صلصال

 

قصة: هشام مقدادي

كاتب أردني

 

يرتطمُ الماءُ المندلقُ من الإبريقِ بأعلى جبينها، يتغلغلُ بعضه في حلكةِ شعرها، فيما ‏ينزلقُ المتبقي منه على وجهها الأملسِ، وكتفيها العاجيين، ينزلقُ الماءُ عن الجسدِ ‏المصقولِ بسرعةٍ مشكّلًا شلّالاتٍ تتهادى مع تكوُّرِ التضاريسِ، وانبساطِها، تُحجِمُ ‏القطراتُ المتبقيةُ متشبثةً بمسامِ جسدها، بعد انتهاء جريان الماءِ، فألمسها برأسِ ‏سبابتي، وأعجبُ من صنيعِ اللهِ.‏

على البابِ، تسوَّي من عِمامتي، وتسلُ شعرةً طويلةً، التصقت بجبّتي، "اجلب لنا تينًا ‏مجفّفًا؛ فابنكَ يريدهُ، أترى؟ إنه يرفسُ بطني، أكادُ أعرفُ بأيّ قدمٍ يرفسُ بطني، همسَ ‏لي صبيحةَ اليومِ: أُريدُ تينًا مُجففًا يا أمي، وأخبرتُهُ بأنَّ أباهُ سيأتي به مساءً"، راقت لي ‏الفكرة فابتسمتُ، أذكرُ ردَّها تمامًا، حين سألتُها بعد عودتي من حلقةِ مولاي ليلًا، ‏كانت الرياحُ تعوي مزمجرةً في أزقةِ باجة، أقفلتُ البابَ بدورةٍ سريعةٍ للمفتاحِ، فعمَّ ‏الهدوءُ، وصلني صوتها رطبًا حنونًا، تشدو بأهزوجةٍ كانت تُردّدها الأُمهاتُ ‏لأطفالهنّ، فأجابت: "طفلنا يحدِّثني، وأحدّثه، يُسامرني في ساعات انتظاركَ"، أتلمّسُ ‏تكوُّرَ بطنها، وأُبقي يدي، فتُدهشني تلك الدفعاتُ الرقيقةُ التي تصلني فتغمرها البهجةُ، ‏‏"هل شعرتَ برفساتهِ؟"، أُقبّلها مبتسمًا، وأُقفلُ البابَ بعد أن ملكت قلبي ببراءتها، ‏وأنعطفُ نحو السوقِ، بخطىً رشيقةٍ.‏

مَن ظنَّ أنّي حِرفي من حرفيّي سوق الصنائعِ، فقد جانب الصوابَ، يقولُ سيدي ‏العارف: الطينُ هو عجينةُ اللهِ التي خلقَ منها أجسادنا البالية، وإذْ أُمسكهُ بكلتا يديَّ، ‏أشعرُ بتلك الرّهبةِ التي تضعني أمام نشأتي الأولى، لذا أُمسكُ كتلةَ الطينِ برفقٍ، فلربما ‏حوت رفاةَ أجسادٍ، اختلطت من تراكمِ الموتى، فأمست أديمًا لهذهِ الأرض، يراودني ‏شعورٌ ما، وأنا أعجنُ الطينَ، لا يتأتَّى لذوي الحِرفِ الأخرى، شعورٌ يدفعني للإيمانِ، ‏بأنَّ في داخلي قُدرةً على تجاوزِ حدَّ الحِرفةِ، إلى ما هو أعلى، وأجلَّ من صناعةِ ‏الأواني الفخاريّةِ.‏

حين مرَّ بي سيدي العارف، أطرقَ في خشوعٍ، فيما كنتُ مُستغرقًا في تشكيلِ ‏الصلصالِ، أغمِسُ راحتيّ في وعاءٍ مليءٍ بالماءِ، أُحرّكُ الدولابَ بقدمي، فتدورُ كتلةُ ‏الطينِ، أصُرُّها براحتيَّ فتنهضُ من رُقادِها مشرئبّةً، خَبُرت يدي اللزوجةَ المناسبةَ، ‏أمسحُ الماءَ الزائدَ عنها حينًا، وأغمِسُها في طستِ الماءِ تارةً، يدورُ الطينُ بفعلِ دَفَعاتٍ ‏خفيفةٍ على العجلةِ المثبتةِ أسفلَ الدولابِ، أضغطهُ، مُدخلًا يدي في تجويفٍ صغيرٍ ‏صنعه إصبعي، سرعان ما اتَّسعَ، وأخذَ الكائنُ اللزجُ بالتشكُّلِ، أمامَ ناظريَّ، تلوّى ‏الطينُ، وبدا خصرُ الإناءِ بالتعالي، بملمسٍ ناعمٍ، أتذكَّرُ خصرَ زوجتي، فأبتسمُ لخاطرٍ ‏أرعنٍ، وأستغفر اللهَ في حضرةِ مولاي، أستحضرُ انحناءةَ خصرها وليونته، مشكّلًا ‏الصلصالَ على هيئتهِ، فأكادُ أصلُ، وفي غمرةِ حبوري، أشدُّ عليه فيتهادى منهارًا، ‏أُعاودُ الكَرّةَ، إلا أني أعجزُ، أرفعُ نظري إلى حيث مولاي، يرقُبُ ما أفعلُ باهتمامٍ، ‏فأبتسمُ.‏

يدورُ الطينُ كما ندورُ في حلقاتِ الذِّكرِ، أُغمضُ عينيَّ مُحرِكًا رأسي، بما يتناسب مع ‏فيضٍ بدأ يسري في جوارحي، فيملأُ قلبي سكينةً، بدت الشفاهُ من حولي تلهجُ بالذِّكرِ: ‏مدد، مدد.. مدد، مدد، ينسكِبُ النورُ في قلبي، فيبثُ لذةّ السلوكِ في ثنايا جسدي، يهتزُ ‏كتفي، وأذهبُ في نوبةٍ من الدُّعاءِ، أقفُ بين المريدين، المترنّمين في عوالم نورانيةٍ ‏تفيضُ بهجةً، أدورُ دورتي الأولى، وعيناي مُسبلتان، دبيبٌ يطرقُ قلبي بانتظامٍ، ‏وتتالت دفقاتٌ من الدمِ، باثّةً الحرارةَ في عروقي، يعلو الذِّكرُ،أدورُ مُشرّعًا ذراعيَّ، ‏أدورُ فتختلطُ الأفكارُ في رأسي، أُحاولُ التركيزَ، علّي أسمعُ ذلك الصوت الدافئ، القادم ‏من أعماقِ أعماق روحي، إلا أنني أفشلُ.‏

فأفتحُ عينيّ، أدورُ فأرى انهمالَ الجدرانِ، واقترابها منّي، وتباعدها، أدورُ مسبِّحًا، ‏سُبحانك اللهم، فالق الإصباحِ، سُبحانك خالق الأنوارِ، والوجودِ والفَناءِ، يفيضُ قلبي ‏بالرِّضا، وتنوسُ أضواءُ الفوانيسِ المعلقةِ، فيعمُ الظلامُ، أدورُ دورةً بطيئةً، أُردِّدُ: ‏اللَّهم.. اللَّهم.. دون أن تُسعفني ذاكرتي بالدُّعاءِ، تَحرِقُ حرارةُ الدمعِ المنهمرِ وجنتيَّ، ‏مخضبةً لحيتي، يغمرني النورُ المنسكبُ من كوةٍ في أعلى الجدارِ، أشعرُ بخفةٍ لم ‏أعهدها من قبل، أعتلي الجمع المتمايل بحركاتٍ موحدةٍ، لأرى جسدي يُغشى عليه ‏متكورًا على السجادةِ المحفوفةِ، بالذِّكرِ واللُّهاثِ والعرقِ.‏

النارُ تُنضجُ الطينَ وتجعله قاسيًا، وجاهزًا لبدء حياتهِ الجديدةِ، على هيئاتٍ مختلفةٍ، في ‏حين أنَّ النورَ النابعَ من كشفٍ ربانيٍّ، يتأتَّى للنفسِ بطولِ مراسٍ، ودربةٍ وخشوعٍ ‏يغمرنا بطمأنينة، تجعلنا أكثر قدرةً على مواجهةِ مصاعب أيامنا القاسيةِ، واغترابنا ‏على هذه البسيطةِ، وبين النورِ والنارِ، مسامٌ ترشحُ غلالاتٍ وألسنةٍ من لهبٍ نصطلي ‏بها، وهسيسٌ يؤنسُ وحشةَ الليلِ، تمخُرُ عبَابهُ شُهبٌ، وأنجمٌ يدور من أسفلِها الطينُ، ‏أعتصر الدعاءَ ماءً، فيتثنّى ويعتلي يديَّ، يميسُ الطينُ، ويميلُ، في حين ترفسُ راحتيَّ ‏دفعاتٌ خفيفةٌ من داخلِ الخصرِ الملتوي، أدفعُ الدولابَ بقدمي، وأتلمّسُ الطينَ بلطفٍ، ‏فيتلوّى مجدّدًا، وتصِلني الدّفعات الرقيقة ذاتها، فأشهقُ، وأعودُ إلى جسدي المتكوِّرِ في ‏مكانهِ، متوسِّطًا حلقةَ الذِّكرِ.