قصة "لا بدَّ أنْ ينفطرَ قلب"‏

للكاتب فرمان كريم زاده(*)‏

لم يكن العمل في حجرة المعاطف(1) أمرًا هيّنًا. كانت هذه الإدارة عبارة عن معهد كبير. في ‏اليوم الواحد يأتي ويذهب ألف شخص. ويجب عليكَ أن تأخذ معاطفهم جميعًا وتعلّقها، علاوة ‏على أنه يجب أن تقول كلمات ودودة حتى لا يغضب منكَ أحد. كان معظم الطلاب قادمين من ‏القرى، وبعيدين عن أمهاتهم، وأخواتهم...‏

تقدَّمت "الخالة أمينة" للعمل في هذا المكان وهي على قناعة بهذا الأمر. كانت المرأة التي تسبقها ‏في هذا العمل شابة متينة، فقالت لها هذه الشابة:‏

‏-‏ أنتِ امرأة عجوز، لن تستطيعي القيام بهذا العمل. عندما يأتي الشتاء، سوف ترين كل ‏شخص يرتدي معطفًا طويلًا. وعندما تستلمين منه، تعتقدين أنه مثل سندان الحدّاد من ‏ثقله، يملخ ذراع الشخص ملخًا. قاتل الله مثل هذا العمل، فهذه ليست مهنة أصلًا.‏

لم تصدِّق المرأة هذا في ذلك الوقت. ولكن رأت بعد ذلك، أنَّ الأمر بالفعل كما قالت، وكانت ‏تحمل هذا الثقل بصعوبة بالفعل. كانت دائمًا تأتي إلى العمل عندما ترتفع الشمس في كبد السماء، ‏وتستلم معاطف طلاب الفترة المسائية وتحتفظ بها. خلال يوم واحد سأل الطلاب عن اسمها ‏وعرفوها. وبمجرَّد أن يرنَّ الجرس، يحدث ازدحام أمام حجرة المعاطف لدرجة أنه لا يَسمع أحد ‏ما يُقال، ولا يمكن التحرُّك من كثرة الناس.‏

‏- أيتها "الخالة أمينة"، هذا المعطف الأسود لي؟

‏- أعطِني هذا الأزرق، أنظُرُ إليه.‏

‏- أسرعي، تحرَّكي بسرعة، أصدقائي ذهبوا.‏

كانت المرأة لتفقد نفسها وسط الأصوات المتداخلة، وتلتفت هنا وهناك عبثًا. أمّا هذا اليوم فقد ‏أربكوها ربكة شديدة. فسقط من يدها على الأرض معطف بنّي اللّون جديد تمامًا. صاح صاحبه ‏من بين الطلاب:‏

‏- لا تقدرين على هذا العمل، إذن لا تعملي. ماذا يحدث لو لم تشتغلي، أستموتين؟

ارتعد جسد "الخالة أمينة"، وغشاها إحساس بالبرودة، لم يقُل لها أحد حتى الآن كلمة قاسية مثل ‏هذه. لا زوجها، ولا بناتها، أو ابنها... عندما استدارت ونظرت خلفها، كان غلام مكشوف الرأس ‏وشعره منثور فوق عينيه قد قفز، وتخطّى الحاجز الخشبيّ، وأخذ المعطف الذي سقط على ‏الأرض، وهمس إلى "الخالة أمينة":‏

‏- اطمئنّي! سوف أعطيه الردّ اللائق به.‏

احتضن المعطف وسار، وتوقَّف أمام الشاب الذي كان يبدو منه الجزء العلويّ فصاح قائلًا:‏

‏- لمَن هذا؟

‏  أسالُ، لمَن هذا اللّعين؟

فقال غلام أزرق العينين، وجهه مملوء بالبثور، وشعره منتصب وخفيف:‏

‏- لا تنظر كالخروف الميت، أعطِني هذا.‏

فألقى المعطف فوق صاحبه.‏

‏- وقح. إنَّها في مقام أمِّك.‏

وبَّخ الطلاب جميعهم صاحبَ المعطف.‏

‏- "سراج" يقول الصواب، يا أخي.‏

‏- امرأة عجوز...‏

وتعالت أصوات في الرواق تقول:‏

‏- يجب أن تفسح لها المجال، حتى تقوم بعملها هي الأخرى.‏

أمّا "سراج" فقد وضع الأرقام في الشمّاعات، وبدأ يعطي المعاطف و"البالطوات" لأصحابها.‏

فرغت الشمّاعات تمامًا. وذهب الطلاب وهدأ المكان. وبقي شخصان، أحدهما "الخالة أمينة"، ‏والآخر "سراج". كانت المرأة ما تزال تحافظ على توازنها.‏

‏-‏ يا بنيّ، لو قبلوا استقالتي اليوم، سوف أترك العمل. لم يُهِنّي أحد مطلقًا حتى الآن، كي ‏أغضّ الطرف الآن عن مثل هذا الكلام الصّعب.‏

وضع "سراج" كتبه تحت إبطه دون أن يتكلم، وانتصب.‏

‏-‏ أيتها "الخالة أمينة"، هو خسيس. مكروه فيما بيننا. لا يستذكر دروسه جيدًا، وليس له ‏رفيق أو صديق، وسليط اللسان. لا تُلقي بالًا لكلامه. سوف نحاسبه نحن بأنفسنا.‏

رأته المرأة وهو يذهب، فقالت:‏

‏- أشكرك يا بني، أطال الله في عمرك. ‏

ثم فكّرت: "كلام مثل هذا الشخص يكون ثقيلًا على النفس، ولو كان هذا الكلام قد صدر من ذي ‏شأن، لَما أثَّر كل هذا التأثير على النفس".‏

وصل "سراج" عند الباب، فنادته "الخالة أمينة" من الخلف:‏

‏- يا بنيّ، أين معطفك؟

تلعثم قائلًا:‏

‏- إنه في مبيت الطلاب، أسرعتُ فلم أستطع أن أرتديه.‏

‏- يا بنيّ، لا تغترّ بشبابك. لا أمان لجوّ "باكو" خاصة هذه الأيام، طلعت الشمس المحرقة ‏في الصباح، أمّا الآن فالعاصفة الثلجيّة تجتاحها.‏

فكّر "سراج" قائلًا: "كانت أمي أيضًا تستخدم مرارًا وتكرارًا كلمة (العاصفة الثلجية)"، ثم فتح ‏الباب الزجاجي الضخم، وخرج إلى الشارع. كانت الرياح ترتطم بالجدران، فتُحدِث صوت ‏صفير، وتنثر الثلج في الشوارع، وكانت تشبه الدقيق الذي يتناثر من المنخل في ضوء السيارات.‏

‏***‏

تكدَّس الثلج الذي يتساقط منذ أمس في أركان الشوارع. أمّا الثلج الذي كانت تطأه الأقدام على ‏الأرصفة، فكان يتجمَّع بحواف الجدران. طلعت الشمس من وسط السُّحب المتناثرة ومع ذلك كان ‏الصقيع القارس يجعل العين تدمع.‏

نزل "سراج" من "الترولي باص"، ودخل بخطى سريعة إلى الحديقة. عبر بجوار التماثيل التي ‏تكوَّمت عليها الثلوج. كان البريق الذي ينعكس من الثلج الموجود في حمّام السباحة المقابل له ‏يُزغلل عينيه. كان يشعر بالبرد. وضع الكتب التي لفَّها بجريدة تحت إبطه، وحشر يديه الاثنتين ‏في جيبي البنطلون.‏

‏"مشكلتي هي هذا الشتاء فقط. سوف أذهب في الصيف إلى أراضٍ خصبة، وأعمل وأكسب، ‏وأرتدي ملابس جيدة، ماذا لو حدث هذا؟ لستُ عاجز اليدين أو القدمين؟".‏

التحق "سراج" بالمعهد حديثًا. كان يدرس في الفرقة الأولى. لم يكن لديه أيّ أحد في القرية سوى ‏أحد أقاربه من القرابة البعيدة. لذلك كان لا يستاء من أحد مطلقًا، ولا يشتكي أحدًا على الإطلاق.‏

رأى عندما وصل إلى المعهد أنَّ الغلام صاحب المعطف البنيّ ينزل من سيارة أجرة.‏

كانت الفتاة السمراء التي تعمل في الورديّة الصباحيّة بدلًا من "الخالة أمينة" تتصفَّح صحيفة ‏المعهد في يدها:‏

‏- أيتها الخالة، انظري، ما شاء الله، لقد أُدرجت له بعض الأشعار.‏

‏- لمن؟

‏- لــِ"سراج".‏

‏- يا بنيَّتي، سيكون لمثل هذا الشخص مستقبلٌ باهرٌ. اقرئي أشعاره فلنَرَها...‏

بدأت الفتاة في قراءة الأشعار بصوت لطيف، ولكن توقفت ووكزتها بمرفقها.‏

‏- ها هو، انظري، جاء ثانية بسترة فقط.‏

نادت عليه "الخالة أمينة".‏

أمّا "سراج" فقد تظاهر بعدم السماع. لقد عرف أنها سوف توبِّخه لأنه لا يرتدي معطفًا. صعد ‏السلالم مسرعًا واختفى عن الأنظار.‏

‏***‏

ترقَّبت "الخالة أمينة". عندما يرنّ الجرس، ربّما يكون أوَّل مَن يخرج ويذهب، كان يضع الكتب ‏تحت إبطه كالعادة، ويسير منكمشًا داخل السترة. رأته في تلك اللحظة، ونادت عليه، فالتفت ‏الغلام واقترب.‏

دعته إلى حجرة المعاطف قائلة:‏

‏- ادخل يا بنيّ، تعال، تعال هنا.‏

وضع "سراج" الكتب فوق الحائل الخشبيّ، وعبره، ثم أمسكت "الخالة أمينة" بمعطف سميك ‏أسود اللون أمامه.‏

‏- ارتدِ يا بنيّ.‏

نظر "سراج" إلى وجهها متعجبًا.‏

‏- ما هذا، يا "خالة أمينة"؟

‏- هذا لك، يا بنيّ، ارتدِه.‏

أراد الغلام أن يبتعد قائلًا:‏

‏- لا، هذا ليس لي.‏

ولكنَّ "الخالة أمينة" أمسكت بذراعه بحنان أمّ وأدارته للخلف.‏

‏- إن لم تأخذه سوف أغضب منكَ يا بنيّ.‏

تردَّد "سراج"، فقال من أجل أن يخفي خجله:‏

‏- إذًا، قولي ثمنه.‏

‏- عندما تعمل، ردَّ لي ثمنه من أوَّل راتب.‏

‏- هذا كلام غير معقول يا "خالة أمينة".‏

ألبسته المعطف وهي تقول له:‏

‏- البس، وعندما يكون لكَ القدرة، حينئذ تدفع ثمنه.‏

كان للخالة "امينة" ابنتان وولد. زوَّجت ابنتيها، وكذلك ابنها. كانت تعيش مع زوجها الذي أحيل ‏للتقاعد، وذلك في الطابق السفلي بالمبنى ثلاثيّ الطوابق الموجود بالقرب من المعهد. قبل ‏شهرين، أصيب زوجها بسكتة قلبيّة أثناء حديثه وضحكه في منزل القرية. أمّا "الخالة أمينة" فلم ‏تذهب للعيش مع ابنها، وقالت:‏

‏"من الصعب معرفة طباع زوجة ابني، وعلاوة على ذلك، لماذا أضيِّق عليهم منزلهم؟ فمنزلهم ‏في الأصل حجرة واحدة. فلا أُضيِّقه عليهم".‏

ولم تَرَ من المُلائم أيضًا أن تسكن مع بناتها.‏

كان المعطف الذي ألبسته لـِ"سراج" هديّة أحضرتها إحدى ابنتيها لأبيها. لم يلبس الرجل المعطف ‏مطلقًا. كان هذا المعطف بعد موت الرجل معلقًا بقلب "الخالة أمينة"، وليس بالدولاب. كانت تفكر ‏قائلة: "جاء المعطف لعمل الخير، وليس جيّدًا أن يبقى وسط ملابس المرحوم".‏

أمّا بعد أن ودَّعت "سراج"، فقد فكَّرت:‏

‏"كم كان جيدًا ما حدث! كان عمل خير".‏

‏***‏

دعا الطالب أزرق العينين وذو الوجه المملوء بالبثور "سراج" بإصبعه إليه:‏

‏- تعال، وشاهد بنفسك، وانظر خالتك "أمينة"، ما أصلها؟

لم يفهم "سراج" ماذا يقول. كانت عينه تنظر إلى الثلج الموجود أمام النافذة، وفكره في مكان ‏آخر.‏

‏- خالتك "أمينة" تسرق، خالتك "أمينة" تنشل.‏

أمسكت أصابعه الطويلة برسغه كالأفعى، وسحبه ذاهبًا به نحو حجرة المعاطف.‏

فتح الطالب مملوء الوجه بالبثور الباب فجأة. "الخالة أمينة" كانت تضع على ركبتها معطفا رثًّا، ‏رفعت رأسها بهدوء ونظرت.‏

التفتَ نحو "سراج". ولعبَت أصابعه التي تشبه الحيّة أمام عينيه:‏

‏- لا تقُل بعد ذلك لم أرَ. أنتَ ترى هذه العجوز؟ تعبث بجيوب الطلاب. اجلس وأكتب فيها ‏شكوى.‏

نظرت "الخالة أمينة" إليهما بهدوء. غرست الإبرة ولمَعَ الكُشتُبان في أصبعها وهي تعقد الخيط ‏الأسود من داخل القماش، فيخرج، ويُشدّ.‏

جلس "سراج" بجوار المرأة بمودّة ووضع ذراعه على كتفها.‏

‏- ماذا تعملين يا خالة؟

ظهرت ابتسامة ودودة على وجه المرأة.‏

‏- يا بنيّ، معظم الطلاب يأتون من القرى. ولا يعيشون مع أمهاتهم أو أخواتهم. أحيك ‏الأماكن الممزّقة من ملابسهم.‏

نهض "سراج" على قدميه، وأمسك الطالب ذي العينين الزرقاوين من تلابيبه ودفعه نحو الرواق.‏

‏- وغد وابن وغد!‏

وضع يده في جيبه، وذهب نحو مكان الشمّاعات.‏

‏"أقول لكِ يا "خالة أمينة"، إنني أشكركِ، لقد أصبحتِ أمي. لقد انتشلتِني من البرد. أمّا الآن خذي، ‏أعطيكِ ثمن المعطف، مكسبي الجديد. أعطوني هذا المبلغ بسبب أشعاري. وإلّا لا أستطيع ارتداء ‏المعطف. كأنني أرتدي نارًا على جسدي".‏

أمّا "الخالة أمينة" فقد وضعت النظّارة على عينيها، وكانت تنظر في صحيفة المعهد.‏

‏- خالة أمينة...‏

رفعت المرأة رأسها ونظرت. كأنها رأت أعزّ الناس لها.‏

‏- فداكَ نفسي يا بنيّ، لم تنسَ خالتك، ونظمتَ لأجلها شعرًا.‏

‏- أينسى الإنسان أمّه؟

‏- أشكركَ يا بنيّ، أطال الله في عمرك.‏

وضع "سراج" يده في جيبه، وأخرج النقود ومدّها نحو "الخالة أمينة". ولكن ظلّت يده معلّقة في ‏الهواء. انهمرت الدموع التي اغرورقت بها عينا "الخالة أمينة" والتي بدت من خلف زجاج ‏نظارتها كأنها حبّات عنب. أعاد "سراج" يده في جيبه يائسًا، وعاد. كان يهمس في أذنيه صوت ‏مكتوم:‏

‏"جميع أبناء القرى، ليس بجوارهم أمهاتهم أو أخواتهم... أيجب أن ينفطر قلب الإنسان عليهم أم ‏لا...؟".‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) الكاتب فرمان كريم زاده (1937-1989م)‏

كاتب وسيناريست أذربيجاني شهير. عضو اتحاد الكتاب الأذربيجانيين منذ عام 1967م. له ‏العديد من الأعمال الأدبية مثل "العرض الأخير" (1961م)، و"عمرنا- يومنا" (1963م)، ‏و"التمثال يتحدَّث" (1965م)، وكذلك له العديد من الروايات التاريخية التي تدخل ضمن النماذج ‏الكلاسيكية للنشر الأذربيجاني في القرن العشرين مثل روايات "الفترة الثلجية"، و"جسر ‏خودافرين"، و"حرب تشالديران". تُرجمت أعماله للعديد من اللغات. قام بتأليف العديد من ‏سيناريوهات الأفلام الإبداعيّة والوثائقيّة.‏

 

الهوامش:‏

‏(1) يقصد بحجرة المعاطف الحجرة أو المكان الذي يكون موجودًا في معظم الإدارات أو الشركات، حيث ‏يسلِّم  فيه الزوّار أو العاملون بهذا المكان معاطفهم وقبعاتهم أو أيّ شيء يحميهم من شدة البرد، وذلك لأنَّ ‏داخل المبنى يكون مجهزًا بتدفئة مركزيّة غالبًا، ويتمّ إعطاء رقم وتُعلّق هذه المتعلقات في شمّاعة بهذه ‏الحجرة، وعند مغادرة المكان يتمّ تسليم الرقم للعاملة التي تعمل هناك حتى تعطيه متعلّقاته (المترجم).‏