"لوي ألتوسير": الفيلسوفُ البنيويُّ والمناضلُ السياسيُّ

سعيد سهمي
كاتب وباحث مغربي

(لوي ألتوسير)
ولد لوي بيير ألتوسير (Louis Pierre Althusser) عام 1918 في الجزائر، حصل سنة 1948 على الإجازة من مدرسة المعلمين العليا، وهي شهادةٌ أهلته للتدريس بالمؤسسة نفسها، لينضمَ بعد ذلك إلى صفوف الحـــــــــــزب الشيوعي ويكرّس حياته في خدمته باسم الماركسية العلمية، كما أنتج عدة أعمال فكرية في هذا الاتجاه مثل: "مونتسكيو: بين الفلسفة والتاريخ"، "دفاعًا عن ماركس"، "قراءة في رأس المال"، "لينين والفلسفة".
1- ألتوسير الماركسي:
في الواقع يبدو من الصعب الإمساك بالاتجاه الفكــــــــــــــــــري والإيديولوجي البحت لألتوسير نظرًا للاضطرابات الواضحة في أفكاره الفلسفية والتحولات الحاصلة في مسار نظريته الماركسية، لكن من المحقق جدًّا أنَّ ألتوسير عُرِف بماركسيته العلمية وبوفائه للحزب الشيوعي الفرنسي كأحد ركائز لجنته المركزية، وإن أثار زوابعَ ومشكلاتٍ تنظيريّةً جعلت رفاقه ينظرون إليه نظرةً عدائيةً على أنَّه عدوٌّ للحزب وليس صديقًا وفيًّا له.
ولقد كان ألدَّ خصومه في الحزب روجيه جارودي (Roger Garaudy)، والذي أفرد في كتابه "البنيوية- فلسفة موت الإنسان" فصلًا خاصًا يسرد فيه مؤاخذاته على الرفيق ألتوسير؛ وتبرز أهم مؤاخذاته تلك في اعتباره أن ألتوسير إذْ كان يبحث في اتجاهه الماركسي عن الدقة العلمية فوضع مقابلة بين العلم والإيديولوجيا ودعا إلى التطهير المفهومي، وقد أنشأ بذلك نظرية "دوغمائية" تقوم على "بنيوية مجردة" غير قابلة للتطبيق على الواقع، بنيوية قتلت الإنسان وتاريخه لأنَّه سعى إلى خلق ما يُسمّى بالقطيعة المعرفية في أعمال ماركس، والى تصور المعرفة باعتبارها إنتاجًا وإلى اعتبار النظرية ممارسة لا تحتاج إلى تجربة في مجال علم آخر كما هو الحال للرياضيات، ناسيًا، برأي "جارودي"، دور الممارسات التقنية والمشكلات الفيزيائية في إرساء الرياضيات وخلق تجديدات ثورية فيها.
2- ألتوسير ضد ماركس:
من جانب آخر، ومن خلال قراءته البنيوية لأعمال ماركس، تشكّلت لدي ألتوسير قناعة مفادها أن "أشكال المعرفة كلها إيديولوجيا ينتجها المجتمع"، كما هو الحال للأخلاق، ويؤكد: "الأخلاق في جوهرها إيديولوجيا" (1)، كما يذكر "روجيه غرودي" في كتابه "البنيوية، فلسفة موت الإنسان"، والذي يُخَطّئه في هذا الانحياز الأعمى لماركس واعتباره أنَّ العالم ليس سوى: "عالم الأخلاق والسياسة و...، وباختصار عالم الأساطير والمخدرات" (2).
إنَّ نظرية ألتوسر تنبني على القطيعة والانفصال؛ القطيعة الجذرية للنظرية عن التاريخ، أي أنَّه كان يدعو إلى قطيعة مع المادية التاريخية، بل قطيعة مع الإنسان بشكل عام، كما يرى زكريا إبراهيم، وخاصةً القطيعة مع جانبه الوجداني والروحي، حين أعلن: "إنَّ التاريخ مسيرة، ولكن بدون ذات" (3).
وإذا كان ألتوسير، في هذا السياق، ينتقد جوهر الفكر الماركسي المؤسس على التاريخ، فإنَّه قد كان، في المقابل، يدعو إلى خلق قطيعة مع مجموعة من أعمال ماركس، أو بالأحرى مع مراحل معينة من حياته خاصةً مرحلة الشباب، وبشكل أخص، ولاؤه لهيجل، الأب الروحي لماركس، حين يقول: "علينا أن نتحاشى فخ قراءة هيجلية للرأسمال، قراءة تزعم أنَّ شكل البضاعة يحتوي بذرة سائر تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي" (4).
وجدير بالذكر أنَّ جوهر الماركسية يقوم على أعمال "هيجل"، كما يؤكد "إنجلز": "إنَّ الاشتراكية العلمية ما كان لتوجد قط لولا الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، وعلى الأخص لولا كانط وفيخته وهيجل" (5)، وهو ما يجعلنا نتفق مع "روجيه جارودي" حول ما وقع فيه ألتوسير من تناقض واضح؛ والذي يزعم أنَّه ماركسي، بينما يتنكر في الوقت نفسه لجذور فكره في الوقت ذاته.
ولكي يجدَ ألتوسير لنفسه مخرجًا من هذه الورطة وما فيها من تناقض، فإنَّه يدعونا إلى قراءة بنيوية أعراضية لأعمال "ماركس" كما تعامل "جاك لاكان" مع "فرويد"؛ ولعلَّ ذلك ما سيدفعه إلى تخطيء ماركس وإنجلز أنفسهما لاعتمادهما النزعة التجريبية للمعرفة، كما أنَّه سينتقد مفهوم الإنتاج عند ماركس و"المبني على إنتاج البضاعة الخاضعة للتقسيم الاجتماعي"، ليعوضها بعلاقات الإنتاج، والتي اعتبرها في كتابه قراءة الرأسمال الفاعل الحقيقي بقوله: "الفعلة الحقيقيون هم علاقات الإنتاج" (6). ويبقى "لينين" المثال الأهم للوي ألتوسير كماركسي علمي طهّر فلسفة ماركس من كل أفكار "هيجل" مما جعله ينجح في إقامة ديكتاتورية البروليتاريا.
3- ألتوسير: وعلم اللغة البنيوي
ولنتساءل الآن: كيف استغل ألتوسير شروط البنيوية في ماركسيته العلمية؟
إنَّ علم اللغة البنيوي كما هو معروف، يعتبر أنَّ نسق العلاقات المعجمية هو جزءٌ من مقدرتنا اللغوية، وهي تنبع من تجربة القارئ، الذي يعتبره البنيويون "أداة للتحليل ووسيلة لإعادة قراءة النص" (7)، كما توضح "إديث كورزويل" في كتابها "عصر البنيوية" ، وإذا كان جاك لاكان (Jacques Lacan) قد قرأ فرويد (S. Freud) قراءة بنيوية فإن ألتوسير دعا، بدوره، إلى قراءة ماركس قراءة تعتمد (في التحليل العلمي) الأبنية اللاواعية وتشتغل بطريقة أعراضية، وهذه القراءة هي التي ستكشف عن الأبنية اللاواعية الخفية في الفكر الماركسي عن طريق تفسير التحولات والتناقضات والأغلاط التي وقع فيها ماركس وذلك ما سيمكننا من إنتاج نص مختلف. إنَّه في النهاية كان يسعى إلى خلق محاولة توفيقية أو تلفيقية، برأي زكريا إبراهيم، بين الماركسية والبنيوية.
ولعلَّ قراءته تلك لماركس هي ما جعلته يتخلى عن ماركس نفسه، أو على الأقل يتخلى عن أهم أعماله خاصة الرأسمال والبيان وفقر الفلسفة؛ ليقتصر على جزء ضئيل من أعماله كالاقتصاد السياسي أي أعمال ما بعد 1857.
إنَّ ألتوسير لعب دور الماركسي الحر رغم اشتراكيته المعروفة ورغم قيادته للحزب الشيوعي، أو إنَّه كان ماركسيًّا من نوع خاص، فادعاؤه أنَّه ماركسي حر لم يمنعه من إنشاء فكر مقيد لحرية الأفراد، برأي روجيه جارودي، حيث اختزل الإنسان وجعله مجرد "ركيزة" للعلاقات المتحدة بالبنية؛ إنَّه، بذلك، أبدع فكرًا ماركسيًّا جبريًّا رفضه (ماركس وإنجلز وموريس توريز) أنفسهم حين أعلنوا أنَّه لا الاشتراكية جبرية، ولا البؤس جبري، ولا الحرب جبرية، كما أخطأ حين همّش معظم أعمال ماركس، وهاجم كل النظريات التاريخية والإنسانية والأنثروبولوجية.
ولعلَّ أخطاءه تلك هي التي ستجعل معظم تلاميذه يتخلون عنه لصالح الاتجاه الماوي (نسبة إلى ماوتسي تونغ) الذي يطالب بسلطة نظرية مستقلة عن سياسة الحزب الشيوعي الفرنسي، ليلفتوا إليهم أنظار الرأي العام كفلاسفة جدد.
ولهذا أيضًا؛ فبعد انهزام تجمع اليسار الشيوعي والاشتراكي في انتخابات 1978 سيتلقى انتقادات حادة من رفاقه، بعد أن تخلّى عنه بعضهم، ومن أبرزهم رفيقه روجيه جارودي، كما سيعجز عن إنقاذ حزبه بعد فشله في إقامة تحالف مع الحزب الشيوعي الإيطالي. وبذلك أيضًا ستعلن فلسفته عن فشلها كما تنبأ بذلك "أندريه جلوكسمان" سنة 1967 لأنَّها تفتقد إلى التماسك الداخلي.
لقد كان ألتوسير يحلم بنقل بنيويته إلى الممارسة، لكن ذلك ظلَّ مستبعدًا لأنَّه كما تقول "إدبث كيرزويل"، في كتابها "عصر البنيوية": "ظلَّ منقسمًا على نفسه، رجله اليمنى الواهية تقف على الفلسفة، ورجله اليسرى على أرض السياسة المراوغة" (8).

خاتمة:
وأخيرًا؛ لا ننكر أنَّ ألتوسير على الرغم من التناقضات التي وقع فيها كماركسي ورافض للمادية التاريخية، إلا أنَّه ألهمنا أنَّه يمكن قراءة "كارل ماركس" قراءات متعددة ومغايرة غير تلك ألفناها، كما أنَّه تنبأ بفشل بعض الاتجاهات الماركسية البراغماتية التي تستغل أفكار ماركس استغلالاً سلبيًّا لاستقطاب الجماهير المسحوقة في المجتمع، كما أنَّه نجح أخيرًا في أن يؤكد لنا نسبية ما كان يُعتبر حقائق ثابتة عند كثير من زعماء الماركسية.
الهوامش:
1- روجيه غارودي، البنيوية: فلسفة موت الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1979، ص.56.
2- المرجع نفسه. ص. 56.
3- زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية (8): مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، مكتبة مصر، القاهرة، ص.5.
4- روجيه جارودي، البنيوية. ص.65
5- المرجع نفسه، ص. 69.
6- المرجع نفسه، ص. 86.
7- إديث كورزويل، عصر البنيوية، ترجمة جابر عصفور، دار سعاد الصباح، الكويت، الطبعة الأولى، 1993، ص. 49.
8- المرجع نفسه، ص. 61.