ملامحُ الريفِ والبادية الأردنيّة في منتصف القرن العشرين؛ من خلال الأغنية الشعبيّة.

مريم ملهي النويران
كاتبة وباحثة أردنية
يندرج الغناءُ الشعبيُّ الأردنيُّ ضمن اللون الغنائي التراثي لبلاد الشام، إذ لم يختلف هذا اللون عن مثيله في كلٍّ من فلسطين وسوريا ولبنان، وكان هناك قوالب غنائية عامة معروفة، ولكن تختلف كلماتها من منطقة لأخرى، ومن أمثلة ذلك أغاني "الميجنا والعتابا والدلعونة"، وكلُّ هذه الأغاني كانت مرتبطةً بالحياة اليوميّة للأرياف والقرى إذ كان الغناءُ يشكّل جزءاً من يومياتهم، حيث يصف الحقل ومواسم الحصاد والرعي والغلال والمنتجات الزراعية وعيون الماء والطبيعة بتفاصيلها كافة.
أمَّا الأغنية التراثية الأردنيّة فكان لها عمقٌ تاريخيٌّ فريد؛ فالأغنية الأردنية لم تكن تشكّل الحالة العاطفية أو الاختلاجات النفسية للشاعر فقط، بل كانت عبارة عن بانوراما كاملة لشكل الحياة الاجتماعيّة في الأرياف والبوادي الأردنية، وبالتمعن في كلمات الأغاني التراثية الأردنية نجد في خباياها شكلاً أوضح لأسلوب الحياة بتفاصيلها الدقيقة، إذ أنَّ كلَّ أغنيةٍ تراثيّةٍ تحمل العديد من الألفاظ والمصطلحات والصور الشعرية التي تنقل لنا بشكل أو بآخر قالب الحياة في فترة كانت تسيطر عليها مظاهر الحياة الريفية البسيطة التي لها مدلولاتها.
وهذه المقالةُ كُتبت لمحاولة فهم شكل الحياة من خلال كلمات الأغاني التراثية التي ما زالت تتناقلها الأجيال حتى وقتنا الحاضر.
إنَّ الأغاني التراثية غنيّةٌ بالمصطلحات والصور الشعرية التي تعبّر عن حالة من الاستقرار المعيشي والاقتصادي نوعاً ما في شرق الأردن، فشكلُ الأغنية الأردنيّة هو أقلُّ وحشة من نظيرتها العربية، فنادراً ما نجد أغنية أردنية ترتبط بذكرى أليمة أو بأحداث مأساوية إذا ما قورنت بمصطلحات الأغنية التراثية الفلسطينيّة أو السورية أو اللبنانية على سبيل المثال؛ لذلك نستطيع أن نلمح من خلال الأغنية الأردنية الشكل الهادئ والمستقر للحياة بشكل عام.
ومن خلال التمعن في شكل الحياة الاجتماعية للأرياف الأردنية فالواضح من أغلب كلمات الأغاني أنَّ الحياة كانت تعتمد على الطبيعة الريفية البسيطة، وهذا ما يظهر واضحاً عند الكثير من المطربين؛ فها هو توفيق النمري يذكر في الكثير من أغانيه شكل الحياة الريفية البسيطة ويتغنّى بجمال الفتيات الريفيات، ففي أحدى أغانيه يقول: "ويلي محلاها البنت الريفية، ويلي محلاها على نبع الميه". وفي أغنية أخرى يقول: " ريفية وحاملة جرة تتمايل على الجنبين.. سلبت عقلي بالمرة يا أخوي برمش العين"، بينما يصف عبده موسى حالة الفتيات على نبع الماء بقوله: " يا غزلان على العين ما شفتولي محبوبي؟". ويرتبط تواجد الفتيات على عين الماء بطبيعة الحياة التي تقتضي من الفتيات جلب المياه بشكلٍ يومي، ومن ذلك أغنية: "ثلاث غزلان بعيني وردن على عمان.. مثل الشمس طلينِ والقامة غصن البان".
كذلك كانت دروب الواردات معروفة لدى القرويين؛ وهي الطريق التي تذهب منها الفتاة صوب النبعة أو العين حتى تملأ جرارها بالماء، ففي إحدى الأغاني التراثيّة والتي كان مطلعها: "ع درب منيفة انكسر قنديلي.. يا دمع عيني ملا منديلي". يصف القائل اختلاجاته العاطفيّة بالبكاء الصامت دون أن يبوح لمحبوبته بمشاعره بل يكتفي بمراقبة دربها عندما تذهب وتجيء.
كذلك ترتبط حياة القرويات بجلب المياه من البئر، وها هي أغنية: " خاتم حبيبي وقع بالبير لو رنة.. واللي سمع رنته مرهونة له الجنة ". لتصف كيف أنَّ القروية لا بدَّ أن تفقد بعض أغراضها خلال عملية نشل الماء من البئر. وفي أغنية "عالعين موليتين وطنعش مولية.. جسر الحديد انقطع من دوس رجليا". نلمح من خلالها الطبيعة الوعرة في منطقة وادي الأردن حيث كانت الجسور الحديدية واسطة للتنقل بين الأرياف.
وبالرجوع لملاحظات بعض المستشرقين والرحالة الأجانب نجد أنَّهم دوّنوا الكثير عن عادات جلب المياه في الريف والبادية الأردنية، فرأى الرحالة الفرنسي "أنطون جوسان" في كتابه "عادات العرب في بلاد مؤاب" أنَّ العملية تحتاج للجهد والوقت، إذ عادةً ما كان " منزل العرب " يبعد ساعةً إلى ساعتين عن أقرب تجمعٍ مائيّ، وفي ساعات الفجر الأولى تقوم النساء بالخروج ضمن مجموعات مكوّنة من عشر إلى خمس عشرة امرأة لجلب الماء، وكن يحملن "الروايا" على الجمال أو القرب على الحمير، وكان يُطلق عليهن مصطلح " الورادات " في الذهاب، و" الصادرات " في الإياب، وعادةً ما يعدن قبل الظهر بقليل، وكن يذهبن " للميراد" مرةً واحدةً صباحاً، وتوزع الماء للضيوف ولفرس الشيخ وللمواشي المريضة ولحاجات البيت، وإذا ما نفدت الماء عليك أن تنتظر حتى اليوم التالي ظهراً لتحصل عليها.
فيما يقول عالم الآثار الأمريكي "سيلاه ميريل" في كتابه "شرق الأردن سجل رحلات وملاحظات في بلاد مؤاب وجلعاد وباشان": "كانت المياه تُنقل للبيوت بواسطة الحمير باستخدام قِرب جلديّة، إذ عادةً ما يبعد الماء عن مقر العشيرة حوالي ثلاثة أميال، وكان هدف البدو من إبعاد الماء عن البيوت لعدة أسباب: منها عدم مضايقة المواشي والإبل عند الورود، والمحافظة على أطفالهم الصغار من الغرق في الماء، وإعطاء الحرية لأيِّ شخصٍ يرغب في الاستحمام، أمَّا إذا كانت المسافة قريبة بين البيوت ومصدر الماء وهو أمرٌ نادرُ الحدوث فتقوم النساء بنقل القرب على ظهورهن، ويعتبر جلب الماء من قبل الرجال "نقيصة" إذ كان الرجال يمتنعون عن ذلك إلا المضطر كأن يكون وحيداً أو يسكن مع والدته العجوز، أو تكون زوجته مريضة، أو يكون خادماً عند أحد الشيوخ، ما عدا ذلك يحرم على الرجال جلب الماء أو الحطب".
أمَّا فيما يخصُّ مواسم الزراعة والحصاد ووصف البساتين بشكل عام فلم تبخل الأغاني الأردنيّة بذلك؛ فعلى سبيل المثال أغنية عبده موسى والتي يذكر فيها نزول الفتيات على البساتين من أجل التنزّه، فيقول: " نزلن على البستان يا عنيد يا يابه .. والله وحلّن شعرهن، كل البنات نجوم يا عنيد يابه.. والله وهي قمرهن". ومن الأغاني التي تخاطب جمال الطبيعة الأردنية أغنية " الورد فتح يا زارعين الورد الورد فتح فتح وما شاء الله.. والولف روح والورد فوق الخد والولف روح الله معه الله ". كذلك من الأغاني التي يناجي فيها العاشق الأشجار أغنية توفيق النمري "دخلك يا زيزفونة .. ما عينتِ المزيونة".
وفي أغنية أخرى لعبده موسى يقول فيها: " لا تغربلين القمح.. لا تضمرين زنودك " كنايةً عن الأعمال التي كانت تقوم بها الفتاة الريفيّة في موسم الحصاد، وهي غربلة القمح؛ أي فصل حبات القمح عن القش، وهذا العمل كان من الأعمال التي تقوم بها الفتيات في فصل الصيف من كل عام، وهو عملٌ شاقٌّ بدلالة قوله: " لا تضمرين زنودك"؛ أي لا تعرضي زنديك إلى المشقة والتعب.
ومن الأغاني التي تصفُ فترة الحصاد أغنية " دوّر ماتورك دوّر والحقني على الحَماري.. واللي هويان بنية لازم يأخذها جباري"، كذلك أغنية " منجلي يا منجلاه.. راح للصايغ جلاه"؛ وهي من الأغاني التي كانت تحمّس الحصّادين أثناء جمع المحصول.
كذلك أغنية " هب الهوى يا ياسين.. يا عذاب الدراسين"؛ وهي أغنيةٌ تصفُ أثر هبوب الريح في تعطيل عملية درس المحصول وفصل القمح أو الشعير عن القش، إذ يُعتبر هبوب الريح مُعطّلاً لهذه العملية. وتتابع كلمات الأغنية لتصف تفاصيل الحياة الريفيّة فتأتي على ذكر شعيرة ذبح الأضاحي لدى المسلمين، وتذكّر أيضاً عملية جمع جروم الحطب للتدفئة وما إلى ذلك.
بالإضافة لأغنية " عالبيدر يلي وعالبيدر يلي.. أنتِ نعنوعة وبيّك متغلي.. لأدفع سياقك ذهب عصملي.. كله عشانك يا أسمر اللون"، وفي ثناياها نلمح أنَّ الذهب العصملي أو الليرات العثمانية هي من المدخرات الثمينة التي كان يحافظ عليها أهل الريف للحاجات الضرورية كدفع مهر الفتيات.
ومن الأغاني الحماسية " ولع الباطون ولع.. اشتغل وإلا تقلع " وهي أغنية تدعو العمال إلى إتقان العمل والإنجاز بسرعة، ويذكر مقطع من الأغنية أهمية الشاي لدى العمال فيقول: " يا معلم هاتوا هاتوا.. إبريق الشاي وكاساته"، كما تدعو الأغنية إلى ضرورة دفع أجرة العمال في حينها إذ تقول: " يا معلم هات وحلينا تا نقبقب كلينا" وكلمة "نقبقب" تعني نرجع إلى بيوتنا في آخر النهار بعد انتهاء العمل.
ويذكر الرحالة البريطاني "ارتشيبولد فوردر" ملاحظاته عن أهمية القمح لأهالي شرق الأردن في كتابه " مغامرات بين العرب"، فيقول: "يُعدُّ القمح من مقوّمات الحياة لدى البدو، فكان البدو يقومون بطحن الحبوب بشكل يدويّ ثم تعبأ بأكياس من الخيش لتستخدم طوال السنة". كما يصف مواطنه "وليم بالجريف" في كتابه " وسط الجزيرة العربية وشرقها " موسم الحصاد فيذكر أنَّ جميع أفراد العائلة من رجال ونساء وأطفال تخرج لجمع المحصول في هذا الموسم، كذلك من الواجبات الرئيسة لدى البدو شجيرات "المصع" وشجيرات "السمح" التي تتكاثر في شهر تموز.
ويرى الفرنسي "جوسان" أنَّ أهمية القمح لدى سكان الريف الأردني تنطلق من حاجتهم وحاجة حيواناتهم على مدار العام، إذ أنَّ قاعدة الغذاء الأولى لديهم هي الخبز، ومع ذلك كانت تمرُّ فترات من السنة يعانون فيه من ندرة الخبز حسب المحصول السنوي الذي يتفاوت من سنة لأخرى، كما كان الاعتماد على منبوتات الأرض كنبتة " التمير" وهي نبتة شبيهة بالبطاطا، كان البدو يجمعونها ويستهلكونها وقت الحاجة، وفي حال انقطاع أي من وسائل التغذية فإنَّ الأغلب يلجأ إلى التمر والحليب كأسلوبٍ غذائيٍّ بسيطٍ ومتواجد بكثرة بين أيديهم.
أمَّا حياة السمر في الريف الأردني فكانت محور كلمات الكثير من الأغاني، فعلى سبيل المثال هناك أغنية جمعت بين المطربة سلوى العاص والملحن جميل العاص جاء في مطلعها " بين الدوالي بالكرم العالي"، تصف هذه الأغنية ليالي السهر في الصيف حين يجتمع السمار ويتبادلون الشعر والغناء، وفي بعض الأحيان الدبكة، كما تصف الأغنية القهوة التي تشارك الأردنيين في كل مناسباتهم فتقول الأغنية "صباب القهوة دور بدلتها.. وهالسهرة الحلوة ما بنفوتها"، وهذا يدلُّ على قدسية التجمعات في الأرياف في فصل الصيف بعد انتهاء مواسم الحصاد، إذ كانت هذه التجمعات تشكل المتنفس لأبناء القرية بعد نهار عمل شاق وطويل.
كذلك أغنية "محلا الدار والديرة ونبع الفوّار.. والزينات ع النبعة يملن جرار.. هب الشوق ما عاد لي بالغربة قعود.. شو مشتاق يرويني إبريق الفخار"، وتصف هذه الأغنية تفاصيل الحياة اليومية للقرويين، فتذكر البساتين ومزارع الزيتون، كما تصف رعي الماعز وصيد طائر الشنار، هذا الطائر البريّ الذي كان ينتظره القرويون في المواسم لكي يقوموا باصطياده، والذي يُعرف في بعض الثقافات باسم طير الحجل، كما تصف الأغنية السهرات الريفية بالقول:" محلا أفراح ديرتنا والسحجة صف.. والزينات بتغني وترقص ع الدف". وفي أغنية أخرى لتوفيق النمري يصف ليالي السمر بقوله: " سهراتنا شعلة نور وبدور تحاكي بدور". كذلك من الأغاني التي يذكر فيها الجلوس تحت عرائش الدوالي في موسم العنب أغنية " تلولحي يا دالية.. يا أم الغصون العالية"، في وصفٍ للموسم الصيفيّ الذي تدور فيه السهرات حتى ساعات متأخرة من الليل.
أمَّا فيما يتعلق بالقهوة والكرم فقد اشتهرت أغنية سميرة توفيق " بالله تصبوا هالقهوة"، وهذه الأغنية تذكر في تفاصيلها عادات الكرم والجود لدى العرب، وتصف أهمية القهوة لدى البدو، وما المعاني التي تحملها القهوة في حياتهم، وحسب تعبير الأمريكي "ميريل": فالقهوة تُعتبر من المشروبات المرتبطة بالهُوية البدويّة، فمع أنَّها المشروب الرئيس في المناسبات كافة، إلا أنَّها ترتبط أيضاً بعادات قبلية كثيرة كحالات الجاهات، ورد الثأر، والترحيب بالضيوف والخطبة وغيرها، وللقهوة البدويّة مذاقٌ رائعٌ، فيندر أن يتذوقَ الإنسانُ شيئاً ألذ من القهوة البدوية التي تُعدُّ في حوران وشرق الأردن. فيما يقول البريطاني "بالجريف": "تعتبر القهوة مصدر فخر للبدو، فكان من مباعث الفخر لديهم امتلاك دلة القهوة وصنعها باستمرار". أمَّا الرحالة الإيطالي "كارلو كلاوديو جوارماني" فيقول في كتابه" نجد الشمالي رحلة من القدس إلى عنيزة في القصيم": "كانت القهوة لدى البدو كالهواء الذين يتنفسونه، وكانت القهوة لديهم نوعين: القهوة السوداء وهي مكونة من حبوب البن المحمص والهيل، والقهوة البيضاء وهي عبارة عن محلول منبه جداً يتم غليه من قرفة وكباش القرنفل والسكر، وهذا المحلول له قوة سحرية كمنبّه قوي؛ لذا على الضيف الذي يريد أن يخلد للراحة أن يتجنب تناوله".
ومن الأغاني التي تذكر القهوة وارتباطها بالكرم والترحيب الضيف أغنية "دق المهباش يا سويلم وادعق نيران مشبوبة.. ودلال العز ما تعدم ع جناب النار منصوبة"، وتدور كلمات هذه الأغنية حول عادة صبِّ القهوة للضيوف، وكيفية صناعتها بمعايير معينة لكي تنال استحسان الضيوف، ومن الأغاني التي تدلُّ على الكرم أغنية " رحبي بضيوف أبوكِ يا فلانة يا أم الإسوارة.. يا هلا بضيوف أبوكِ لو كانوا ملات الحارة "، وهي تدلُّ على عادة الترحيب بالضيف واستقبالهم على أحسن ما يكون.
وفي وصف حياة البداوة هناك مجموعة من الأغاني التراثية الأردنية التي تصف بعض الملامح الاجتماعية لديهم، ففي أغنية لعبده موسى مع المطربة هيام يونس، تقول فيها هيام يونس: "يا طير يلي طاير سلم لي عالحبايب.. فرقتهم طالت كثير وقلبي من الفرقة ذايب"؛ كنايةً عن التنقل الدائم للبدو والرحيل من منطقة إلى أخرى، فيما يقول عبده موسى في الأغنية نفسها: " حس المرياع يلالي ما بين جبال السود.. يا شوق توكل بالله بلكي الزمان يعود"، ويعطي هذا المقطع دلالةً على شكل حياة التنقل لدى البدو، خاصةً مع نزول البدوي في مناطق مهجورة، وهذا واضحٌ في عبارة " حس المرياع يلالي " دلالة على الصدى المتردد بين الجبال، وهي المناطق التي كان يفضل البدو النزول فيها من أجل حماية أنفسهم من السيل والعواصف في الشتاء.
وتلتقي هذه الأغنية مع أغنية أخرى أيضاً لهيام يونس وعبده موسى وكان في مطلعها " سافر يا حبيبي وارجع.. لا تطول بلله الغيبة"، تصف كلماتها حالة الفراق بين الأحبة سواءً في السفر الطويل أو في التفرق في مواسم الحصاد، أو الرحيل، أو الابتعاد عن الحِمى، وهذا ما وصفه الرحالة البريطاني "دوغلاس كاروثرز" في كتابه " مغامرة في الجزيرة العرب عبر صحراء النفود بحثاً عن الوضيحي" بقوله: "إنَّ الحياة الريفية والبدوية بشكل عام في شرق الأردن كانت تتصف بتقسيم السنة إلى موسمين؛ موسم العودة إلى بيوت الطين، أو وموسم الرحيل والسكن في بيوت الصوف بالقرب من المزارع أو حقول القمح لجمع المحصول، وما إلى ذلك من الأعمال الزراعية التي كانوا يقومون بها".
ومن الآداب الظاهرة في الحياة الاجتماعيّة الأردنيّة هو تلاقي الأحبة دون الخروج عن أدبيات المجتمع وعاداته وتقاليده، إذ لم تخرج مصطلحات الأغنية الأردنيّة عن الأدب الاجتماعي الذي يظهر فيه الحياء والخجل حتى خلال التعبير عن الحالة العاطفية، ففي أغنية " مرعية يا البنت مرعية؟ "، يخجل الشاب أن يسأل الفتاة بشكلٍ مباشرٍ عن حالتها العاطفية، فيستعيض عن ذلك بجملة " مرعية يا البنت؟" وتجيبه بدورها نافية: " قالت وحياتك ماني مرعي"، ثم تجدّد له عهد الوفاء بقولها: " لغيرك ما وسد اذراعي"، وهذا دلالة على الوفاء بين الأحبة. وكانت المصطلحات المستخدمة تدلُّ على الحياء والتورية، وهذا ما يتمتع به أبناء الريف الأردني الذين كانت سمة الخجل هي أبرز سماتهم.
وفي أغنية أخرى تقول "بسك تجي حارتنا.. وتتلفت حوالينا، عينك على جارتنا.. وإلا عينك علينا؟"، ويبدو في مصطلحات هذه الأغنية الخجل عند الشبان من التعبير عن مشاعرهم العاطفية، بل يكتفي بالذهاب إلى الحي الذي تسكن فيه المحبوبة والمكوث هناك بعض الوقت دون أن يبدي أي أفعال مشينة بحقه أو بحق المحبوبة، مما يدعو إلى التساؤل أنَّه أي الفتيات يقصد فهي تتساءل " عينك على جارتنا ولا عينك علينا؟"؛ دلالةً على الحيرة بسبب عدم تعبير الشاب عن مراده.
كذلك أغنية "يا أبو قميص رمادي"، وتدور قصة هذه الأغنية حول الشاب الذي يتمشّى بالقرب من بيت المحبوبة دون أن يصرّح بذلك، فتخبره بعدم رضا أهلها عنه وتقول له:" يا أبو قميص رمادي.. لا تتمشى بالوادي، هيلي ما يريدونك.. روّح بلا عناد، بالليل يا عيني بالليل".
وفي أغنية " يا أبو رشيد قلبينا اليوم مجروح.. جرح غميق وبالحشا مستقري"، يصف القائل حالته العاطفية بأنَّها شبيهة بحالة المريض الذي يحتاج إلى طبيب لكي يداويه من دون أن يبوح بباقي التفاصيل، ولكنَّه يكتم مشاعره في قلبه دون أن يعلم من هو بجواره بما يشعر به، بسبب الفضيلة التي كانوا يتحلون بها، فيظنّه الجميع مريضاً ويمددونه على اللوح حتى يكشف عليه الطبيب، وهذا النوع من الخجل المستحب جداً في رمزيّة معظم الأغاني.
كذلك أغنية توفيق النمري " شيلي منديلك شيلي.. وبرمش عيونك حاكيني"، فهو يدعو المحبوبة إلى أن تعطيه نظرة فقط دون الدخول معه في حديث قد يسيء إليها، كذلك يستعير بعض الصور التشبيهيّة من الطبيعة لكي يصف محبوبته فيقول: " الخد ورد البستان.. والعود مطرق رمان"، فيشبهها بالطبيعة الجميلة من ورود البساتين وأغصان الأشجار اليانعة.
ومن الأغاني الشعبية التي تذكر المحبوبة بقداسة أغنية " وينك وينك بين إربد والصريح؟.. وينك وينك قلبي وقع جريح؟"، وهذه الأغنية ذكرت مساحة واسعة من البلاد دون أن يحدّد القائل مكان المحبوبة بالضبط، لخشيته على سمعتها.
وبالرغم من عدم تناول هذا المقال جميع الأغاني الشعبية الأردنية، ولكن هذه الإضاءات على بعض أغاني تراثنا الجميل، جعلت المتمعن في كلماتها يفهم جزءاً بسيطاً من أسلوب الحياة في تلك الفترة.