هاجسُ التجديد والتحديث في الشعر عند عبد الفتاح النجار.

د. ليث سعيد الرواجفة
كاتب وباحث أردني
يُعدُّ الدكتور عبد الفتاح النجار رمزًا للمثابرة والاجتهاد الأكاديمي، فقد قضى عقودًا في الدراسة والبحث والتحليل والإحصاء لإعطاء (الشعر) ونظرية الأدب –عمومًا- معنى أعمق وأشمل؛ مما أسهم في فتح آفاق معرفية جديدة تستند إلى أسس نظرية ومنهجيّة علميّة ذات اختصاص. فقد ترك أثرًا مهمًّا في الساحة النقدية بفضل إنجازاته المسكونة بهاجس البحث عن (التجديد والتحديث في الشعر)، وهو ما دفعه إلى التنقل بين الشعر وعلاقته بالنثر، وبين القديم والجديد، وبين الحداثة والمعاصرة، فالدكتور النجار أكاديميٌّ رائدٌ في مجال الدراسات الأدبية والنقدية في الأردن، والريادة بارزة في مسيرته البحثية الحافلة؛ فقد نجح في إثراء الحقل الأدبي الأردني والعربي بأفكاره ودراساته الرصينة، ومن بين هذه الدراسات:
أولاً- كتاب (الاتجاهات النقديّة في بلاد الشام (1950- 1980) لنقد الشعر العربي المعاصر):
وهي دراسةٌ معنيّةٌ باتجاهات (نقد الشعر) خلال فترة زمانية على جغرافيا محدّدة بأقطار بلاد الشام: الأردن، وفلسطين، وسوريا، ولبنان. اتسعت هذه الدراسة بأبوابها وفصولها الثلاثة التي بدأها النجار بتمهيد؛ تناول فيه النقد الأدبي العربي منذ الجاهلية حتى فجر عصر النهضة، ثمّ منذ فجر عصر النهضة حتى العام 1950م؛ لإعطاء صورة موجزة عمّا كان عليه حال النقد العربي قبل فترة الدراسة. وخصّص جزءًا من هذا التمهيد للنقد الأدبي في هذه البيئة النقديّة منذ فجر عصر النهضة حتى العام 1950؛ لعلاقته المباشرة بفترة الدراسة، وموضوعها، ومكانها. وكان الباب الأول حول الاتجاه الرومانسي في نقد الشعر؛ حيث درس الممارسات النقدية للنقاد، وحلّلها. وفي الباب الثاني تناول النجار الاتجاه الواقعي الاشتراكي، وأفرد الباب الثالث لدراسة الاتجاه البنيوي، والجانب المهم في هذه الدراسة التفريق بين المناهج النقدية، وطرح هذا التفريق بصورة واضحة، بطريقة المعلم بعيدة عن تكلف اللغة التي يستخدمها معظم النقاد.
ثانيًا: كتاب (التجديد في الشعر الأردني 1950- 1978)
وقد قسّمه النجار إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة. أمَّا التمهيد فقد تناول فيه الحركة الشعرية في فلسطين والأردن قبل وحدة الضفتين؛ لأنَّ ذلك –برأيه- يعطي تصورًا عامًا عن حالة الشعر الأردني قبل قيام حركة التجديد، وألقى التمهيد ضوءًا على إرهاصات التجديد وبداياته. وتحدث فيه عن التيارات الشعرية في الأردن فقسمها إلى ثلاثة تيارات وهي: التيار المحافظ، والتيار الذي يجمع بين القديم والجديد، وتيار التجديد. وأشار إلى تاريخ الحركة الشعرية الجديدة في الأردن من 1950- 1978.
خصّص الفصل الأول للحديث عن التجديد في الشكل، على الرغم من إيمانه المطلق بالوحدة العضوية للقصيدة، وبأنَّ الشكل والمضمون لا ينفصلان لأنَّهما بناء واحد كالجسم الواحد -على حد تعبيره- ولكنَّه تناول التجديد في الشكل أولاً لأنَّ التجديد في الشعر بدأ ظاهرة عروضية شكلية مع أنَّ دواعيه كانت تعبير الشعراء بحرية عن أفكارهم ومضامينهم، وعواطفهم، ودرس النجار في هذا الفصل التجديد في موسيقى الشعر، والصورة الشعرية، وإكثار الشعراء من استخدام الرمز والأسطورة، ولغة الشعر، واستخدام الأغاني الشعبية في جسم القصيدة، والتكرار، والتدوير، والقصيدة ذات البنية الدرامية، والقصة الشعرية، والوحدة العضوية، وقصيدة النثر؛ لأنَّ هذه الظواهر تمثّل أهم ظواهر التجديد في شعرنا الحديث. إلى جانب ظاهرة الغموض. أمَّا الفصل الثاني، فقد تناول فيه التجديد في المضمون، ممثلاً في أغراض الشعر ومضامينه، مثل: الحب، والموت، والشعر الاجتماعي، والشعر الوطني، والغربة، والشعر القومي، وقضايا التحرر العالمية. بينما كان الفصل الثالث، لتقويم حركة الشعر الجديد في الأردن في هذه الفترة من خلال الوقوف عند أبرز الآراء النقدية حول حركة الشعر الأردني الجديد، وهي آراء نقاد وشعراء وأساتذة جامعيين وتحديدًا في الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك.
وقد توصل النجار إلى عددٍ كبيرٍ من النتائج المهمة، وكان من أبرزها أنَّ بدايات التجديد في الشعر الأردني تجلّت في تجربتين حاولهما المرحوم الشاعر مصطفى وهبي التل وهما (متى) و(يا حلوة النظرة)، سنة 1942، وبهذا يكون مصطفى من أوائل شعراء العالم العربي الذين بدأوا تجربة الشعر الجديد، وهو أول شاعر أردني حاول هذه التجربة.
ثالثًا- كتاب: (تيسير السبول شاعرًا مجدّدًا)
تساءل الدكتور النجار في مقدمة الكتاب: "ما سبب الاهتمام بتيسير السبول؟"، فأجاب: إنَّ هذا الاهتمام يعود إلى أسباب منها كونه أحد الشعراء الرواد الذين كتبوا الشعر الجديد أو (الحر) في مرحلة مبكرة من حياة الشعر الحر في الأردن، في فترة كان فيها التجديد يُعدُّ مغامرةً خطرة، وخروجًا على التراث، أو الأخلاق، وعلى الدين، وعلى المجتمع، وعلى التقاليد. كما أنَّ السبول كان أحد الشعراء الأردنيين الذين أسهموا في توضيح ملامح الشعر الجديد وترسيخ جذوره في الساحات الشعرية في الأردن.
وقد قسّم هذا الكتاب إلى مقدمة وتمهيد وفصلين وخاتمة؛ أمَّا التمهيد فقد ألقى الضوء على حياة تيسير السبول من أجل فهم أفضل لشعره، كما تناول مفهوم التجديد ومفهوم الشعر الجديد.
وخصّص الفصل الأول للحديث عن التجديد في شكل الشعر عند السبول، فدرس التجديد في الوزن والقافية والصورة الشعرية والتكرار، واستخدام الرمز والأسطورة، والتدوير والبنية الدرامية، ولغة الشعر. أمَّا الفصل الثاني فقد تناول فيه التجديد في المضمون ممثلاً في موضوعات شعره، ومضامينه، وفي طرق تناولها في موقف الشاعر الجديد مثل موضوعات: الحزن، والحب، والسأم، والألم، وكره المدينة والمدنية، والموت، والغربة، وغيرها.
رابعًا: كتاب (الشعر الحر الموجه إلى الأطفال في الأردن)
نلاحظ من عنوان هذا الكتاب انشغال الدكتور النجار بالشعر للكبار وللصغار. تضمّن هذا الكتاب بسطًا نظريًا تناول قصيدة الطفل في الشعر العربي المعاصر، وقصيدة الشعر الحر الموجه إلى الأطفال في الوطن العربي، والشعر الحر الموجه إلى الأطفال في الأردن، وأسماء شعراء حركة الشعر الحر الموجه إلى الأطفال في الأردن، وتناول البسط النظري مفهوم الشعر الحر الموجه إلى الأطفال، وعناصره، وخصائصه.
واحتوى الكتاب دراسة تحليلية للشعر الحر الموجه إلى الأطفال في الأردن من خلال دراسة نتاج أربعة من شعراء حركة الشعر الحر في الأردن وهم: محمود الشلبي، ومحمد الظاهر، ومحمد القيسي، وعلي البتيري.
خامسًا: كتاب: (حركة الشعر الحر في الأردن 1979- 1992)
أشار الدكتور النجار في مقدمة الكتاب إلى ظهور تيار حداثي في الشعر الحر في الأردن بين العامين (1979- 1992) خرج على المألوف، وعلى أسلوب الشعر الحر قبل هذه المرحلة، وازدادت تجارب قصيدة النثر حتى احتلّت مكانًا مرموقًا في المجلات الأدبية، وملحقات الصحف اليومية، وفي الأمسيات، والملتقيات، والمهرجانات الشعرية، مما أحدث تشوشًا لدى المتلقين، وخلطًا بين قصيدة النثر وبين الشعر الحر الموزون، وبخاصة عندما تكون قصيدة النثر مكتوبةً على شكل سطور تشبه سطور الشعر الحر. وهو ما دفعه إلى إجراء هذه الدراسة المهمّة.
تتكون هذه الدراسة من مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة. تناول في التمهيد تطوّر الشعر العربي، ونشوء حركة الشعر الحر في الوطن العربي، ليكون مدخلاً إلى دراسة الشعر الحر في الأردن. وتحدث عن حركة الشعر الحر في الأردن من العام 1950 إلى العام 1978، للوقوف عند واقع هذه الحركة قبل المرحلة موضوع الدراسة.
وقد خصّص الفصل الأول لدراسة مسيرة الشعر الحر في الأردن من العام 1979 إلى العام 1992، ممهدًا لذلك بدراسة الواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي. ودرس في الفصل الثاني ظواهر فنية في الشعر الحر في الأردن، في المرحلة المشار إليها آنفًا. أمَّا الفصل الثالث فتناول فيه ظواهر موضوعية في الشعر الحر في الأردن من العام 1979- 1992، متمثلة في موضوعات: الحب، والمرأة، والموت، والغربة، والشعر الاجتماعي، والشعر الوطني، والشعر القومي، والشعر الإنساني.
وقد تناول في كلِّ ظاهرة من الظواهر التي درسها نتاجَ ثلاثة من شعراء هذه الحركة، وحاول أن تكون هذه العينات من الشعراء دالة على واقع الظاهرة في الشعر الحر في الأردن، في هذه المرحلة، هادفًا إلى تبيّن التطور الذي طرأ على هذه الظواهر الشعرية. مثل: حيدر محمود، ومحمد لافي، ومحمد القيسي، وخليل العبويني، ومحمود الشلبي، ومحمد العامري، وإدوارد عويس، ويوسف عبد العزيز، وسلوى السعيد، وعلي الفزاع، ومحمد مقدادي، وأحمد الخطيب، ونزار اللبدي، وعز الدين المناصرة، وأحمد المصلح، وغيرهم.
سادسًا: كتاب: (قصيدة النثر في الأردن 1979- 1992)
تنبع أهمية هذا الكتاب من الإشكالية التي يعالجها ولا سيّما في المرحلة المبكرة التي كُتِبَ فيها، إذ لم يكن الشعر الحر من الأجناس الأدبية المرحب بها في الساحة الثقافية العربية التي لم تستوعب عملية التعالق بين الشعر والنثر في المستويات الفنية والموضوعاتية آنذاك، والأردن جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية، فواجه الشعر الحر في الأردن إشكالية في إنتاجه وتلقيه، وجاءت دراسة الدكتور النجار ذات الخطاب الأكاديمي الواعي ليشرح من خلالها ظاهرة قصيدة النثر في المدة التي حدّدها وذكرها في العنوان.
عمد الدكتور النجار إلى التركيز على الجوانب الفنية للقصيدة، وعَرّف بهذا النوع الشعري، وشرح أصوله بأسلوب واضح ومبسط يسهل على الشعراء والمثقفين فهمه، فتجنب الخوض في الصراعات التي دارت حول قصيدة النثر وتجاذبها بين القبول والرفض.
تضمن الكتاب تمهيدًا تلاه نشأة قصيدة النثر في الغرب، وتعريفها، وانتقالها إلى الأدب العربي، كما تناول الكتاب دراسة قصيدة النثر في الأردن من العام 1979- 1992 من خلال سبعةٍ من كتابها هم: جميل أبو صبيح، وأمجد ناصر، ومحمد القيسي، وعز الدين المناصرة، وأمينة العدوان، ونادر هدى، وعمر أبي الهيجاء.
وخلص الدكتور النجار إلى أنَّ هذا النوع الأدبي توافرت منه نماذج في المرحلة المشار إليها عند عدد من الشعراء، الذين استغنَوا عن الوزن العروضي في قصائدهم النثرية، وحاولوا أن يوفروا لها بدلًا به إيقاعًا يعتمد في أكثره على التكرار. وقد حلّل أَضْرُبَ الصور الشعريّةِ الحداثية الحاضرة في قصيدة النثر، وعالجَ نماذجَ التكثيف اللغويّ، وعناصرَ الإدهاشِ، والانزياحاتِ، والخروجَ على مألوف المعجم الشعري في سياق الثورة التي تعيشها قصيدة النثر على كثير من العناصر القائمة.
ومن النتائج المهمّة التي توصل إليها الدكتور النجار أنَّ قصيدة النثر في الأردن تقف موقفًا حيًّا مقابل قصيدة الحداثة الموزونة، إذ تمكنت هذه الأخيرة من الإفادة من التقنيات الفنيّة لقصيدة النثر، مع الحفاظ على مكانتها المتقدّمة في حركة الأدب في الأردن، ولكنّ ذلك لا يقلّل من حضور قصيدة النثر الأردنية في الساحة العربية، إلى جوار نتاجاتِ قصيدة النثر العربية في عواصمِها الطليعيّة.
سابعًا: كتاب: (إشكالية العلاقة بين الشاعر والسلطة- مصطفى وهبي التل (عرار) نموذجًا)
بعد اطلاع الدكتور النجار على نتاج عرار، وعلى جلّ ما كُتب عنه؛ لاحظَ أن زاوية من زوايا حياة عرار وشعره، وهي علاقته بالسلطة، لم تنل ما تستحقه من الدراسة. فموقف عرار من السلطة يمثل إشكالية من حيث انتقاله من النقيض إلى النقيض عدة مرات، وهو ما دفعه إلى إجراء هذه الدراسة المهمّة.
تكوّنت هذه الدراسة من مقدمة، وتمهيد تناول نُبذةً من حياة عرار، وموجزًا حول إشكالية العلاقة بين الشاعر والسلطة، ثم تناول بالتفصيل علاقة الشاعر بالسلطة تحت العناوين الآتية:
1. علاقة عرار بالسلطة - الأمير عبدالله بن الحسين- الملك المؤسس.
2. علاقة عرار بالسلطة - الانتداب البريطاني.
3. علاقة عرار بالسلطة - الحكومات الأردنية.
4. علاقة عرار بالسلطة التشريعية (ممثلي الشعب من النواب)، وبالمسؤولين من الأردنيين، وبمحبي الزعامات، وبسماسرة الأراضي.
وقد توخى الدكتور النجارُ البحثَ عن الحقائق في كثيرٍ من المسائل ذات الطابع التاريخي، والسياسي، والوطني أثناء دراسته.
وقد عرض هذا الكتاب الجانب السياسي والثوري من شخصية عرار الرومانسية، وخلص إلى أنَّ عرارًا كان يحمل مشروعًا مثاليًا يتضمنُ تحررَ وطنه من سلطة الانتداب البريطاني، ونشر العدالة، والحرية، والمساواة بين أفراد الشعب، لكن هذا المشروع اصطدم بعوائق كثيرة، وأحاطت به ظروف قاهرة، جعلت تنفيذه صعبًا، فأصاب اليأسُ والإحباطُ عرارًا، شأنه في ذلك شأن الشعراء الرومانسيين، حتى اضُطر في بعض الأحيان إلى أن يهادن السلطة، أو أن يفكر في الرحيل عن الأردن.
ثامنًا: كتاب الالتزام الوطني والقومي في الشعر: نضال القاسم نموذجًا
درسَ الدكتور النجار في هذا الكتاب نموذجًا للشاعر الأخلاقي، الذي يعتز بجذوره ومكوناتِ بنيتِه الفكرية والأدبية والعلمية، فهو ابن الثقافة العربية الإسلامية، ويعنى بمسائل هذه الثقافة ويعي بعمقٍ خصوصيتَها، وتميزَها، وأهميتَها، وفي هذا السياق جاءت دراستُه للالتزام الوطني والقومي في الشعر.
قدَّم في استهلال هذا الكتاب مفهوم الالتزام، وشرح معانيَه، وأهميتَه، ونشأتَه، ودورَه، وتطرق لمفهوم أدب الالتزام، وأشاد بهذا المفهوم الذي يدفع بالشاعر أو الأديب إلى المشاركة بالفكر والعاطفة في القضايا الأخلاقية، والاجتماعية، والوطنية، والسياسية، والقومية لبني وطنه، ورأى الدكتور النجار أنَّ الأديبَ العربي الملتزمَ مُطالَب دومًا بالنقد والنقد الذاتي، وهو مسؤول عن صمته أيضًا، فمن واجبه أن يكتبَ، وأن يحتجَّ، وأن يناضلَ، وأن يوحِّدَ بين فكره وسلوكه. ثم عرض بعد ذلك نماذج شعرية لنضال القاسم، فقام بشرحها وتحليلها وإلقاء الضوء على مسألة الالتزام الوطني، والقومي فيها.

محاولة تطريس( ) أو الكتابة عن الأثر
بعد هذا الاستعراض، والعرض الموجز لبعض دراسات الدكتور عبد الفتاح النجار نجد أنَّها في مجملها كانت معنية بموضوعة (الشعر)، وكانت مسكونة بهاجس البحث عن التجديد، وبيان مظاهر التحديث؛ فجهوده تمثّل محاولة جادة في الكشف عن الآليات المتحكمة في هذه المظاهر الملازمة –بالضرورة- لمرحلة الحداثة، فحاول رصدَها، ووصفَها، وتحليلَها، وتحديدَ مواضع الإبداع فيها؛ أي تحديد (أدبيتَها/ شعريتَها) من خلالِ النماذجَ التطبيقية التي استند إليها.
ومثلما آمن الدكتور النجار بالوحدة العضوية في القصيدة؛ نجدُ هذا الإيمان جليًّا في مشروعه النقدي، فالدكتور عاين تركيبًا لغويًا معقدًا وعصيًا هو (الشعر) انطلاقًا من تفعيله لأدوات المناهج النقدية الحداثية، وقد دعّم هذه الأدوات الغربية بكل ما يلزم لتتكيَّف مع الشعر العربي الحديث، والطبيعة المخصوصة للنص والخطاب الشعريين، وهي إجراءات نقدية فتحت آفاقًا واسعة في مقاربة (الشعر) أخذت بعين الاعتبار الوحدة بين الشكل والمضمون، والعلاقة الناظمة لتشكّل الفكرة الشعرية المراد التعبير عنها عند الشاعر، ونموها، وتحوّلاتها بتحولات مراحل تطورها في الثقافة العربية، وعدم مفارقة التفكير بالجنس الأدبي المدروس (الشعر)، والانشغال عنه حتى وإن كان الحديث حول جانب نظري يستدعيه الإجراء التطبيقي التحليلي. وجدير بالذكر أنَّ الدكتور النجار قد راعى خلفيات التمثيل والتمثل الشعرية الكامنة في أنساق الثقافة العربية في المرحلة الزمانية التي أُنتج فيها ذلك الشعر وذلك النقد للشعر.
إنَّ مشروع الدكتور النجار النقدي يمثّل حلقة مهمّة من المشروع النقدي في الأردن؛ فهو بمثابة الحلقة الثالثة في سياق متدرج تصاعديًا من القديم نحو الحديث أو الجديد، وهو ما حضر في ممارسته النقدية التي انمازت بكونه يعود إلى الجذور وينتقل إلى الحاضر، فلا تخلو دراسة له من تمهيد يفتح الآفاق أمام الموضوع المدروس. ونجد في مشروعه النقدي أنَّه لا ينفك عن وضع تعالقات منطقية بين الفكرة المؤسسة للقصيدة، وبيئتها العربية ذات التشعبات الدينامية المحكومة بقيود نسقية متشظية؛ مثل القيود البلاغية والأجناسية، والاجتماعية، والقومية، والدينية، والأخلاقية، والرمزية والأسطورية.
ولا بدَّ من الإقرار أنَّ صنيع الدكتور النجار النقدي يقدم قضايا مهمة تتمثل الأولى في كيفية تبرير التجديد في الشعر العربي ومسوغاته، وسمات هذا التجديد بوصفه ذي مظاهر مادية ومعنوية ملموستين في النص الشعري على مستوى الشكل والمضمون، وبالإمكان الاستناد على فهم تلك المظاهر والاقتناع بتبريراتها في تحليل المراحل المحايثة لها في الثقافة العربية. وتتمثل القضية الثانية في رصد مراحل التطور والانتقال في القصيدة العربية نحو التجديد والتحديث، وتظهير الأنساق العميقة والخفية في النص الشعري المدروس عبر أرشيف أدبي ونقدي واسعين، وعدم تجاوز آراء الشعراء والمختصين أكاديميًا حول القضية التي يتم دراستها، فلا يكف الدكتور النجار عن محاورة تلك الآراء ومناقشتها، وكأنَّه يؤسس لثقافة النقاش، وسماع الصوت الآخر في دراساته النقدية، وانفتاح الدرس النقدي بدلاً من انغلاقه على ذاته.
إنَّ تلقي جهود الدكتور عبد الفتاح النجار، وقراءة مشروعه النقدي قراءة مغايرة تدفع إلى الإيمان بأنَّه مشروعٌ يتسم بسيرورة نقدية ميزتها التأصيل، والانفتاح، والالتزام المنهجي؛ وهو ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنَّه سعى إلى إظهار الأدب والأديب الأردني، وإعطاء ذلك الإبداع حقه، وكأنَّ على النقدِ واجبٌ وطنيّ عليه الاضطلاع به، كما أنَّه سعى إلى تبسيط الدرس النقدي، وجَعْل قراءة النصوص الأدبية والنقدية يسيرة، وقد نجح بذلك في تحقيق هذه الأهداف السامية حين أعطى الجانب الإنساني حقّه مثلما أعطى المنهجيات والأدوات النقدية حقّها. فالعطاء الذي يأتي من القلب، يعود بفائدة كبيرة لا تنتهي.