عن روح المرحوم

 

قصة: تيسير نظمي

قاص وروائي أردني

 

 

لم يتوقَّع أنْ يكلّفه أحدٌ في الحيّ المكتظّ بالمطاعم والمقاهي المُفتتحة حديثًا بأيّة مهمّة أو أيّ عمل ‏كونه معروفًا في جميع أنحاء الحيّ وللقاصي والدّاني بأنه "أهبل" ضعيف الاستيعاب وضعيف ‏أيضًا بلغته العربية، لكنَّ الواقعة حدثت هكذا فجأة عندما استدعاه صاحب المطعم الذي لم يمضِ ‏شهر على افتتاحه، والذي أيضًا لم يوزِّع أيّة وجبة افتتاحيّة ولو من باب الإعلان عن افتتاحه؛ ‏لشدَّة بخل صاحبه. ‏

وكعادته في ضعف الاستيعاب لم يفهم عن برميل اللَّبن، أو ما يشبه اللَّبن، أيّ شيء سوى أنه ‏برميل من الشَّراب في صيف قائظ، خاصّة عندما كشف عنه الغطاء البارد كونه كان محفوظًا ‏في ثلاجة المطعم الفاخر. وكونه كان مندفعًا ومزهوًّا بمهمّة تسليمه البرميل، راح يوزِّع منه على ‏المارّة وعلى أصحاب المحلات المجاورة وعلى زبائنها المتذمِّرين من ارتفاع الأسعار دون أن ‏يفهم منه أحدٌ وهو منشغل بسكب اللَّبن أو السائل الأبيض، المتخثِّر إلى حدِّ ما، سوى عبارة ‏‏"اشرَبْ عن روح المرحوم" أو "اشربي عن روح المرحوم" وأحيانًا "اشربوا أو اشربن عن روح ‏المرحوم"؛ وأكاد أجزم أنَّ أحدًا لم يخطر بباله أو ببالها أن يسأل عن المرحوم، مَن هو؟ وكيف ‏مات؟ ومتى ولماذا؟ فالجميع بمَن فيهم الموزِّع والسّاكب عن روح المرحوم لا يعنيهم مَن يكون ‏المرحوم.‏

ولأنَّ مَن يسكب الشراب "أهبل" إلى حدٍّ ما، ولم يحاول أن ينال قرشًا واحدًا عن روح المرحوم ‏أو لورثة المرحوم، فسرعان ما نفد البرميل، ولم يبقَ منه ولو كأسٌ إضافيٌّ واحدٌ عن روح ‏المرحوم خلال أقلّ من نصف ساعة.‏

وهكذا دخل الولد المعتوه إلى أحد المطاعم المجاورة ليغسل البرميل الفارغ قبل أن يعيده إلى مَن ‏سلّموه إيّاه طالبًا من صاحب المطعم أن يغسل البرميل بالماء عن روح المرحوم.‏

وأثناء الغسيل سمع أحدهم يناديه طالبًا منه أن يَحضر فورًا إلى حيث جلبة مفاجئة بزغت خلال ‏الهرج والمرج الذي شرع يسود في الحيّ وسط أخبار تناهت بأنَّ الشراب الذي تمَّ توزيعه مجانًا ‏مجهول الهويّة، لا طعم له يشي بأنه لبن ولا حليب ولا مخيض، ولا حتى قشطة! بل وسمع ‏أحدهم أنَّ أوَّل الشاربين عن روح المرحوم أصيب على الفور بإسهال شديد وتمَّ نقله إلى المشفى.‏

صار السؤال الآن بين أهالي الحيّ: " هل شربتَ عن روح المرحوم شيئًا؟".‏

أو "هل تشعر بالغثيان بعد الشراب عن روح المرحوم؟"، بعد أن كان السؤال "هل أعجبكَ طعم ‏اللّبن عن روح المرحوم؟"، أو "ماذا كان طعم الشراب عن روح المرحوم؟". ‏

وسرعان ما تتالت الأخبار عن بقيّة مَن شربوا عن روح المرحوم: "أبوالعبد" استفرغ كل ما أكله ‏على وجبة الغداء، و"أم أحمد" أصيبت بالحمّى وارتفاع مفاجئ في درجة حرارتها، و"أبوسهيل" ‏شعر بدوخة مفاجئة وغاب عن الوعي، وأولاد "أبوأحمد" تمَّ نقلهم أيضًا للمشفى، و"المكوجي" ‏ارتفع لديه ضغط الدم، والبقال ارتفع عنده السُكَّر... ‏

وهكذا ساد هرج ومرج على الهواتف النقالة والكل يستفسر ما الذي جرى عن روح المرحوم؟ ‏وهل الشراب ملوَّث بفيروس "كورونا"؟ أم أنه مجرَّد شراب فاسد لم يُعرف مصدره بعد!‏

أمّا صاحب المطعم المُفتتح حديثًا، فقد استغرب مِن تأخُّر عودة البرميل فارغًا نظيفًا إلى مطعمه، ‏على الرّغم من صغر المسافة بين مطعمه وبين حاويات أمانة عمّان.