في حضرةِ سلمى الخضراء الجيوسي: ذاكرةُ المحبّةِ والفكر

جعفر العقيلي
إعلامي وقاص أردني
لم أكن أعلم أنَّ لقائي الأول بسلمى الخضراء الجيوسي لإجراء حوارٍ صحفيٍّ حول تجربتها في خريف عام 2004، سيكون فاتحةً لعلاقة إنسانيّة- اجتماعيّة، امتدت حتى رحيلها- رحمها الله- وسيفضي إلى علاقةٍ عمليّة أيضاً، جعلتني في موضعٍ أعتزّ به ما حييتُ وأنا أقدّم المساعدة والعون لها في بعض مشاريعها وبحوثها ودراساتها.
كنتُ حيئنذٍ، جزءاً من فريق الدائرة الثقافيّة في صحيفة "الرأي"، دعتني مديرة الدائرة الكاتبة سميحة خريس إلى مكتبها واقترحتْ عليّ محاورة د. سلمى، التي ستقضي في شقتها بعمّان شهوراً قبل أن تعاود رحلاتها لاستكمال مشاريعها في البحث والترجمة. تحمّستُ للاقتراح واتصلت بالدكتورة سلمى عبر الهاتف الأرضي، واتفقنا على اللقاء قريباً. وهذا ما كان.
والحقّ أنَّ مهمّتي لم تُنجَز في ذلك اللقاء؛ الأول. استقبلتني د.سلمى بحفاوة، وتحدثنا مطولاً عن المشهد الأدبيّ الأردنيّ وتحوّلاته، وأبدت رغبتها بالتعرف إلى الأصوات البارزة في الأجيال اللاحقة لجيل الأدباء المكرّسين، فوجدتُ في هذه المساحةَ فرصةً للتعريف بسعة اطلاعي وأنا ابن هذا المشهد. وودّعتها قبل أن أطرح أسئلتي –الشفاهية- وأحمل إجاباتها. فقد اشترطتْ أن أزودها بأسئلتي مكتوبةً لتتوثق من استعدادي لهذه المهمة، ومن أن الحوار سيقدّم شيئاً جديداً ولا يجترّ سواه.
عدتُ إلى الأرشيف المتاح لي، وأمضيتُ ساعاتٍ في القراءة عن تجربةٍ فريدة أُرسيت دعائمها قبل خمسة عقود على الأقل، واجتهدتُ أن أضع أسئلةً "ذكيّة" تروق لها وتمنحني تأشيرة الاقتراب من عالمها المليء بالتفاصيل التي تستحق أن تُروى. لم يكن الأمر سهلاً، فكلما دوّنتُ سؤالاً أعيدُ النظر فيه وأنا أتخيل كيف سيكون ردّ فعلها عليه، ولا تستقر صيغته إلا بعد أن أطمئن إلى أنَّها ستهزّ رأسها مع ابتسامةٍ محبّبة تشجّعني على المضي قدماً.
أرسلتُ لها الأسئلة عبر "الفاكس"، فاطّلعتْ عليها وضربتْ لي موعداً لمناقشة ما أرسلته. "هل يستحق الحوارُ كلَّ هذا العناء؟!". هذا ما دار في خلدي وأنا أستمع إلى اقتراحها عبر الهاتف النقّال، فقد كنّا نجري حواراتٍ مع كبار الأدباء ونحن على مقاعد الحافلة أو في مطعم شعبي وسط الضجيج، وينتهي الأمر على خير! لكنَّني وجدتُني هذه المرة أمام تجربة مختلفة، تتسم بالجدّية والاحترافية. ففي الحوار شهادةٌ على التجربة وتجليةٌ لمواقف قد يكون بعضها ملتبساً، ووضوحُ الأسئلة ضروريٌّ لتقديم إجابات وافية. ولا مكان للأسئلة التعميمية، والعامة، والسطحية، والمجاملة.
كان اللقاء الثاني مع د.سلمى مريحاً، لم تُخفِ سعادتها بالأسئلة، وأزالت شيئاً من الرهبة في نفسي وأنا في حضرتها بإطراءٍ على شمولية الأسئلة وتغطيتها المحطاتِ الرئيسة في مسيرتها. وطلبت وقتاً للردّ، مقترحةً أن تدوّن بعض الإجابات وتترك البقية لأنقلها عنها في اللقاء التالي. وهكذا، بقي الحوار رهينَ لقاءاتٍ عدّة أتاحت لي التعرف أكثر على عالم سلمى الخضراء الجيوسي، وانتهينا منه في مطلع عام 2005 وأُفردت له صفحة كاملة في الصحيفة بما يليق بها وبتجربتها (28 كانون الثاني/ يناير 2005).
بمرور الزمن، اتخذت اللقاءات طابعاً إنسانيّاً اجتماعيّاً، رافقتني فيها زوجتي –هيا صالح- وأحياناً ابننا البكر أحمد. فقد كانت د.سلمى تملأ جُلّ يومها بالعمل، فتسعد بمن يشاركها الحديث وقتَ الراحة أو في فترة الغداء، ليس أيّ حديث، بل ذلك الذي يستدعي الذكريات ويتناول قضايا ومسائل أبعد ما تكون عن العمل وشؤونه. فقد كانت تحتدّ حين أحدثها وأنا على طاولة الطعام في ضيافتها، عن أمرٍ يخصُّ العمل، وتبشُّ حين نتحدث عن القرية، أو المأكولات الشعبية، أو عادات الشعوب وثقافاتها.. إلخ.
وبتوالي اللقاءات وتسارعها، اكتشفتْ بي د.سلمى ملَكة التحرير ودقة اللغة ومهارة التقاط الأخطاء الطباعية واللغوية، واختبرَتْها في غير موقف، فأسندتْ لي –يا لسعدي- مهمة التحرير لبعض المشاريع التي تعمل عليها. وهكذا، ولجتُ إلى عالمٍ واسعٍ اشتبكتُ فيه –من خلالها- مع باحثين ومترجمين ومستشرقين ومستعربين وأكاديميين من أنحاء العالم، كانت د.سلمى لا تنقطع عن التواصل معهم أثناء الاشتغال على مساهماتهم في الموسوعات والكتب التي شملتها برعايتها.
كنت أُخضع النصَّ للتحرير وأرسله للدكتورة سلمى لتراجع عملي، ثم نحدّد موعداً لمناقشة ملاحظاتها أو ملاحظاتي، وتستعين هي بمن تراه مناسباً لتوضيح تعبيرٍ تراثيّ، أو الوصول إلى ترجمة دقيقة لمفردةٍ غير متداولة، بينما كلّفتني بالبحث عن شابّ ثقةٍ لحلِّ بعض المسائل التقنية المتعلقة ببرمجيات الحاسوب، وأصبح "طارق الزق" بذلك أحد زوّارها برفقتي، ولا أنسى احتفاءها بنا حين دعتنا إلى مطعم في أحد الفنادق الفارهة لتناول العشاء، وقد توسمتْ فينا الجدية والمثابرة، واقترحت عليّ في تلك الأمسية طعاماً آسيوياً بينما اختارت هي "الشوسي". ودار حديثٌ –ولا أطيب- عن طفولتها ومرحلة اليفاعة، والدراسة، والحِلّ والارتحال، والأبناء والأحفاد.. وكانت عيناها تضيئان كلما تذكّرت حدثاً يحتلُّ مساحةً في وجدانها.
وبتوثّق العلاقة ومرور الزمن، أصبحتُ أجرؤ على ممازحة د.سلمى، أو قول "نكتة" أمامها، أو مناكفتها، أو الاختلاف معها تجاه مسألة ما في العمل، أو إبداء رأي أخمّن أنَّه يعارض ما تفكر به.. مع الاحتفاظ بقدرٍ كافٍ من التوقير لها وقد تجاوزت الثمانين. وتوثّقت العلاقة أكثر بينها وبين هيا، التي كانت ترافقني بين حين وآخر، تتحدثان خلال استراحتنا من العمل حول النقد والكتابة والحياة ومكانة المرأة في مجتمعاتنا.
وفي سياق تبادل التجارب، كانت د.سلمى -أو هيا- تقترح تحضير طبق محدّد في اللقاء اللاحق، فتتعاونان في إعداده، وأسهم بما أستطيعه في هذا المجال، كتحضير "السلَطة" أو الشاي. ونجلس حول الطاولة ساعةً أو أزيد في حديث شيّق، تكون فيه البطولة للدكتورة سلمى التي تستذكر تفاصيل عتيقة كما لو أنَّها وقعت أمس. وما أزال أذكر استعارتها لحنجرة السياب وهي تعيد ما قاله ذات لقاءٍ في مؤتمر بروما (1961) إعجاباً بشخصيّتها وإبداعها. كما أذكر مسحةَ الحزن التي تعلو ملامحها كلما حضرتْ سيرةَ شقيقةٍ لها توفيت منذ زمن بعيد إثرَ معاناة مع المرض. هذه المسحة من الحزن تحوّلت إلى طوفان بعد رحيل "أسامة"، ابنها الذي كانت تعتزُّ به وبنجاحاته العمليّة، حتى إنَّ مجرد مروري على اسمه خلال إحدى زياراتي اللاحقة أوقعها في ما يشبه الصدمة رغم مرور زمن على وفاته، وما كان منها إلا أن هزّت رأسها بعينين ضائعتين وانهمرت بالبكاء.
كانت د. سلمى تملك شخصيّة جادّة، أنيقة – مظهراً وسلوكاً وجوهراً-، صارمة أحياناً، واضحة في مواقفها أو أحكامها إلى حدِّ أنَّ بعضهم قد يزعجه الأمر. تقول الحقّ، أو ما تراه كذلك، تجامل لكن ليس في المواقف المتصلة بالمبادئ، حادة المزاج، لكن إن أنجزت في العمل (وكانت تخصّص مكتباً واسعاً في الشقة لمشاريعها) تنبسط أساريرها، فتسمع شيئاً من الموسيقى، وتتناول القهوى مع قطعة من الشوكولاته أو المعمول بالتمر الذي تحبّه، تدير كثيراً من المهمات حول العالم عبر الهاتف (الأرضي والنقال) و"الفاكس" والبريد الإلكتروني، ولا يزعجها أن تخوض نقاشاً لنصف ساعة مع أحد الباحثين حول عبارةٍ ما وردت في بحثه، برغم الكلفة المرتفعة للاتصال الهاتفي في مطلع الألفية الثالثة!
كانت د. سلمى دقيقة الملاحظة، وتقرأ الوجوه جيداً من نظرةٍ خاطفة. أذكر أنَّ أمراً ما أرّقني قبل أحد لقاءاتي بها، وبعد جلوسي إليها لاحظتْ ذلك، وأصرّت على معرفة ما بي، ولم أغادر إلا وقد انفرجت أساريري. وكانت دائمة الاطمئنان على حالي وحال أسرتي. وما زلتُ أحتفظ برسائلها عبر البريد الإلكتروني باللغتين العربية والإنجليزية؛ أولاها في 1 شباط/ فبراير 2005 عن بحث لـ"غيرت يان فان غلدر"، وآخرها في 18 آذار/ مارس 2008 تدعونا فيه أنا وهيا لزيارتها.
ولا أنسى اتصالاتها المستمرة من الولايات المتحدة لتطمئن على "هيا" أثناء خضوعها لعملية قبيل ولادة توأمينا؛ وحين طمأنتُها إلى أنَّ الأمور بخير شعرتْ بالراحة، فأخبرتها أنَّنا منحنا المولودة اسم "سلمى". ويا لشدّ فرحتها تلك اللحظة. وكنت كلما التقيتها أو تواصلت معها لاحقاً سألتني عن "سَمِيّتها" وعن أحوالها. وأُتيح لي اصطحاب سلمى "الصغيرة" لتتعرف إلى سلمى "الكبيرة" يوم 2 كانون الثاني/ يناير 2018. وكم كانت فرحة الاثنتين عارمة بهذا اللقاء!
أكتب الآن وأنا أدرك أنَّ ما كتبته ليس سوى قطرة في بحر سلمى الخضراء الجيوسي، المعلّمة الرائدة، والمبدعة الكبيرة، والعلامة الفارقة في المشهد الثقافي العربي. وربما لو اخترتُ الحديث شفاهةً عوضاً عن الكتابة، لقضيتُ جلَّ نهاري أستذكر مواقف وأحداثاً تؤشر على عبقرية هذه القامة التي رحلت عن عالمنا يوم 20 نيسان/ إبريل 2023 لكن آثارها في مجالات البحث والتحقيق والتحرير والترجمة والكتابة الإبداعيّة والمشاريع النوعية التي أطلقتها ما تزال حاضرةً بيننا.