يدّعي الكاتب بأنَّه متخصصٌ في البحث السيسيولوجي. ولذلك فالمقالةُ مجموعةُ أفكار ومشاهدات، ونتفٌ من تاريخٍ شفوي اندثر – للأسف - ومن هنا فإنَّ الإطار العام لهذه المقالة، هو البحث في سيرورات العولمة الدقيقة، بمحركاتها وتأثيراتها المتباينة في الزمان والمكان على البنى الاجتماعية وأنماط الانتاج.
وغنيّ عن القول بأنَّ الحديث عن البدو يستدعي؛ أو هو لازمة لا غنى عنها للبحث المؤسسي في القبيلة بمفهومها الاجتماعي، والتاريخي الواسع كفكرة وليس مفهوم اصطلاحي، خاصةً وأنَّ بعض الباحثين الغربيين نظرَ إلى القبلية بوصفها تمثيلاً لوعي زائف، وأنَّ البنى القبلية متحجرة وتتصف بالجمود الاجتماعي والثقافي وعدم قابليتها للتطوّر والتغيير والتكييف مع الزمن. وهذه الإشارة مطلوبة لسبب؛ لأنَّ القبيلة والبدو مفهومان مختلفان تماماً حسب المختصّين والباحثين فـي مجال الأنثربولوجيا والاجتماع. ببساطة لأنَّ القبيلة يمكن تكون بدويّة، أو غير بدويّة.
هذا المقال، يخصُّ البدو تحديداً، ولا يخصُّ مفهوم القبيلة أو تعريفاتها المتعددة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنَّ المقصود على وجه التحديد هو جزءٌ من قبائل بدو الشمال وحتى نكون أكثر دقة وتحديداً فإنَّنا نقصد عشيرة الشرفات من قبيلة "أهل الجبل" البدوية العابرة للحدود بين الأردن وسوريا.
الأمر الثاني؛ التأكيد على أنّ هذه المقالة لا تناقش الأدوار التي ما زالت تضطلع بها القبيلة في السياسية العامة في الكثير من البلدان؛ خاصةً العربية؛ سواء في الخليج أو شمال أفريقيا أو الأردن وسوريا والعراق.
الأمر الثالث؛ أنَّ المقالة لا تناقش تفاصيل تغيّر الأدوار التي كانت تضطلع بها القبيلة بفعل التغيّرات الثورية التي سببتها سيرورة العولمة منذ منتصف القرن العشرين؟
إذن؛ فإنَّ هدف المقالة هو الإشارة إلى "نشاط اقتصادي -اجتماعي – ثقافي فرعي" في نمط الإنتاج البدوي البسيط القائم على الترحال وتربية الماشية (الإبل، الأغنام، والماعز). وهذا النشاط الفرعي هو تجارة الملح عبر الحدود الأردنية -السورية-السعودية، وبيعه أو مقايضته بمواد استهلاكية أخرى. وما شكلته هذه العملية من إرهاصات وخيوط جنينية في شبكة تطوّر سيرورة العولمة وتأثيراتها التي ما زالت تتفاعل في العالم والمنطقة.

سياقاتٌ موجزةٌ
حتى نفهم عملية تجارة الملح عند البدو عبر الحدود الأردنية-السورية – السعودية، لا بدَّ لنا من أن نعرج قليلاً وباختصار شديد على السياقات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أخذت بها تجارة الملح تحديداً، وغيرها من النشاطات الاقتصادية في قطاع الخدمات مكانها وظروفها الموضوعية. وفي هذا السياق؛ تقول (دوان تشاتي) البروفسورة في جامعة أكسفورد في دراسة لها عن حياة البدو في سوريا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ونشرت عام 2016م:" إنَّ قوات الانتداب الفرنسي في سوريا شّكـلـت ما يسمى "وحـدة تنظيم نـشـاط الـبـدو" لتسوية نـزاعـات البدو وتنظيم هجرتهم، فكان أنَّها شجعتهم على تسيير شؤونهم بطريقتهم التقليدية على أن لا يزعجوا السكان المستقرين، وهذا يعني الطلب من البدو عدم حمل السلاح في المناطق المستقرة، والتقاتل فيما بينهم فقط، وترك الجماعات المستقرة تحيا بسلام. وبمرور الوقت، أسفر التفاهم المالي والسياسي بين السلطات الفرنسية وبعض زعـمـاء العشائر البدوية في سوريا عـن درجـة مـن التسامح الفرنسي إزاء غـارة هنا ومناوشة هناك من حين إلى آخر.
بالطبع فإنَّ كلَّ من يعرف تاريخ القبائل البدوية العابرة للحدود بين الأردن وسوريا حتى السعودية والعراق، (مثل أهل الجبل، وعنزة، وشمر، وبني صخر، والسردية، والعيسى) يعرف أنَّ هذه الغارات كانت تتجاوز الحدود الدولية المعروفة اليوم."
كانت معارضة البدو الرحل ومقاومتهم للسلطة المركزية للدولة واضحتين منذ أمد بعيد. والبدو الرحل يعملون أينما كانوا على نحو أفضل وهم على هامش الدولة المركزية. ولذلك؛ بقي البدو في بلاد الشام؛ وتحديداً في البادية السورية والأردن على هامش الدولة، ساعين دومًا للحفاظ على خصوصيتهم وأسلوبهم في الحياة، ولكن اعتمادهم على أسلوب الغزو وقطع الطرق عند ضيق الأحوال، دعا السلطات لمحاولة احتوائهم والتحكم بهم مرارًا وبأساليب متعددة ومختلفة.
تعامل معهم الحكام العثمانيون بكثيرٍ من الإهمال. وهو العامل الرئيس الذي ساعد في انتشار أنماط عمليات الغزو والسلب والنهب ومهاجمة القرى والأرياف والطرق التجارية. الأمر أدى في النهاية إلى تعطيل أي تطور للبنى الاقتصادية الأخرى مثل التجارة والحرف؛ لا بل جعل منها مهناً منحطة ومحتقرة لدى البدو؛ ومن هنا جاء احتقار الفلاح والصانع أو الحرفي. ولكن السلطات الاستعمارية البريطانية في الأردن بعد عام 1921م، والفرنسية في سوريا بعد عام 1920م هي من حاولت إدماجهم في المجتمع والدولة خدمةً لمصالحها الاستعمارية، بالترغيب تارةً، وبالترهيب والقوة تارةً أخرى، فسُجّلت أراضٍ واسعة من البادية باسم قادة العشائر الكبيرة في سوريا لتشجيعهم على الاستقرار ووقف النزاعات القبلية، ومنحتهم التمثيل في البرلمانات. وفي الأردن تم أعمق وأوسع إدماج من خلال التجنيد في قوات البادية ثم في القوات المسلحة الأردنية، وتشجيع أبناء قبائل الشمال تحديداً على الاستقرار الدائم، وترك حياة الغزو والسلب والنهب والترحال عبر الحدود والاستقرار ضمن حدود ما بات يعرف بالأردن حالياً. ومعروف لدى المتابعين الأردنيين من مؤرخين وعلماء اجتماع وسياسية وأنثروبولوجيا بأنَّ الضابط البريطاني "كلوب باشا" كان له الدورُ الأكبرُ في إنجاح عملية التحوّل الكبير، حيث كان يستخدم علاقاته الشخصية وثقافته البدوية في كسب واستمالة البدو وكسب ودهم وإقناعهم بالتحوّل إلى حياة الاستقرار والانضباط في الأردن.
فعلى سبيل المثال أذكر حادثة شخصيّة في هذا المجال. فقد أخبرني المرحوم الوجيه / محمد رجا الجعرّية الشرفات (كان يُلقب: أبو الشيخ) قبل وفاته بسنوات بأنَّ "كلوب باشا" أرسل له شخصاً موثوقاً ومعروفاً بينهما وهو الوجيه / فهد العويّد الرَشيد الشرفات، وكان صديقاً مقرباً من محمد الجعرية. وفهد العويد هذا؛ كان أصلاً من أوائل الفرسان من عشيرة الشرفات الذين التحقوا بقوات الثورة العربية الكبرى التي دخلت دمشق، وخلال حكومة الملك فيصل في سوريا كان يعمل ضمن قوات الهجانة السورية التي كانت تتألف من 300 فرد بقيادة القائد العسكري المعروف الشيخ مرزوق التخيمي اللحياني الذي كان من أشدِّ المقربين إلى الملك عبد الله الأول والملك فيصل. وبعد نهاية حكومة الملك فيصل في سوريا بعد معركة ميسلون عادت الكثير من قوات الهجانة السورية إلى الأردن ومنهم العويد وعدد آخر من أبناء قبيلة الشرفات. ومنهم شُكّلت نواة الهجانة وقوات البادية الأردنية. وهنا ملاحظة تستحق التوقف عندها ألا وهي، أنَّ فكرة تشكيل قوات البادية والهجانة ليست من أفكار "كلوب باشا" بل هي فكرة هاشمية أصلاً شكّلها الملك فيصل بعد دخول سوريا؛ وقوامها المقاتلون البدو خاصةً الذين جاءوا مع الثورة من الجزيرة العربية.
المهم؛ أنَّ فهد العويد ذهب بناءً على تكليف من "كلوب" كرسول إلى محمد الجعرية أثناء تواجده في البادية السورية في جبل العرب التابعة لمحافظة السويداء اليوم، وطلب منه ترك حياة الغزو والسلب، لأنَّها لم تعد صالحة لحياة العصر. لا بل حذره بأنَّ هناك نية للجهات الأردنية بوقف عمليات الغزو عبر الحدود بالقوة العسكرية. وفي الوقت نفسه؛ قدّم له العديد من الإغراءات وحبّب له حياة الانضباط والجيش، وأنَّها ستؤمن له ولعائلته وعشيرته الحياة الكريمة. ذلك أنَّ المرحوم محمد الجعرية كان آنذاك أشهر "عقيد قوم " أي قائد لعمليات الغزو، عند عشيرة الشرفات، في فترة 1900 – 1930 م. وكان معروفاً لدى القبائل البدوية خاصةً في شرق الأردن آنذاك، حيث كانت معظم عمليات الغزو والسلب تجري عبر الحدود السورية داخل الأردن في هذه الفترة. وقد وثّق "كلوب باشا" لهذه الفترة في مذكراته وكتاباته. وكيف أنَّ محمد الجعرية بالفعل قدم إلى الأردن، وقابل "كلوب باشا" الذي استقبله، ورحب به ثم تم تجنيده على الفور في قوات البادية لمدة من الزمن، ثم تحوّل إلى الجيش العربي وشارك في حرب 1948م. ثم كيف انتقل مع عائلته وأقاربه من البادية السورية واستقر في الأردن في منطقة البادية الشمالية الشرقية ضمن محافظة المفرق، التي غدت بعد 1930م الخزان البشري الهائل الذي استقبل معظم عشائر قبيلة أهل الجبل (الشرفات، المساعيد، العظمات، والزبيد). وكما سبق أن قامت السلطات الفرنسية بمنح بعض شيوخ القبائل البدوية الأراضي في سوريا، قام "كلوب باشا" بتفويض منطقة الحرة الأردنية في البادية الشمالية الشرقية التابعة لمحافظة المفرق اليوم باسم محمد الجعرية الشرفات وجماعته، كما قام بتفويض أراضي قرية دير القن – في البادية الشمالية الشرقية -محافظة المفرق باسم فهد العويد الشرفات.
ومن المعروف أنَّ الأردن كدولة ناشئة؛ قام بتوجيه من الملك عبد الله الأول بتأسيس قوات البادية عام 1930 وذلك لمنع الاعتداءات بين القبائل العربية ووقف الغزوات العشائرية المتبادلة. بالإضافة إلى تأمين وصول العشائر، والقبائل الأردنية إلى مناطق الرعي الشتوي مثل مناطق: الجفر، والأزرق. وادي السرحان، وفي مناطق الحرّة والحماد، في الصفاوي، والرويشد. وحراسة الحدود مع سوريا والسعودية، كما شملت حراسة أنابيب النفط المملوكة من قبل شركة نفط العراق والتي ربطت بين العراق وفلسطين، بعد إقامة مصفاة البترول في حيفا في مطلع الأربعينيات، مروراً بالأراضي الأردنية. وقد استقطبت هذه المشاريع الكبيرة الكثير من أبناء البدو في البادية الشمالية الشرقية كعمال وحرّاس وأدلاء. لا بل أصبح بعضهم يعمل مترجماً للغة الإنجليزية.
المهم أنَّ هذه السياقات الاجتماعية والتغيرات الجيوسياسية العميقة التي تلت الحرب العالمية الأولى مهدت الطريق لإرهاصات البذور الجنينية لنوع من العولمة الاقتصادية، وبداية تحوّل سريع لتغيّر البنى الاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية بمنظورها الأوسع بما وفرته على الأقل من أمان وانضباط عبر الحدود كشروط أساسية لأي نوع من التبادل التجاري مهما كان نوعه أو تأثيره؛ حتى لو كان تجارة الملح.
دروبُ الملح: "القَفْل والملاَليح"
يقول الراحل أمجد ناصر:
"للملح تاريخٌ عريضٌ من القوّة والطبقية الاجتماعية عبر مسيرة التحضر الإنساني، بل يمكن القول إنَّ تاريخ الملح هو نفسه تاريخ الإنسان منذ بدأ الزراعة وتدجين الحيوانات، وتجاوز الحاجة إلى شيء من الرفاهية. حروب نشبت، طرق شقَّت، صراعات احتدمت وخبت، أرض اكتشفت، قوافل سُيّرت، مراكب مخرت عباب البحار، قصائد وأعمال أدبية وضُعت، طقوس دينية أُديت، رسائل دبلوماسية بين ملوك وأباطرة كُتبت، كان الملح سببها الأول..."
ولأنَّ هذا المقال ليس عن الملح وتاريخه بحدِّ ذاته؛ فإنَّ ما ذكره أمجد ناصر أعلاه؛ قول موجز وفّر عليّ عناء العرض الموسع لتاريخ الملح؛ الذي عُرف لأول مرة في الصين عام 2000 ق.م واستخدامه الصينيون منذ زمن بعيد في الطهي وحفظ الطعام، والتبادل التجاري وانتشر استخدامه في جميع أنحاء آسيا، والعالم القديم.
كان البدو يطلقون اسم "الملاليح" على الأشخاص الذين يشاركون في قوافل تجارة الملح، وكانت بعض القوافل تضم خمسين جملاً، وبعضها صغير يضمُّ ثلاثة جمال فقط، وغالباً ما تكون القوافل الصغيرة من العائلة نفسها، وكانت النساء تشارك في بعض هذه القوافل جنباً إلى جنب مع الرجال. وكانوا يطلقون على الواحدة من هذه القوافل كلمة " القَفل "، بدلاً من استخدام كلمة القافلة، كعادة البدو باستخدام التجريد والتكثيف والاختصار، وهي من الجذر المعجمي للقافلة نفسه، أو العودة من السفر. وإن كانت هنا -حسب رأيي- تعني تحديداً المشاركين في القافلة.
كان طريق تجارة الملح بين سوريا والأردن يأخذ مسارين مختلفين في الأهمية والطول؛ وهما:
الأول: وهو الأطول؛ ويمتدُّ من جبل العرب والشام باتجاه "قريات الملح" التابعة لمنطقة الجوف في نجد السعودية. وكانت تُسمّى قديماً النبك الفوقي. وهي تجمع قرى صغيرة هي (كاف، وفيها قلعة قديمة تعود للعصر النبطي، منوة، إثره، وعين الحواس). بينما كان بدو الشمال يطلقون عليها " البليدات"، جمع بلدة. وهي اليوم محافظة معروفة في السعودية. وكانت على مسيرة يوم ونصف اليوم على قوافل الجمال حتى جبل العرب التابع لمحافظة السويداء. وتمر هذه الطريق بمحطات للتزوّد بالمياه أولها في منطقة (براك جاوه) وهي ضمن الحدود الأردنية اليوم، البادية الشمالية الشرقية، إلى الشرق من قرية دير القن بــــ 8 كم وتبعد عن مركز محافظة المفرق 95 كم تقريباً. والمحطة الثانية كانت واحة الأزرق. ويمكن القول بأنَّ هذه الطريق (جاوه - الأزرق) تحاذي اليوم الطريق الدولي بين الأردن والعراق.
كانت تجارة الملح عبر القوافل من قريات الملح باتجاه الشام قائمة لمدة ثلاثمئة عام. وقد وصف المستشرق والرحالة الألماني "يوليوس أوتنغ" عام 1883-1884 بعض تفصيلات تجارة الملح في قرية كاف مع البدو، وحتى مع الدروز في جبل العرب. طبعاً هذا قبل اكتشاف الملح من قبل الدروز في الأزرق في وقت متأخر عام 1924م. وكانت تجارة الملح عبر القوافل من قريات الملح باتجاه الشام تعود محملة بشتى أنواع البضائع والسلع والمواد الغذائية خاصةً الحبوب مثل القمح، والحمص، والعدس، والدبس، والثياب، ومستلزمات بيوت الشعر، كالحبال والأعمدة الخشبية، وأدوات الحفظ والتخزين مثل "العدول"، والأواني، وغيرها التي يحتاجها البدو وسكان المدن والقرى في السعودية اليوم.
الملحُ الدمويُّ
تميّزت تجارة الملح على هذا الطريق بالخطورة الشديدة بسبب تعرضها لقطاع الطرق أو الغزاة، خاصةً وأنَّها كانت تعبر ضمن مناطق صراعات قبلية عنيفة، ففي صحراء الحرّة الأردنية وأطرافها حيث كان هناك صراع بين أهل الجبل والرولة. كانت منطقة الحرّة الأردنية باتجاه سوريا منطقة نفوذ لعشيرة الشرفات أواخر القرن التاسع عشر لأنَّها كانت تسيطر على منابع المياه في تلك الصحراء القاسية، حيث كانت تسيطر على ثلاث برك مياه كبيرة، وعدد من عيون المياه الواقعة على وادي راجل في منطقة جاوة الأثرية التي ترجع إلى العصر البرونزي المبكر، النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد (3500-+ ق.م). وعلى الطريق إلى منطقة الأزرق باتجاه القريات كانت هناك قبائل بني صخر، ثم هناك قبائل عنزة الكثيرة حول القريات.
أصبحت طريق الملح مرعبة ودموية للملاليح مع ظهور الحركة الوهابية -خاصةً ما يُسمّى جماعة الأخوين – حيث زاد الخطر على هذا الطريق خاصةً في الفترة 1922-1924م؛ لأنَّ "حركة الأخوين" الوهابية المتطرفة التي أخذت بالهجوم على الأردن، وهاجمت قبائل بني صخر على أطراف عمان في معارك عنيفة انتهت بطردهم إلى أوساط نجد. وقد تم توثيق هذه المعارك في التاريخ الأردني.
لكن الأمر الذي لم يوثق؛ هو أنَّ هذه الحركة المتطرفة كانت تهاجم، وتقتل البدو في البادية الشمالية الشرقية وبادية الشام بحجة الشرك أو تدخين الغليون. وكان بدو الشمال يطلقون عليهم اسم "المديّن ". وقد كان البدو يكرهونهم ويحتقرونهم نتيجة لقسوتهم وعدم احترامهم لعادات البدو المتعارف عليها عبر آلاف السنيين.
يقول رواة من الشرفات - بعضهم مازال على قيد الحياة - بأنَّ "المديّن"، وفي أكثر من واقعة، قطعوا رؤوس ثلاثة "ملاليح" من عشيرة الرشيد الشرفات وأحرقوها واضعين عليها قِدراً لطهي الطعام. كما قتلوا أربعين من "الملاليح" من قبيلة السردية بعد معركة حامية وقافلة الملح تسير، إضافة إلى قتل خمسة ملاليح من عشيرة الشرفات، فخذ الذويخ، أربعة منهم من عائلة الغازي، اثنين منهم أشقاء، وهم (منصور لهد الغازي، ناصر لهد الغازي، حمدان شبيكان الغازي، وعواد مشعل الغازي) والخامس من عائلة الخلوي واسمه اجريّد ضبعان الخلوي، كانوا يشاركون ضمن قافلة قبيلة السردية. وقد قتلهم "جماعة الأخوين" بعد أن لحقوا بهم بعد مغادرتهم قرية إثرة -القريات، في منطقة الغمر في وادي السرحان على الحدود مع الأردن. وكانوا يصيحون بالقافلة "اقتلو الكفرة". بينما نجى أحد "الملاليح" وهو المرحوم جاسم الهُولة الشرفات، فقط لأنَّه تظاهر أمامهم بأنَّه كان يصلي، وذلك عندما صاح أحد قادة الأخوين محذراً بقية أصحابه قائلاً: حيذوركم المصلي – أي احذروا المُصلي – ثم أضاف: توك عرفتها يا حمار (يقصد الصلاة). رغم أنَّ الرواة يدّعون بأنَّ الهولة لم يكن يعرف الصلاة أصلاً آنذاك!
وفي هذه الفاجعة قال الشاعر يرثي شباب عائلة الغازي الذين قتلوا:
"يا بنات الغازي
ادهنن الوجه بالجازي .............(الجازي الرماد)
على زينين الميازي
راحوا للذبح دومّية".
وقبل هذه الحادثة بأيام فقط، كانت قافلة لعشيرة الشرفات مكوّنة من ثلاثين جملاً قد نجت بصعوبة بعد معركة حامية بين "الملاليح" و"المديّن" في قرية إثرة.
وأنا أسجّل تفاصيل هذه الحوادث وأسماء الذين ذهبوا -التي لم توثق من قبل - تخليداً لذكرى هؤلاء "الملاليح " الذين فقدوا أرواحهم وهم يبحثون عن الرزق والعيش الكريم، وذهبوا مبكراً نتيجة التطرف الدينيّ.
تجدر الإشارة إلى أنَّه بعد هجوم حركة الأخوين على قبيلة بني صخر في أطراف عمان أرسلت حكومة شرقي الأردن في أيلول 1922 قوّة مكوّنة من 250 جنديّاً وسيطرت على قلعة "كاف" الأثرية التي تقع في قرية كاف إحدى أهم قريات الملح، لتأمين الحدود الشرقية، والحيلولة دون عمليات القتل التي كانت تقوم بها "جماعة الأخوين"، وأبقت الحكومة فصيلاً عسكرياً في القلعة مكوناً من 50 جندياً رابطوا في القلعة إلى خريف 1924. لكن هذه الهجمات على قوافل الملح تقلّصت بعد اتفاقية "العقير" تشرين ثاني 1922م لترسيم الحدود بين الأردن والسعودية.
وحسب رواة الشرفات فإنَّ استخدام هذه الطريق قد تراجع جدّاً بعد ذلك لأسباب كثيرة أهمها؛ طول المسافة، وانعدام الأمن، والتضيق والتشديد على التنقل عبر الحدود من الجانب السعودي لمصلحة الطريق الثاني لقوافل الملح وهو طريق الأزرق.
يقال بأنه تم اكتشاف الملح في واحة الأزرق بالمصادفة من قبل الصيادين الدروز عام 1924م. ومنذ ذلك الوقت أصبح استخراج الملح هو العمل الرئيس لسكان الأزرق من "الدروز"، وأهم مصدر من مصادر الدخل وبناء شبكة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية مع البدو.
يتميّز طريق الأزرق، بأنَّه كان أقصر للقوافل، وأكثر أمناً وسهولة لقوافل البدو بين الأردن وسوريا خاصةً مع تواجد عدد كبير من عائلات الدروز الذين استوطنوا الأزرق منذ عام 1918، ثم لجأت اليه أعداد أخرى من "الدروز “عام 1924، بعد أن ازداد الوضع في جبل الدروز سوءاً خاصةً بعد ثورة سلطان باشا الأطرش على الفرنسيين ولجوئه إلى الأردن في تموز 1922م. حيث بقيت علاقاتهم مع عائلاتهم وثيقة في قرى جبل العرب، وتوثقت علاقاتهم الاقتصادية والاجتماعية جدّاً مع قبيلة أهل الجبل. وهو أمرٌ سهّل كثيراً في حركة تجارة الملح بين سوريا والأزرق في الأردن لفترة قصيرة من الزمن ضمن قوافل قليلة وصغيرة الحجم، وكان البدو مقابل الملح يشترون القمح، والحمص، والعدس، والدبس، والقهوة والبن، والسكر، والشاي، والدخان الهيشي، ومستلزمات بيوت الشعر مثل الحبال، والأعمدة الخشبية، و"العدول"، و"الشقاق" (القطع والأجزاء الرئيسة التي يتكون منها بيت الشعر) والروايا البلاستكية الخاصة بنقل المياه والدلاء، وأواني الطبخ، والملابس بأنواعها. قبل أن تختفي هذه التجارة إلى الأبد بسبب سيرورة العولمة وما خلقته من التطورات والتغيرات الجيوسياسية الواسعة والعميقة التي عصفت بالمنطقة بعد مرحلة ما يسمّى التخلص من الاستعمار الأجنبي وترسيم الحدود بين سوريا والأردن والسعودية والعراق. والتي كانت نقطة تحوّل تاريخية؛ بنهاية مرحلة من تاريخ البدو في المنطقة، وبدء مرحلة جديدة ما زالت مستمرة.

نظامُ التبادل السلعي والمكاييل
كان نظام التبادل السائد في تجارة الملح آنذاك هو المقايضة. بينما كان نظام المكاييل هو المُد. فقد أجمعت المصادر الشفوية (التي توفرت لديّ) بأنَّ الملح كان يُباع /يُقايض بمكيال المُد. الذي يساوي 20كغم حسب الكثير من المصادر. وكان المُد الواحد من الملح يستبدل بمُد واحد من القمح، وأحياناً أخرى بمُدين من القمح. وكان الملح يُعبأ بأكياس كبيرة يُسمّى واحدها " العِدل" وهو مصنوع من صوف الغنم على الغالب وكانت العدول تتوفر في أسواق الشام. ويستخدمها البدو للتعبئة والتخزين بشكل واسع. والعِدل الواحد يتسع لخمسة أمداد من الملح أي ما يساوي 100كغم. طبعاً هذا لا يعني بأنَّ الملح لا يقايض إلا بالقمح لكن هذا هو النمط الذي كان سائداً خلال تلك الفترة. فنتيجة هذه المقايضة كانت تتوسع إلى مقايضة مواد وسلع أخرى يحتاجها البدوي من المدينة والأسواق الكبيرة في الشام والغوطة -المقصود دمشق اليوم - وكانت أسواق الغوطة هي محج تسوّق البدوي وقضاء وقت الراحة والاستجمام بعد رحلة الملح المضنية والشاقة.
وقد أبدعت السرديات البدوية التجريدية في التعبير عن حالة تجار الملح. ومن ذلك الطُرفة التي كان يتندر بها البدو في وصف حالة تاجر الملح المبتدئ المتحمس قبل انطلاق قافلة الملح، ثم حالته بعد العودة، من خلال هذه المحادثة الفكهة ذات المغزى. والتي تجري على النحو التالي:
في بداية الاستعداد والتحضير لقافلة الملح؛ يلتقي أحدهم شاباً في غاية الحماس والنشاط وهو يُحضر بعيره ومتاعه للسفر، فيسأله قائلاً: (وين وجهك شاد حالك يا فلان) أي، إلى أين أنت ذاهب بهذا الحماس والنشاط يا فلان؟
فيرد الشاب المتحمس بقوة وعنفوان: إلى الملللللح.
لكن؛ بعد عودة هذا الشاب من رحلة الملح ... يسأله أحدهم (منين جيت يا فلان) أي، من أين أتيت يا فلان؟
وهنا يرد الشاب بصعوبة، وكثير من الإعياء والتعب: من الملوي. طبعاً هو يقصد بالملوي الملح.
فالشاب البدوي المتحمس لرحلة قافلة الملح في البداية، يعود متعباً مرهقاً لا يقوى حتى على الكلام. ودلالة على مدى تعبه بل وغضبه من هذه الرحلة يلغي كلمة الملح من استخدامه لما له من ذكرى سيئة لديه، فنراه يصفه بــــــــ "الملْوي". والملْوي كلمة كثيراً ما تُستخدم عند بدو الشمال كناية لشيء سيء، وكريه لا تريد ذكره. وهي بالمناسبة كلمة فصيحة وليست بعيدة عن المعنى المعجمي حيث تأتي بمعان كثيرة، منها الصلب الصعب.

الخاتمة
للملح تاريخٌ طويلٌ في التاريخ البشري، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ المعاملات الاقتصادية في تاريخ البشرية، مشكلاً أول خيوط تشابك العوالم في الحضارات القديمة دافعاً آليات العولمة الاقتصادية إلى التطوّر والازدهار. كما أنَّ له تاريخاً آخر غير الذي نعرفه اليوم، ومن هذا التاريخ غير المعروف؛ تجارة البدو الرحّل في البادية السورية والأردنية به لفترة من الزمن كنمط فرعي من الإنتاج البدوي البسيط.
وبغض النظر عن حجم وعمق هذا النشاط إلا أنَّه ينفي الكثير من المقاربات السيسيولوجية والأنثربولوجية الحتمية التي تدّعي الجمود الاجتماعي والثقافي وعدم قابلية هذا النمط للتطور والتغيير والتكييف مع الزمن.
إنّ النشاط الاقتصادي لنمط الإنتاج البدوي البسيط، لم ينل الكثير من الاهتمام من قبل الباحثين والدارسين في الأردن. وقد يكون البدوي تاجراً، أو خبيراً في النقل عبر الحدود. وقد يقوم زعيم القبيلة البدوية بدور رجل سياسة، يفاوض الآخرين ويقوم بالتحالفات، أو يتحوّل إلى معارض سياسي تبعاً لما يهم مصالح قبيلته. كل هذه أدوار اجتماعية متغيرة وليست حتمية كانت تتطور في الزمان والمكان عبر التاريخ؛ لكنَّها للأسف لم تلق الاهتمام الكافي من البحث والدراسة المتخصصة لأسباب كثيرة – يصعب حصرها في هذا المقال. وربما تحتاج إلى مقالٍ آخر.
إنَّ تجارة الملح عدا عن خطورتها في الكثير من الفترات كما أسلفت، لم تكن سهلة أو رحلة استجمام، بل خطيرة جداً، وملطخة بالدماء؛ فلم يكن الملح أبيضَ دائماً، بل تضرّج بالدماء في كثيرٍ من فترات تاريخ تجارة الملح.
لقد كانت قوافل الملح متعبة، ومضنية جداً للملاليح نتيجة السفر والتحميل والتنزيل وتأثير الملح على أيدي الملاليح وأكفهم، حيث يؤدي إلى الجفاف والتقرحات الشديدة، خاصةً في ظلِّ ارتفاع درجات الحرارة وشحِّ المياه في صحراء الحرّة، التي يتحوّل منتصف الظهيرة في أرجائها إلى قطعة من الجحيم.
إنَّ تاريخ "الملاليح" البدو وحدائهم وهم يعبرون صحراء الحرة اللاهبة؛ انتهى بلا عودة، وأصبح بعضه من الذكريات لمن استطاع القدرة على التذكر في حمأة تسارع سيرورة العولمة التي تُلوّحُ للبدو بمنديل الرحيل المبلل بدموع الوداع.