عواء داكن اللّون

قصة: تيسير نظمي

قاص وروائي أردني

 

ما عدتُ أتذكَّر كيف حدث الأمر، ولا متى تحديدًا، ولا الأسباب التي جعلتني في السنوات الأخيرة ‏من عمري أجدني وحيدًا في عزلة لا هي بالسيِّئة ولا البهيجة. في غرفة مطلّة نافذتها الزجاجيّة ‏العريضة على طريق يصعد بمشقّة مرتفَعًا لا أعرف إلى أين يفضي. ومع طول الصَّبر ‏والمعاينة، اكتشفتُ هكذا بمفردي أنَّ زجاج النافذة من النَّوع الدّاكن الذي يجعلني أرى المارّة من ‏وراء مكتبي بينما هم لا يرونني. وأكاد أسمعهم لو تكلّموا، بينما هم لن يسمعونني ولا يسمعون ‏بالطبع الموسيقى المنبعثة من الحاسوب أو من وجع الكتابة أو حتى من ذكريات كبار الملحّنين ‏والعازفين. ‏

ما عدتُ أتذكَّر كيف ومتى وقع الأمر. فالنافذة العريضة أمامي أيضًا لا تفتح. مصمَّمة بحيث لا ‏تفتح إلا بـِ"الريموت كونترول"، ربَّما، ولا وجود لهذا الـ"ريموت كونترول" في زنزانتي المريحة ‏بعض الشيء، على الرغم من وجود "ريموت" شاشة التلفزة المفتوحة على قناة واحدة لا تقبل ‏التبديل أو الاستدارة. لا، ما عدتُ أذكر شيئًا عن البدايات. عن النهايات، عن الذكريات القريبة أو ‏البعيدة. لكن كل هذا بدا محتملًا وأنا لا أغادر مكاني هذا منذ فترة طويلة، ولا أدري كيف يتم ‏تزويد هذا المكان بكل ما أحتاجه ومتى! قلتُ لنفسي، لعلّهم يرتِّبون لي كل شيء أثناء النوم. ولم ‏أعد أيضًا أتذكَّر متى نمتُ آخر مرَّة ومتى استيقظت. ساعة يدي واقفة. والحاسوب به ساعات ‏كثيرة، ولكي أعرف الوقت يتوجَّب عليّ أن أحدِّد مكاني؛ أين أكون؟ ربَّما أنا ما زلتُ في عمّان، ‏أو أنني انتقلتُ للعيش ثانية في الكويت! أو أنني غادرتُ إلى الجزائر. ربَّما أكون في السويد أو ‏في كاتماندو، ربَّما أكون في الصين أو في ألاسكا. فأنا لا أسمع المارة يتحدثون كي أحدِّد من ‏لغتهم مكاني، ولا أعرف أية لغة يتكلمون كي أعرف زمني من لغتهم. ماذا لو كانوا يتكلمون ‏الآرامية مثلًا! أو الكنعانيّة القديمة! أو الإنجليزية قبل الغزو النورماندي! احتمالات كثيرة لم يطُل ‏تدارسي لها قدر شغفي بالسائرين على الدرب الصاعد نحو أعالي أجهلها ولم أرَها من قبل.‏

ضجرتُ اليوم من القراءة ومن الكتابة ومن الموسيقى ومن أفلام السينما ومن كل شيء عندما ‏تابعتُ مشهد رجل طاعن بالسن يصعد مصطحبًا كلبه أو كلبته الطريق ويختفيان. من حركة ‏الكلب أدركتُ أنه غير راضٍ عن ارتياد صاحبه العجوز لتلك الطريق. كان يتوقف كثيرًا ‏وصاحبه العجوز يتفهَّم توقُّفه فيتوقف قليلًا مداراةً منه له. لكنَّ الكلب يشدّه بعكس الاتجاه السائر ‏فيه. يشدّه للخلف والعجوز في نهاية الأمر يشدّه إلى أمام ما بين كل خطوة وأختها. عجبتُ لأمر ‏هذا العجوز مثلما عجبتُ من أمر الكلب. فكل ما أعرفه أنَّ الإنسان هو الذي يقود الكلب، لا أن ‏يحاول كلب شاب اقتياد صاحبه المُسن بطيء السَّير متثاقل الخطوات إلى أعلى.‏

فجأة، انبثقت من الذاكرة مشاهد متعددة للمارة الكثر الذين شاهدتهم من وراء نافذتي الداكنة؛ ‏يسيرون في اتجاه واحد هو الصُّعود. بدأتُ أتذكَّر رويدًا رويدًا أنَّ مَن شاهدتهم يمرّون من اليسار ‏إلى اليمين صاعدين بتثاقل المرتفع الغامض لا يعودون من الطريق نفسها مهرولين أو متّئدين من ‏اليمين إلى اليسار، ماشين أو راكضين يغريهم المنحدر بالخفّة والحبور. لا لم أشاهد حتى الشباب ‏منهم والصبايا يعودون من الطريق نفسها. استوقفتني الملاحظة تمامًا قبل أن يختفي الرجل ‏العجوز وكلبه أو كلبته تمامًا عن ناظري. وممّا أيقظ انتباهي أنني شاهدتُ عاشقين يسيران في ‏الطريق نفسها صاعدين فيختفيان تمامًا عن ناظري ولا يعودان إلى نقطة البدء التي انطلقا منها. ‏شاهدتُ أيضًا أناسًا فرادى يسيرون بتثاقل صاعدين الغامض الرَّمادي إلى لجّة الكحلي وتختفي ‏ألوانهم معهم قمصانًا أو فساتين أو بنطلونات جينز ممزّقة عند الفخذين أو الركبتين. في البداية ‏ظننتُ أنَّ الأمر متعلّق بالرياضة البدنيّة التي تتطلّبها الوقاية من فايروس كورونا. لكنني لم أرجّح ‏هذا الظنّ لأنَّ مَن يغادر لا يعود. ومَن يمارس الرياضة البدنيّة صعودًا كيف لا يمارسها هبوطًا ‏من الأعالي والمرتفعات. أقول لكم: اجتاحتني حمى المعرفة لما وراء نافذتي وما وراء المرتفع ‏الذي أنا ساكنه الفرد الوحيد الأعزل. ساعدتني الشمس في تحديد المشرق وتحديد مغربها. ولم ‏أكترث كوني لم أستطع تمييز الشمال من الجنوب أو العكس إن شئتم. وفكّرتُ قليلًا بأنَّ السائرين ‏على الدرب يغادرون مثل الشمس من المشرق إلى المغرب. وليس العكس بالطبع. لكنَّ الشمس ‏بعد المغيب تعود في اليوم التالي من حيث أتت وهكذا دواليك، بينما الذين شاهدتُهم لم يعُد أحد ‏منهم من حيث أتى. ‏

إلى أين يذهبون؟

عشرات السائرين أمامي طيلة النهار وطيلة الليل يسيرون على أقدامهم فرادى أو جموعًا ‏مصطحبين زوجاتهم أو كلابهم أو كتبهم أو عكازاتهم؛ إلى أين يذهبون؟ لماذا لم يفكر أحد منهم ‏بأن يتوقف قليلًا وينظر نحو نافذتي العريضة الداكنة الزجاج غير المشرّعة ويصرخون أو ‏ينادون أو يستفسرون عن الطريق أو يستدلّون بي ومنّي على عنوان مجهول؟ ولو خطر لي أن ‏أسأل أحدًا منهم "إلى أين أنتم ذاهبون؟" فهل سوف يسمعني؟ بل هل من حقي السؤال؟ وأنا مثلهم ‏يحق لهم أن يسألونني: "ماذا أنت بفاعل هنا؟" أو "ماذا تنتظر؟"، فبماذا أجيبهم عن أسئلتهم غير ‏المتوقّعة التي أنا عاجز تمامًا عن الإجابة عنها؟

عدتُ يائسًا من المَشاهد المتكرِّرة أمامي، ويائسًا من الصَّمت الدّاكن الثّقيل، فأشغلتُ مسجّلتي على ‏موسيقى "الدانوب الأزرق" وشرعتُ أراقب المشهد من خلال نافذتي الوحيدة الباقية. شاهدتُ ‏مجدّدًا زوجين يقتتلان أمامي في طريق الصُّعود المُعتاد. لوّحتُ بيدي لهما أنْ كفى! فلم يرَني أيّ ‏منهما وظلّا يقتتلان. ناديتُ إذْ ناديت، فلم أسمع أنا صوتي الذي ظننتُه عاليًا صاخبًا كالموسيقى، ‏فخفضتُ من علوّ صوت الموسيقى وبالتّزامن خفضتُ من سرعة جريان نهر الدانوب، لكنَّني ‏عبثًا أحاول إسماعهم صوتًا ليس لي، فلذتُ بالصَّمت قبل أن يختفيا من المشهد.‏

الجدران من حولي تقترب منّي ببطء وتضيق المساحة رويدًا رويدًا، وكلب العجوز أيضًا يعود ‏هلعًا مذعورًا مثل كلب مجنون، يعوي حتمًا ويجري وعند باب داري يقعي وحيدًا، فيزداد اللون ‏الرماديّ حلكة. اقتربتُ من النافذة فشاهدتُ الدّموع في عينيه بعد أنْ كفَّ عن العواء تمامًا ‏وانبعثَتْ ثانية من ورائي موسيقى الدانوب.‏

‏12-8-2021 ‏