المتشابهُ والمختلفُ بين رواية الفتيان ورواية الكبار

• د. زياد أبو لبن
كاتب وناقد أردني
إذا عُدنا إلى روايات الفتيان التي صدرت في الوطن العربي نجد أنَّ قصب السبق يرجع إلى مصر والعراق وسورية، ثم امتدت تلك الإصدارات إلى لبنان والأردن والمغرب العربي، وتبعتها بقية الأقطار العربية الأخرى، ولعلّ "جائزة كتارا للرواية العربية" التي أنشأت جائزة لرواية الفتيان عام 2017 قد حفّزت عددًا من كتّاب الرواية للكتابة للفتيان، ففي عام 2017 فازت الكاتبة الأردنية كوثر الجندي عن روايتها للفتيان «دفتر سيرين»، ثم فازت الكاتبة سناء شعلان عام 2018 عن روايتها «أصدقاء ديمة».
إنّ الأسلوب الذي ينشغل فيه كاتب روايات الفتيان يختلف إلى حدّ كبير عمّا ينشغل فيه كاتب روايات الكبار، من حيث محمولات اللغة والخيال والمضامين، فلا بدّ أن تناسب اللغة الفئة العمرية للكتابة، ولا تخلو من جماليات السرد، مما تدفع الفتيان إلى إعمال المخيلة التي تنهج في الرواية، فالرهان على وعي الفتيان رهان تتقبله الذائقة، وقد تشكّل وعيهم بما اتصل بالكتاب المدرسي أولًا، وبما اتصل في قراءاتهم لقصص الأطفال قبل بلوغ الفئة العمرية للفتيان، فالعناصرُ الأساسيةُ في رواية الفتيان يتّصل بعضها ببعض، فلا يمكن الحديث عن اللغة بمعزل عن الخيال، فاللغةُ وعاءُ الأفكار التي تصاغ في سياقات التخييل الروائي، ومن الضروري والأهمية بمكان أن يطلق خيال الطفل في إدراك هذا العالم، كما يحفزه على بناء شخصيته وقدراته المعرفية، وأظنّ أنَّ خيال كاتب رواية الفتيان يتوافق أو يتشابه مع خيال كاتب رواية الكبار، فالرهان معقود على وعي الفتيان ومدركاتهم، وليس كما يظنّ بعضّ الكتّاب أن الفتيان أصحاب خيال محدود، فيلجأون إلى التبسيط والسهل، وأثبتت الدراسات السيكولوجيّة والتربوية للطفل أنَّه يتمتع بخيالٍ خصبٍ وجريء فيما يدور من حوله، وما يقدّم له من ثقافة، وهذا الخيال مبنيّ على فعل الإثارة والتشويق في ذهنيته.
لا بدّ لكاتب رواية الفتيان أن يقدّم روايته بأسلوب مشوّق يستأثر ملكات الطفل في المكوّن اللغوي، وهذا لا يختلف عن أسلوب كتابة الرواية للكبار، لكن ما هو مختلف تلك المضامين أو الموضوعات المطروحة، وذلك بما يتناسب والفئة العمرية، ويحوز على متعة القراءة أولًا، ثم تعليم طرائق تفكيرهم.
إنّ جمال الأسلوب بما عُرف بالسهل الممتنع قادر على تفتّح وعي الفتيان على العالم، كما أنّ جودة سبك العبارة هو ما ينمّي لغتهم، ويجذبهم للعمل المقدّم لهم، والوصول إلى الهدف المنشود في الرواية، وتعليمهم للقيم المجتمعية وإدراكها، فالسائد في معظم روايات الفتيان تجاهل قدراتهم في فهم لغة السرد، وما تحمله من دلالات وأخيلة، وأيضًا تتجاهل ما يثير الأسئلة، فيلجأ بعض الكتّاب إلى تقديم أجوبة جاهزة غير حافلة بالتفكير، وكأنَّهم لا يتمتعون بحسّ مرهف، وغير قادرين على الدخول في عالم القصّ وأحداثه، ويصبحون جزءًا عضويًا منه، وبلوغ أهدافه، وليس لديهم القدرة على الارتقاء بأساليبهم التعبيرية، فيقدمون روايات نمطية.
أقفُ على رواية سناء شعلان «أصدقاء ديمة» كنموذج لرواية الفتيان، بما تحفل به من أسلوب مشوّق وممتع، وسردية تخيلية قادرة على إثارة الأسئلة، ورهانها على الوعي الطفولي، وما تحفل من لغة تتجلّى في حمل دلالاتها ورموزها.
دار حوار بيني وبين الكاتبة الدكتورة سناء شعلان حول ما تضمنته روايتها لليافعين، وخلاصة حديثنا أنَّها رواية خيال علميّ للفتيان في قالب دراميّ إنسانيّ، وهي رواية انتصار الإرادة والمحبّة والعمل والعلم والقدوة الحسنة على الإعاقة والعجز والحزن واليأس، وهي رواية البطولة المطلقة لأطفال جميعهم يعانون من الإعاقات المختلفة.
وهم يقرّرون أن يعيشوا السّعادة والحياة بتفاصيلها جميعًا على الرّغم ممّا يعانون منه من تجاهل المجتمع لهم، وإصراره الظّالم على تهميشهم في ظلّ رفضه لهم ولوجودهم المختلف عن وجود معظم أفراده ممّن لا يعانون من إعاقات.
تسعى الرّواية إلى تقديم تجربة أخلاقيّة نفسيّة اجتماعيّة جماليّة للأطفال حول انتصار ذوي الإعاقات على إعاقاتهم، وهي تبرز هذه التّجربة تحت وضعها تحت مجهر الدّراسة والتّعامل معها ومع تفاصيل حياتها ومعاشها وظروف التّعامل معها.
وإنّ أبطال الرّواية، وعلى رأسهم (ديمة)، يدرسون معًا في مدرسة (بيت ديمة)، والدّكتور (شجاع الورديّ) وزوجته (عفاف) والمعلّمة (نعيمة) هم مَن يقودون الأطفال في درب التّعلّم، والخروج من العزلة، واكتشاف مهاراتهم وقدراتهم، ويدفعونهم إلى التّفاؤل والعمل وحبّ الحياة، إلى أن ينتصروا على إعاقاتهم، ويعيشون الحياة بكلّ سعادة ومحبّة، ويقدّمون العون لمن يحتاجه، وأن ينخرطوا في مجتمعاتهم رافضين إقصاءهم وتهميشهم.
هذه الرّواية تعلّم الطّفل من فئة ذوي الإعاقات أن يكون شجاعًا قويًّا متحدّيًا، كما تعطي درسًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا للمجتمع كلّه ليعترف بأبنائه من ذوي الإعاقات، وأن يوليهم اهتمامًا وافرًا، وأن يعطيهم حقوقهم موفرة.
لقد استعارت الرّواية بعضًا من استشرافات الخيال العلميّ والفنتازيا لتقدّم استدعاءات لنماذج من العباقرة والمبدعين والموهوبين والأبطال عبر التّاريخ الإنسانيّ كلّه لتوظيف إرادتهم ونضالهم في تكوين حافز لأطفال الرّواية من ذوي الإعاقات، كي يستخلصوا منهم دروسًا في العمل والمحبّة والإصرار على الحياة.
تدور أحداث الرّواية عن الطّفلة (ديمة) التي تعاني من مرض (متلازمة داون)، ويلفظها المجتمع، وتعيش في وحدة كبيرة؛ بسبب هذا المرض، لا سيّما بعد موت أمّها، التي تموت مضحية بحياتها؛ لإنقاذ حياة ابنتها في حادث سيّارة، وتظلّ الطّفلة (ديمة) تعيش وحيدة في كنف جدتها لأبيها، وهي تخفي عن الجميع تلك الملكة الخطيرة التي تملكها، وهي القدرة على أن تقرأ ما في أذهان النّاس وأفكارهم.
يحدث التغيّر الكبير في حياتها عندما يعود والدها المخترع الشهير (شجاع الورديّ) إلى بيته، ويعكف على اكتشافه الخطير، وهو اكتشاف الفجوات النورّانيّة التي تنفتح على أزمان موازية وأخرى ماضية، وثالثة مستقبليّة، ويقرّر أن يُنشئ في بيته دارًا ومدرسة لإيواء الأطفال أصحاب الإعاقات الجسديّة والعقليّة، ويبدأ في استقطاب الأطفال لذلك، بعد أن يعمل على استقطاب المعلّمين والمعلّمات المتخصّصين بتدريس هذه الفئة من الأطفال عبر البحث عنهم في الفجوات النّورانيّة.
وما أن يكتمل مشروع (بيت ديمة) حتى تبدأ سلسلة من المغامرات الخاليّة، التي تعتمد على الخيال العلميّ القائم على فرضيّة العوالم المجاورة وإمكانيّة القفز بين الأزمان، وتبدأ رحلات دراميّة مثيرة، تبدأ بأن يستعيد الدكتور (شجاع) زوجته من الجنّة، التي توافق على هجرها لتكون إلى جانب ابنتها (ديمة) وزوجها (شجاع) في رحلة تأهيل الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصّة.
وهذه الرّحلاتُ التي يقوم بها الأطفال في العوالم الأخرى ترتدّ إلى أزمان متباينة منذ عصور الرّومان واليونان، مرورًا بالعصور الوسطى والعصور الإسلاميّة، انتهاءً بالعصر الحديث، انتقالًا إلى أزمان مستقبليّة، وهم في هذه الرّحل يقابلون أناسًا مبدعة ومبرّزة في شتّى حقول المعرفة على الرّغم من إعاقاتهم، ويتعلّمون منهم الإصرار على الحياة والسّعادة والفرح، إلى أن تنتهي الرّواية بأن يجد كلّ منهم سعادته وحياته في الحياة على الرّغم من الإعاقة التي يعاني منها، ليقتنع بأنّ الإعاقة لا تمنعه من الفرح والسّعادة والخير والعمل.
من الشّخصيّات التي استحضرتها الرّواية عبر زيارتها في أزمانها، وحياكة مواقف وحوارات معها لأجل الإفادة من تجاربها الإنسانيّة والفكريّة والحياتيّة في التّعامل مع الإعاقة والانتصار عليها، ودخول أسفار العباقرة والخالدين والمبرّزين بسبب ذلك، كلّ من: الشّيخ المناضل أبو خالد محمد دياب إبراهيم، والمجاهد الفلسطينيّ الكبير أحمد ياسين من غزّة الفلسطينيّة، والإمام التّرمذّي، والإمام ابن باز، والدكتور طه حسين، والشّاعر أبي العلاء المعريّ، والشّاعر بشّار بن برد، و"هيلين كيلر" ومعلمتها "آن سوليفان" والعدّاءة "مارلا رونيان"، وبطل الكاراتيه "رون سكاليون"، والرّئيس الأمريكيّ الأسبق "فرانكلين روزفلت"، والرّاقصة الهنديّة "سودها تشاندران"، والقبطان "فرناندو ماجلان"، والإعلاميّة اللّبنانيّة رلى الحلو، و"لويس بريل"، والرّسام الصّينيّ "هوانغ فو"، والرّسامة المكسيكيّة الشّهيرة "فريدا كاهلو"، والرّسام الشّهير "فنسنت فان جوخ"، والعالم البريطانيّ الشهير "ستيفن هوكينغ"، و"نيكولاس فوجيسيك"، والفرعون "أخناتون"، والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، والخليفة الأمويّ الوليد بن عبد الملك من العصر الأمويّ، اللذين سنّا قوانين لحماية ذوي الإعاقات ومساعدتهم.
كذلك هناك استدعاء لشخصيّات كان لها مواقف ضدّية وسلبيّة من المعاقين، أمثال المشرّعين "ليكورجوس الإسبارطي" والأثيني "سولون" من العهد اليونانيّ اللذّين شرّعا قوانين تسمح بالتّخلّص ممّن يعانون من إعاقة تمنعهم من العمل، أو من الاشتراك في الحرب، وأيضًا الفيلسوف "أفلاطون" من الزّمن نفسه، والفيلسوف البريطانيّ "هيربرت سبنسر" من العصور الوسطى الذي ينادي بعدم تقديم أيّ مساعدة لذوي الإعاقات؛ لأنّهم عبء على كاهل المجتمع والإنسانيّة.