د. إيهاب محمد زاهر
مدرِّس في قسم التاريخ/ الجامعة الأردنيّة
في روايته "سيِّد قريش" قرأ معروف الأرناؤوط أحداث التاريخ في ضوء الحاضر المعيش ومتطلّباته وظروفه، ليقدِّم لأبناء شعبه الدروس والعبر في كيفيّة مواجهة المصاعب والمحن، ولم يفعل ما يفعله المؤرِّخ، فلم يتقيَّد بالزمان والمكان، وزجَّ بشخصيّات متخيَّلة في الأحداث، ولم يتقيَّد بالحقيقية التاريخيّة، بل تصرَّف بها بما يخدم فكرة الرِّواية والرَّمز الرَّئيس فيها.
تكمن أهميّة الرِّواية التاريخيّة في أنَّ ظهورها لم يقتصر على مرحلة معيّنة في تاريخ الرِّواية العربية، بل إنّها رافقت تاريخ الرواية العربية منذ النشأة الأولى حتى أيامنا هذه، وتطوَّرت بتطوُّر الأحداث، و تغيُّر الذوق الجمالي، فتأثرت في طور النشأة بالتراث الشعبي، كحكايات ألف ليلة وليلة والسِّير الشعبيّة، إذْ عمد الكُتّاب في تلك الفترة المبكرة إلى تقديم التاريخ في قالب قصصي بهدف التسلية وإمتاع القرّاء، ثم طغت الرومانسية على الروايات التاريخية، فمال الروائيون إلى الاهتمام بالأساطير ذات الأبعاد التاريخية، كما فعل موريس كامل في روايته "أسطورة الجبل"، وعبدالله حشيمة في روايته "جبل الآلهة"، كما ابتعدوا عن المبالغة والغلوّ في سرد الأحداث، والتصرُّف بها(1). أمّا الرواية التاريخية المعاصرة فقد تخلَّت عن المؤثِّرَيْن الشعبي والرومانسي بعد أنْ أفاد الروائيون من تقنيات الرواية الغربيّة، كما سنجد في دراستنا، لتوظيف التاريخ في الرواية العربية المعاصرة.
لقد تعدَّدت مواقف الروائيين من التاريخ، واختلفت نظراتهم إليه كما تعدَّدت أشكال إعادته، فبعضهم اعتبر التاريخ مجرَّد مادة لتسلية القراء، كجرجي زيدان الذي ألَّف روايات كثيرة لتسلية القراء، و كان يتصرَّف بالمادة التاريخية، ويغيِّر في أحداث التاريخ بما يحقق لروايته المتعة والإثارة، ويخلق جوًّا من المخاطر والمغامرات المشوّقة، وبعضهم استخدم التاريخ للدفاع عن القوميّة العربيّة، فجعل الماضي في خدمة الحاضر، ممّا استوجب النظر إلى التاريخ نظرة تقديس وإجلال، والحفاظ على أحداث الماضي، وعدم العبث بها. وقد تجلّى هذا الموقف في روايات معروف الأرناؤوط الذي نظر إلى التاريخ العربي في ضوء الحاضر، فرأى فيه قبسًا مضيئًا وعزاءً جميلًا(2).
عرض معروف الأرناؤوط في روايته الضخمة "سيد قريش" للحياة السياسية والاجتماعية في العصر الجاهلي عشيّة ظهور الإسلام. ويبدو أنَّ الأرناؤوط لم يختر الفترة التاريخية السابقة مادة لروايته دون هدف، وإنَّما اختارها ليبيِّن للقارئ التحوُّل الكبير الذي حدث نتيجة ظهور الإسلام، وظهور النبي محمد عليه السلام، وتوحيده القبائل العربية تحت راية الدين الجديد، بما تضمَّن من قيم إيجابية إنسانية نبيلة، وبما طرحه من مبادئ وأهداف سَمَت بالإنسان والمجتمع على حد سواء. وقد ركَّز الكاتب اهتمامه، من خلال عرضه لتاريخ العرب قبل الإسلام، على إبراز النقاط التالية:
1- الإشادة بأخلاق العرب في مقابل ذمّ أخلاق أعدائهم من الفرس والروم، فالعرب شرفاء يأبون الضيم، ويهرعون لإغاثة الملهوف، والمرأة العربية حرّة أبيّة عفيفة، تفضل الموت على أن يكلم شرفها، أو تمسّ بسوء، أمّا أعداؤهم الفرس والروم فلا يحفظون العهد، ولا يتورّعون عن الإساءة إلى المرأة الحرّة إرضاءً لغرائزهم البهيمية، لقد حاول "هيباس" القائد الروماني الاعتداء على "هند" بنت امرئ القيس الشاعر العربي المشهور، ولكنها لم تمكّنه من نفسها، وقاومت غطرسته وغروره، واستنجدت بالنخوة العربية، فإذا بالشاعر حسان بن ثابت، وأبي سفيان، وأمية بن أبي الصلت يهبّون لنجدتها، وينتقمون للكرامة العربية بقتلهم "هيباس" شرّ قتلة(3). ويستدلّ الكاتب على غدر أعداء العرب بما ترويه كتب التاريخ من زيارة الملك الغساني لملك الروم، ومحاولة الأخير الغدر به(4).
2- الإشارة إلى إمكانات العرب المهدورة، بسبب تحالف كل طرف منهم مع عدوهم المشترك، وتوجيه سلاح بعضهم ضدّ بعض، فالمناذرة يقفون إلى جانب الفرس، والغساسنة يقفون إلى جانب الروم، والفرس والروم يستخدمون العرب درعًا يصدّ عنهم الغارات، و كثيرًا ما يتواجه الغساسنة والمناذرة في ساحة المعركة، فيهدر العربي دم أخيه العربي. وقد صوَّر الكاتب في الفصل السابع عشر "هدنة بين عدوين" معركة جرت بين الغساسنة والمناذرة، وبيَّن من خلال الرّاوي أنَّ الخاسر هو كلاهما، وأنَّ المنتصر هو العدو: "اللهم إنَّ هذه النفوس التي توافت إلى الموت حتى حصدتها سيوله العارمة لم تُزهق في الدفاع عن أرض الوطن، ولكنها استساغت الفناء في سبيل الأجنبي! لقد كان مقدَّرًا لهذه النفوس الهالكة أن تحفر في هذه البطحاء رموسًا كريمة لو أنَّها ارتضت الموت في سبيل الفكرة المحسنة إلى وطنها، ولكن النسيان الممقوت سيطوي في غياهبه هذه الشموس الخابية لأنَّ أنوارها لم تشأ السُّطوع في آفاق العرب، بل فضَّلت أن تنير آفاق الفرس والروم"(5).
3- الإشارة إلى الروح القوميّة التي بدأت تضطرم في نفوس بعض الشخصيّات التاريخيّة العربيّة. وقد جاء الإحساس بالقومية العربية في إطار رفض الانصياع والخضوع للفرس والروم، والأمل في الخلاص من ظلمهم، والإيمان بالنبي المُنتظر الذي سيخلِّص العرب من الذل والهوان والتجزئة، ويوحِّدهم تحت راية الدين الجديد، ويُخرجهم من الظلمات إلى النور. تقول هند بنت امرئ القيس لأمية بن أبي الصلت: "نعم نعم، وكيف لا أؤمن به "الرسول" وهذه الروح التي تُبعث في أعماق نفسي تأبى عليّ الرُّضوخ للروم والفرس الذين يسرفون في إرهاق قومنا في الشام والعراق"، وقد عبَّر الكاتب من خلال شخصيّة "ليلى"، وهي شخصيّة غير حقيقيّة، عن ضرورة تحويل مجرى الصراع، من صراع عربي- عربي إلى صراع عربي- أعجمي، وتوجيه كل الطاقات والإمكانات باتجاه محاربة العدو الخارجي، وتوحيد كل الجهود، وصبّها في المعركة الحقيقية: "إنَّ في العراق اليوم صراعًا بين الفرس والعرب، صراعًا داميًا بين أخوة لكم يدافعون عن كرامتهم وبين عظيم الفرس الذي أرادهم على الخضوع لقوّاده وأجناده فرفضوا أن يسايروه في هذا الذي أراده إليهم. نعم نعم أيها السادة اذهبوا إلى العراق فإنَّ الدماء التي تُراق في بطحائه كفيلة بإرواء هذه النفوس العطشى"(6).
4- بعث الأمل في النفوس من خلال أحاديث الكاهن "سطيح" عن المستقبل المشرق الذي ينتظر العرب في ظلِّ الدين الجديد الذي سيحقِّق لهم المجد والحضارة والنصر المؤزر على أعدائهم. "أيها الرعاة انظروا إلى الصحراء المتطامنة إلى حرّها وهجيرها، العائشة في صمت جبالها، الغارقة في سكون أفقها، إنها ستنحسر عن روح سامية تمشي بكم إلى شتى الآفاق، فيكون لكم في البر والبحر الملك الضخم الذي لا يبلى، والمجد الذي لا يفنى، والفضيلة التي تغسل حوباء النفس، كذلك سيمشي بكم هذا الروح الأسمى إلى دين جديد تعرفون به ربًّا محسنًا جوادًا عادلًا كريمًا ينقذكم من جحيم هذا البؤس الذي تصطلون بحرِّه ثم يطلُّ بكم على أفق يمور بالطمأنينة والسكون والراحة"(7).
يكتب النص -كما يقول سعيد يقطين- "في إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة"(8)، أي أنَّ النص ينتج في زمن محدَّد، هو زمن الكتابة الذي يؤدّي دورًا رئيسًا في فكِّ رموز النص، والكشف عن دلالاته، وتحديد الدافع إلى كتابته، لذا نرى من الضروري الانطلاق من الفترة الزمنيّة التي أنجزت فيها رواية "سيد قريش" لتحديد الدافع إلى كتابتها، والسبب الذي يكمن وراء تركيز الأرناؤوط على النقاط التي تحدَّثنا عنها سابقًا.
لقد كتب معروف الأرناؤوط روايته "سيد قريش" في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، وكانت سورية آنذاك ترزح تحت نير الاحتلال الفرنسي، وشهد الواقع السوري في تلك الفترة ثورات شعبيّة، عبَّر فيها الشعب عن رغبته بالتحرُّر من الاستعمار، كما شهد على المستوى الثقافي ارتداد "الأدباء في سورية إلى التراث العربي، وبلغ اندفاعهم حدًّا من القوة والعنف كاد يُفقد الحاضر شخصيَّته، فيذوب في الماضي"(9). وقد ارتدَّ الأرناؤوط مع مَن ارتدَّ من الأدباء إلى حقبة تاريخيّة بعيدة، ومضيئة في التاريخ العربي، بهدف استنهاض الشعب، وبث روح الأمل والتفاؤل فيه، ودعوته إلى الاستفادة من دروس الماضي في توحيد الجهود، ورص الصفوف، وضرورة تجاوز الخلافات، والتمسُّك بالوحدة الوطنية للوقوف بوجه العدو الخارجي.
إنَّ الأرناؤوط يتعامل مع التاريخ على أنه مغزى ودروس وعبر، ولعلَّ الدرس الذي أراد من أبناء شعبه أن يتعلموه من التاريخ هو أهميّة الوحدة في تحقيق النصر، وتجاوز المحن والمصاعب. وقد لاحظ الدكتور إبراهيم السعافين في دراسته لروايات الأرناؤوط التاريخيّة أنَّ الكاتب يلجأ في بناء روايته إلى الرمز، وأنَّ رواية "سيد قريش" مبنيّة على رمز محدَّد، هو الوحدة العربية التي تجلَّت في انتصار العرب على الفرس في معركة ذي قار، ثم انداحت لتشمل المنطقة العربية كلها بظهور الدين الجديد(10) وهكذا، لجأ الأرناؤوط إلى التاريخ ليقدِّم لأبناء شعبه الدروس والعبر في كيفية مواجهة المصاعب والمحن، وقرأ أحداث التاريخ في ضوء الحاضر المعيش ومتطلباته وظروفه، ولذا لم يفعل ما يفعله المؤرخ، فلم يتقيَّد بالزمان والمكان، وزجَّ بشخصيّات متخيَّلة في الأحداث، ولم يُلزم نفسه -على الرّغم من أنه أشار إلى المصادر التاريخية التي استقى منها مادة روايته- بأحداث التاريخ، ولم يتقيَّد بالحقيقية التاريخيّة، بل تصرَّف بها بما يخدم فكرة الرِّواية، والرَّمز الرَّئيس فيها.
• الهوامش:
(1) السعافين، إبراهيم، تطور الرواية العربية المعاصرة في بلاد الشام، ص201.
(2) وتار، محمد، توظيف التراث في الرواية العربية، دمشق، 2002، ص39، 40، 41.
(3) الأرناؤوط، معروف، سيد قريش ج1، ص86 وما بعدها.
(4) المصدر نفسه ج1، ص156 وما بعدها.
(5) سيد قريش ج1، ص133.
(6) سيد قريش، ج3، ص18.
(7) سيد قريش ج1، ص189.
(8) وتار، توظيف التراث، ص39.
(9) المرعي، فؤاد، مدارات التاريخ في الرواية السورية، مجلة البيان، الكويت، ع351، 1999، ص10.
(10) السعافين، تطور الرواية العربية المعاصرة في بلاد الشام، ص174 وما بعدها.