مركزيّة اللّون: ‏ ‏"الأزرق" بوصفه أثرًا

د. محمّد صابر عبيد

ناقد وأكاديمي عراقي

 

 

لدى مُعاينة ديوان "هذا الأزرق" للشاعر محمد بنيس بوصفه نموذجًا إبداعيًا لحساسيّة ‏حضور اللون الأزرق في ميدان الإبداع الشعريّ، ينتشر الدالّ النعتيّ "الأزرق" ‏بتجلّياته السيميائيّة الغزيرة انتشارًا هائلًا ذا محمولات علاميّة لا حصر لها على ‏مساحة الديوان، ابتداءً من عتبة الاستهلال، وحتّى عتبة الخاتمة النصيّة في حضور ‏فعّال ومنتِج، يشتغل على ما أنتجه هذا اللون من تكريس وحضور وديمومة وتأثير.‏

 

يُعدُّ اللون الأزرق لونًا مركزيًّا بوصفه أحد الألوان الأوليّة الثلاثة التي يمكن رؤيتها ‏من خلال الضوء المرئيّ إلى جانب كلٍ من الأحمر، والأخضر، بحسب ما يُعرَف ‏بمختصر "ـRGB‏"، وهي الأحرف الثلاثة الأولى من هذه الألوان، ولهذا اللون في ‏الذاكرة الإنسانيّة على مرّ العصور حضور بارز يختلف باختلاف العصر والشعب ‏والمكان، فهو على مستوى الثقافة اللونية الإجرائيّة لونٌ باردٌ ينطوي على طاقة ‏ضوئيّة مُضمَرة تختزن طاقة إشعاع شديدة الكثافة والعمق والحيويّة، ويحيل على ‏دلالات الهدوء وحالات الصفاء ويحجب الانفعال والاندفاع والتهوُّر والسرعة في ‏مقاربة الأشياء وأخذها والتعامل معها، إذ هو لون شائع بكثرة وزخم تشكيليّ بدرجات ‏لونيّة هائلة في السماء، وفي الطبيعة، وفي الحلم، وفي الذاكرة، على نحوٍ مهيمن ‏وطاغٍ يدفع الإنسان إلى مزيد من الحيوية، غير أنّه مع ذلك يظلّ مسكونًا بشحنة خوف ‏غامضة لا تتبدّد بسهولة.‏

يميل عشّاق هذا اللون نحو انتقاء ملابس مزيّنة بتدرّجاته وتمثّلاته اللونية بحثًا عن ‏مزيد من الاستقرار والإحساس بالقوّة والرقيّ، على نحو يحافظ على الانسجام ‏والتوافق مع المحيط والفضاء بأعلى درجات التلاؤم والمرونة وتحقيق المقاصد ‏والأهداف، وبما يحقّق فضاء جماليًا أعمق وأوسع وأكثر تأثيرًا في المحيط. ‏

للّون الأزرق في هذا السياق صلةٌ ما بالإبداع الإنسانيّ بشتّى صنوفه وأشكاله، في ‏تفاعل يتوفّر على قدر من الغموض السحريّ النابع من طاقة اللون ومخزونه العميق، ‏بما يدفع نحو اعتماده في ممارسات واسعة جدًا من حركة البشر في الوجود، على ‏مستوى المكوث والتلبّث وعلى مستوى النشاط والمبادرة أيضًا، ولعلّ كثيرًا من ‏المبدعين في شتّى مجالات الحياة يفضّلون اللون الأزرق بتدرُّجاته المختلفة في حياتهم ‏الشخصيّة، فهو لون يحسم الحيرة في الاختيار حين يتوفّر على العناصر الأساسيّة ‏للجمال. ‏

وبوسعنا معاينة ديوان "هذا الأزرق" للشاعر محمد بنيس بوصفه نموذجًا إبداعيًا ‏لحساسيّة حضور اللون الأزرق في ميدان الإبداع الشعريّ، حيث ينتشر الدالّ النعتيّ ‏‏"الأزرق" بتجلّياته السيميائيّة الغزيرة انتشارًا هائلًا ذا محمولات علاميّة لا حصر لها ‏على مساحة الديوان، ابتداءً من عتبة الاستهلال وهي تمثّل البداية النصيّة في انطلاقتها ‏الأولى، وحتّى عتبة الخاتمة النصيّة في حضور فعّال ومنتِج، يشتغل على ما أنتجه هذا ‏اللون من تكريس وحضور وديمومة وتأثير في ذاكرة الإنسان والحياة والطبيعة والحلم ‏والتجربة، كي يكون الشعر في هذا الديوان هو الإضافة الجديدة لفضاء اللون في ‏حاضنة الإبداع، فالشعر هو السفير التشكيليّ المناسب لحركيّة اللون في الأشياء.‏

يسعى الأزرقُ "اللونُ والرؤيةُ والفلسفةُ والزمنُ" في هذا الكتاب الشعريّ نحو التلبّث ‏في ميدان الكلام بوصفه أثرًا تتضاعف قيمته كلّما مرّ الزمن عليه، فالعنوان الأوّل ‏الذي يفتتح الشاعر به كتابه "نحو الأزرق" يكشف فورًا عن حجم الفضاء المفتوح بقوّة ‏وإصرار في هذا الاتجاه، حيث يتحوّل الأزرق في هذه الجملة الظرفيّة الموجزة إلى ‏أفق أو فضاء أو طبيعة أو كيان هائل لا يمكن إدراكه من دون الانفتاح المطلق عليه.‏

عنوان "نحو الأزرق" يحتلّ صفحة كاملة تتلألأ فيها صورة الأزرق والدعوة الموجّهة ‏للانضمام له بوصفها جوهر بياض الصفحة، في حين يحيط ما تبقّى من بياض ‏الصفحة بالإشعاعات والإشارات والعلامات السيميائيّة التي يصنعها ظرف المكان ‏‏"نحو" مضافًا إلى اللون "الأزرق"، وفي الصفحة اللاحقة يُختَزَلُ سواد الكتابة كي ‏يحتلّ وسطَ البياض دالٌّ واحدٌ من ثلاثة حروف تشغل أصغر حيّزٍ ممكنٍ من بياض ‏الورقة هو "أثر"، تاركًا ما تبقّى من بياض الورقة رهينةً لإيقاعه وسيميائه وفضائه ‏الذي لا يقف عند حدّ مُعيّن، فهو نكرة مفتوحة على ما لا نهاية من قوّة التدليل ‏والتشكيل والتصوير والتأويل.‏

تتلاحق الصفحات هكذا في تلاحق وتعاقب من العنوان الكلّي الأكبر "هذا الأزرق" ‏على صفحة الغلاف الأوّل للكتاب الشعريّ، ثمّ الصفحة الداخليّة الافتتاحية وهي تعيد ‏إنتاج العنوان الكليّ بعنوان ثانويّ طالع من ضلع العنوان الأكبر هو "نحو الأزرق"، ‏حيث يغيب اسم الإشارة "هذا" ويستبدل به ظرف المكان "نحو"، وصولًا إلى الصفحة ‏اللاحقة لها حين يُختزَل الكلام إلى أقلّ قَدرٍ ممكن من الحروف "أثر" مُتضمِّنًا معنى ‏الأزرق وقيمته، على نحوِ ما سيظهر في اللاحق الشعريّ الذي ينبري فيه الرّاوي ‏الشعريّ الذاتيّ متقلّدًا زمام المحكي الشعريّ، وهو في سبيله نحو استحضار تاريخ ‏علاقته بالأزرق وبدايته معه:‏

 

‏"لم أعد أذكرُ متى جاءني الأزرقُ‏

وتحتَ شجرة الصمت ظلّ يهدِلُ".‏

 

يبدأ الخطاب الشعريّ بداية حاسمة بحرف الجزم "لم" وهو حرف نفي وجزم وقلب ‏ينهي الجدل الذاتي حول تاريخ مجيء "الأزرق"، ويأتي محو ذاكرة المجيء في صالح ‏فلسفة الأزرق كي لا يرتبط اللون بمرجعيّة تاريخيّة محدّدة تعود على بداية واضحة، ‏في حين توحي الجملة بطريقة أدائها الأسلوبيّ "لم أعد أذكرُ متى جاءني الأزرقُ" أنّ ‏المحو حديث، فقد كان موجودًا قبل الآن لكنّ عوامل معيّنة تدخّلتْ لإحداث هذا المحو ‏كي يبدأ "هذا الأزرق" بداية جديدة لا علاقة لها بأيّ ماضٍ سابق.‏

‏ حيث يبدأ مع هذه الفكرة الشعريّة السارية المفعول الإثباتُ السابق والمحوُ اللاحق، في ‏ظلّ حضور الأزرق الوارد "جاءني" داخل حاضنة المطلع الشعريّ للقصيدة، وتوافقًا ‏مع عتبة العنونة الكبرى للكتاب "هذا الأزرق" وهي توجّه الأنظار والعناية والتركيز ‏نحو طاقة اللون الماكثة في أعماق الصفة "الأزرق".‏

يقترن هذا المجيء بالفعل الصوتيّ الذي يسهم في تغيير الحال وقلب المعادلة في ‏الجزء الثاني من الصورة الشعريّة "وتحتَ شجرة الصمت ظلّ يهدِلُ"، ابتداءً من ‏ظرف المكان "تحت" بسهمه الدلاليّ المتوجّه نحو الأسفل حيث تقيم "شجرة الصمت" ‏عزاءها، والصمت هنا هو ثمار هذه الشجرة وعطاؤها الكامن والغامض الذي لا ‏يُفصِح عن مضمونه، غير أنّ "الأزرق" يستعير هنا صوت الحمام كي يخترق صمت ‏الشجرة بهديله المستمرّ.‏

يشرع الهديلُ بافتتاح مشروع القصيدة القائم على فكرة الصراع بين صوتٍ مُنتخَبٍ هو ‏‏"الهديل" وشجرة تختزن الصمت في جذورها وجذعها وأغصانها وثمارها وشكلها ‏وظلّها، وصوت الهديل في أصل المرجعيّة الصوتيّة هو الصوت الليّن بعد المبحوح ‏في الحلق، وارتبط بصوت الحمام بما يحيله هذا الطائر الذكيّ الأليف على معانٍ ‏ودلالات يأتي في مقدّمتها نوع "الحمام الزاجل"، وهو يؤدّي وظيفة "البريد" بوصفها ‏تنقل "الكلام الصامت" الكامن في هذه الرسائل وهو يحملها من مكان إلى آخر.‏

يتحوّل "الأزرق" إلى "حَمام" بدلالةٍ إيقاعيّةٍ ظاهرة هي "الهديل"، ويُحتمَلُ أن يكون ‏النوع المضمَر من هذا الحمام هو "الحمام الزاجل" كي يقوم في هذه القصيدة بنقل ‏‏"رسالة" إلى الشاعر من جهةٍ ما، أو ينقل رسالة الشاعر إلى جهات تظهر بين آونة ‏وأخرى على مساحة الديوان بانتشارٍ متشعّبٍ.‏

يهبط "الأزرق" إلى قاع الحياة الاجتماعيّة كي يلوّنها بما يحيل على قدرة اللون في ‏ممارسة دوره/ الأثر، حين يرتبط بحالة اجتماعيّة محدّدة تضع شخصيّة منتخَبَة ‏موضع المساءلة اللونيّة بوصفها علامة ناجزة للتمييز والتعيين:‏

 

‏"لكنّ بذلةَ ذلك العاملِ وهو في الصباح الباكر يركبُ‏

دراجتَهُ كانت الأثرَ".‏

 

فالشخصيّة الشعريّة التي تمثّلتْ هذه الرؤية الشعريّة هي شخصيّة "العامل" في ‏حركيّتها المميّزة وإحالتها على علامة المهنة "بذلةَ/ ذلك العاملِ/ وهو في الصباح ‏الباكر/ يركبُ دراجتَهُ"، فلا تتشكّل الشخصيّة على النحو المطلوب بمجرّد ذكر النوعيّة ‏العامة لجنس المهنة "عامل"، لذا تدخل علامة الملبس "بذلة" لتحقيق الصورة المطلوبة ‏التي لها علاقة بالأزرق في نموذجها اللونيّ، وهو يرتبط بالزمن "الصباح الباكر"، ‏وبالآلة التي تميّزه "درّاجته" وهو يوزّع الرسائل على أصحابها في توازٍ سيميائيّ مع ‏احتمال تأويل الحَمام على أنّه "زاجل"، كي يكون في الصورة اللاحقة ساعي البريد ‏ببذلته الزرقاء المميّزة.‏

تنفتح هذه الصورة المشغولة بالأزرق على حركة شعريّة تتفاعل فيها درّاجة العامل ‏ببذلته ذات العلامة الدالّة على نوع المهنة مع بصر الراوي الشعريّ:‏

 

‏ "انحدرتْ‏

‏ مثل شعلةٍ

‏ بغيرِ علمٍ منّي ولا إرادةٍ

‏ إلى

‏ أسفل النّظرِ".‏

 

ثمّة زحافُ بصريٌّ أبيض يدفع سواد الكلمات الشعريّ نحو عمق البياض كي يكون في ‏مرمى نظر الراوي الشعريّ، إذ تنحدر هذه الكتلة الشعريّة "صورةً ودلالةً" من الأعلى ‏إلى الأسفل لتصوّر هبوط الشعلة العابر للعلمِ والإرادة، حتّى يصل أسفل النظر، ‏والشعلة تتزيّن بالأزرق في حالة صفائها في مواجهة بصر الرائي الشعريّ.‏

تنفتح الشعلة الهابطة نحو الأسفل بقوّتها اللونيّة "الزرقاء" لتأخذ حصّتها من المعنى ‏الشعريّ، وتمتدّ بأكبر طاقة على إشاعة الغموض في سِفرِ الصورة الشعريّة:‏

 

‏ "زرقةٌ‏

‏ بكلّ غموضها امتدتْ

‏ في حدقة العينينْ".‏

 

إنّ درّاجة العامل/ الشعلة/ الزرقة بكلّ ما تتزيّن به من حساسيّة تشبيه تحيل مَهمّة ‏الرؤية البصريّة على "حدقة العينين"، وتشتغل صفة الغموض في منح "الأزرق" قدرة ‏الانفتاح على سمة التعدّد والتنوّع الذاهب نحو مزيد من طبقات المعنى، ولصفة ‏الغموض هذه قابلية فذّة على الامتداد لإثارة مزيد من التفسير والتحليل والتأويل، بما ‏يجعل "الأثر" شكلًا من أشكال تلبّث اللون "الأزرق" في مرآة العينين المفتوحة على ‏آخرها.‏