الفلسفةُ التحليليّةُ؛ اللغويّةُ والأخلاقيّةُ في فكر سحبان خليفات

د.أماني غازي جرار
أكاديمية وباحثة أردنية

كأحد أهم أعلام الفكر العربيّ، كان سحبان خليفات يعي تماماً ما خاضه العرب من إشكالات فكريّة وعقائديّة منذ عصر النهضة، ليقدم رؤيته الفلسفيّة في مفهوم النقد الحضاري من منظور ثلاثي الأبعاد؛ فلسفي، وأخلاقي، ولغوي. ومستخدماً بذلك أسلوب التحليل اللغوي في محاولة فهمه لفلسفة الأخلاق من منظور عدد من فلاسفة الغرب، ليطرح من جديد رؤيته لأثر الفلسفة الغربية على الواقع الفكري العربي، محاولاً الاستفادة من فكر الغرب ونقده من منظور الفكر العربي في الإجابة عن المشكلات الأخلاقية والتحديات المختلفة لهذا الواقع وآفاقه في ظلِّ عالمٍ متغير فكرياً.
لقد قدّم سحبان مشروعاً فلسفياً يتمحور حول فلسفة التحليل اللغوي والفلسفة الأخلاقية؛ إذ يمكن اعتباره من المفكرين العرب القلائل الذين اشتبكوا مع الإشكاليات الفلسفية المرتبطة باللغة. حيث أنَّ مشروع سحبان الفكري الذي ضمّنه في مؤلفاته المتعددة يستحق المزيد من الدراسات ويستحق أن يقدم فيه رسائل جامعية تحدّد معالمه وتحدّد رؤية سحبان الفلسفيّة.
هذا وقد أبدى خليفات اهتماماً استثنائياً بالفلسفة التحليلية والفلسفة الأخلاقية المرتبطة بها.
وقد تنبّه سحبان إلى أنَّ الحبكة التي تلتقي عندها جميع التيارات التحليلية اللغوية هي فلسفة النمساوي "لودفيج فتجنشتين"، حيث أدرك سحبان الأهمية المركزية لفلسفة "فتجنشتين" في التيارات الفلسفية المعاصرة، وأولاها اهتماماً خاصاً، ففي مبحثه الخاص بعنوان (دراسات في فلسفة الأخلاق والتحليل اللغوي في الفكر الغربي المعاصر)، رأى خليفات أنَّ لغة الفلسفة الأخلاقية خضعت لسوء الاستعمال من قبل المشرعين في الأخلاق، حيث أنَّ اللغة الأخلاقية هي لغة ميتافيزيقية يغلب عليها الاستخدام المتعسف للغة الذي يتجاوز عالمنا ومفاهيمه ومفرداته ودلالاته (خليفات، 2012).
وقد اعتبر خليفات أنَّ منظومات الأخلاق لا يمكن النظر إليها بوصفها منظومات عقلانية، لأنَّ مفاهيم الأخلاق لا يمكن إثباتها عن طريق العقل، ويرى كذلك أنَّ الطريقة المثلى لإدراك القضية الأخلاقية هي الحدس، حيث يجب أن يتمَّ تمثل القضية الأخلاقية بشكل مباشر، ودون إخضاعها للتحليل، وأنَّ اللغة الفلسفية يجب أن تخضع للتحليل اللغوي المنطقي من أجل الكشف عن الأخطاء وسوء استخدام اللغة الذي ترافق مع الكتابة الفلسفية. حيث اعتبر "فتجنشتين" أنَّ الفلاسفة قد تجاوزوا جميع الأسوار والحدود المرسومة للغة، وخرجوا خارج نطاق اللغة ليخلقوا لنا كيانات ميتافيزيقية ظلّت تتراكم حتى جعلت من النتاج الفلسفي نتاجاً خالياً من المعنى ولا يستند إلى الوجود الواقعي (خليفات، 2005).
واسترسل خليفات، وبعمق شديد بحثه في الأخلاق؛ فمن منظوره يُدرس الحكم الخلقي من جهة الأسس العقلانية التي يرتكز إليها المنظور الخلقي الموضوعي؛ والافتراضات المسبَّقة لهذه الأحكام، ويعني هنا أحكام الواجب، وصلة الحكم بالغاية التي يسعى لدفع المخاطب نحوها، وارتباط هذه الغاية "بالمنفعة" منظوراً إليها من جهة محدَّدة دون سواها. إنَّ تعريف الحكم الخلقي قد يكون ببيان مكوّناته، وطبيعته، أو بتمييزه من غيره. ومن هنا جاءت دراسته الموسومة بالموقف (غير الخلقي)، لتكون أداة مهمَّة لفهم أدق وأوضح للحكم الخلقي من خلال التمييز بين السبب والعلَّة (1979).
ويرى خليفات أنَّه إذا كانت "المنفعة الشخصية المستنيرة" لا تتطابق مع المنظور الخلقي، فإنَّ تعارض هذا المنظور مع ميول الفرد ومصلحته الشخصية أساس الأخلاقية في كثير من الحالات، حيث أنَّ "المصلحة الخلقية" ليست هي المصلحة الغريزيّة، بل هي مصلحة ترمي إلى تحقيق غايات أساسية تتمثل في الحفاظ على الذات البشرية، والعقل، والنسل، والمال. كما أنَّ كلَّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأمور مصلحة، وكل ما يفوِّتها مفسدة، وبالتالي فإن دفعه مصلحة. ويرى سحبان أنَّ هناك شواهد كثيرة تدل على أنَّ منفعة المنظور الخلقي موضوعية، وليست وليدة الشهوة والهوى الفردي، فالإنسانُ كائنٌ جوهر المنظور الخلقي لديه هو ما يفيد إخراجه عن دواعي هذه الأهواء والميول. وبهذا تتضح المصالح التي ترعاها الأخلاقية عند سحبان بالنظر إلى المقومات الضرورية للحياة الإنسانية العاقلة (خليفات، 1988).
وهو يرى أنَّ قيمة الأحكام الخلقية لا تتعلق بالفرد الذي يطلقها أو سلطته، بل بالغاية. وهكذا يتضح التفسير الخلقي عند سحبان في ظلِّ التصوّر الغائي، "فالمستقبل هو الذي يحدِّد الحاضر في تلك الأفعال، بدلاً من أن الماضي هو الذي يفرض نفسه". فالإنسانُ كائنٌ تجذبه الغايات الاجتماعية أكثر مما تدفعه، والفاعل الخلقي "يفعل طبقاً لغاية اجتماعية حصل عليها من خلال التزاماته المتعلقة بالحياة". وليس هذا الالتزام بالغاية قراراً فردياً أو تعسفياً بقدر ما هو التزام عقلي بالدرجة الأولى، التزام مقرّر في ضوء طبيعة الضرورات الأساسية (خليفات، 1981).
وفي الحضارة، يرى خليفات أنَّ الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتموت الحضارة حين تحقّق الروح كل ما فيها من إمكانات على هيئة شعوبٍ، ولغاتٍ، ومذاهب دينية، وفنون، وعلوم. وأنَّ الغائية توجِّه سير التطور الحضاري لإيجاد كائن ذي ضمير وأخلاق وروح، وإنَّ معيار التطوّر هو حريتنا. وتتلخص فلسفة التاريخ عند خليفات في عوامل أساسية، هي محركات الحضارة والتاريخ معاً، وأهمها الأفكار. ومن منظوره أنَّه قد بحث قانون "أوجست كونت" الخاص بالمراحل الثلاث التي مرَّت بها البشرية، وهي المرحلة اللاهوتية، والميتافيزيقية، والوضعية، خير مثال على التصور الوضعي للتاريخ، وكذلك تحليل "أرنولد توينبي" لذلك التصوّر الوضعي، وفقاً لنظرية التحدي والاستجابة. وخليفات بذلك يقارن ذلك بفلسفة التاريخ عند ابن خلدون، والتي ارتبطت بصنفين من الوقائع: الوقائع الاقتصادية والجغرافية، والوقائع النفسية. ويستطرد سحبان ليصل إلى أحدث التصوّرات المعاصرة للتاريخ وفق التصوّر الماركسي؛ حيث رأى "كارل ماركس" أنَّ الذي يحدّد معيشة الناس هي تلك التي تحدِّد وعيهم. إلا أنَّ سحبان ينقد "ماركس" بقوله إنَّ العامل الاقتصادي في التاريخ الإنساني ليس العامل الوحيد على الرغم من أثره البالغ في التطور الحضاري، فهو يرى أنَّ العامل الاقتصادي ليس العامل الحاسم في كل المجتمعات، إنَّه أكثر انطباقاً في مجتمعات أوروبا الغربية منه في المجتمعات الشرقية. ويعتقد هنا سحبان أنَّه إذا كانت العلَّة الأساسية لحركة التاريخ هي تطوّر أدوات الإنتاج، وكان العقل هو الصانع لها، فإنَّ العقل يصير سابقاً للمادة، وهذا خلاف دعوى "ماركس". وهو يرى أنَّ التطوّرات الأخيرة أثبتت أنَّه لابدَّ من رؤية جديدة لحركة التاريخ.
ويشير خليفات هنا إلى الفيلسوف "بول زيف" والذي يرى أن "الحدس" أداة للمعرفة. وقد استعرض تاريخ المذهب الحدسي في المعرفة. ففي الفكر العربي تميزت الحدسية الفلسفية التي ظهرت في صورة الحدسية الحسيَّة بكونها صادقة ويقينيَّة، كما هي عند الفارابي، وابن سينا، وابن رشد. وهناك الحدسيَّة العامة، وهي معرفة بكيفية غير طبيعية تخصُّ فئة من الأشياء أو الأفعال، وهي تماثل الحدوس عند "جورج مور" في الفلسفة الغربية، ومثال ذلك العلم بواجب برِّ الوالدين، وشكر المُنعم. وهناك الحدسيَّة الكلية التي ندرك بها المسلَّمات القصوى للفكرين الرياضي، والأخلاقي، والعلل الأولى للكون. ويضيف أنَّه إلى جانب الحدسيَّة الفلسفية السابقة ظهرت في الفكر العربي "الحدسيَّة الصوفية"، التي توجِّه اهتمامها نحو إدراك الحقيقة المطلقة بواسطة "القلب"، لا بوساطة الحواس أو العقل. وتبدو حقائق "اللوح المحفوظ" عند المتصوِّفة وكأنَّها المُثل الأفلاطونية. وقد تنبّه خليفات إلى أنَّه في الفكر الغربي تبلور المذهب الحدسي في صراعه مع مذهبي اللذة والمنفعة. فالدراسات المقارنة أثبتت تباين مفاهيم "الخير" و"الشر"، و"الصواب" و"الخطأ". وهو يرى أنَّ المذهب التطوّري، كما ظهر عند "برغسون" يجعل "العقل" داخل "الغريزة"، حيث يميّز طبيعة المعرفة الحدسيَّة بأنَّها معرفة الشيء من الداخل بالنفاذ إلى باطنه، بعيداً عن أي تصوّرات أو أفكار مسبَّقة عنه. وهكذا يرى سحبان أنَّ المذهب الحدسي "فوق عقلاني" أو "لا عقلاني"، يفهم من حيث الحدس باعتباره فعلاً أنطولوجياً ندرك به واقعاً فوق عقلاني أو لا عقلاني. وقد تطرق سحبان أيضاً إلى أنَّ الحديث عن المذهب الحدسي الرياضي من حيث المبادئ الأولية، والمسلَّمات، والبديهيات، كلُّها أمور مدركة بالحدس، وبيّن أنَّه لم ينجح "جون ستيوارت مل" في إثبات انبثاق الرياضيات من التجربة، بل نجح لاحقاً "رسل" في إثبات صلة الرياضيات بالمنطق (خليفات، 1984).
وقد تحدّث سحبان عن الحدسية الرياضية، فقد ميّز أنَّ تاريخ المذهب الحدسي الرياضي، مرَّ بين مرحلتين، الأولى هي المرحلة التقليدية، كما ظهرت عند اليونان والعرب، وعند "ديكارت"، في الفكر الغربي الحديث، الذي جعل وسيلة المعرفة اليقينية هي الحدس والاستنباط (الاستدلال الرياضي)، وجعل شرط صدق القضية تميُّزها، ووضوحها الذاتي. وقد تعمَّق "كانط"، في مرحلة لاحقة، في التفسير الديكارتي للكينونة الرياضية، فميَّز بين القضايا التحليلية والتركيبية، ويضم النوع الأخير قضايا قبلية كالقضايا الرياضية، حيث أنَّ الحدس، هو الذي جعل التركيب القبلي هذا ممكناً.
وفي مقابل المعرفة الحدسية الرياضية تحدث سحبان أيضاً عن المعرفة الحدسية الأخلاقية، ذلك المذهب الذي يفترض وجود "حاسَّة" أو "ملكة" ما في الإنسان (الحدس الخلقي)، قادرة على إدراك الموضوع الخلقي إدراكاً مباشراً، أي بدون أي عمليات استدلالية، مشيراً إلى "مدرسة الحسّ الخلقي" التي أنشأها "شافتسبري" و"بتلر"، و"هيتشنسون"، و"سجويك". فهم يرون أن "الحسَّ الخلقي" أحكامه موضوعية وكلية، وأنَّه ما يمكننا من التمييز بين الأفعال الخيِّرة والشريرة. وقد بين سحبان كيف أثبت "بتلر" أنَّ معرفة "الصواب" و"الخطأ" أمرٌ يتّصلُ بالعقل أكثر مما يتصل بالشعور، فطرح فكرة "الضمير" باعتباره إدراكاً حدسيَّاً للقيمة الخلقية للأشياء والأفعال، وكيف أنَّه بفعل هذا الإدراك يصدر الضمير أحكامه. وهو يشير إلى المذهب الحدسي الاستطيقي، و"الحدسيَّة الدجماطية" عند "ريتشارد بيرس"، و"توماس ريد"، حيث أنَّ ما نعرفه بطريقة حدسيَّة إنَّما هو صواب أو خطأ. لكن هذه الدعوى ليست موضوعية وكليَّة بقدر ما هي قاعدة تقريبية لأنَّها لا تعطي اهتماماً للظروف التي يقع فيها الفعل. أمَّا الحدسيَّة الخلقية الفلسفية فمحورها القول إنًّ ما يُدرك حدسياً إنَّما هو قضايا كلية تدور حول ما هو صواب أو خطأ، خير أو شر، أي أنَّ موضوع الحدس الفلسفي مبدأ خلقي كليٌّ، وهكذا فهم سحبان الحدسية الأخلاقية (خليفات، 1988).
ويرى سحبان أنَّه لإصلاح المجتمعات العربية، فإنَّه لابدَّ من الدعوة لفلسفة جديدة تأخذ في اعتبارها المشاكل الرئيسة في النظام الاقتصادي وكذلك السياسي، بحيث تعالج مشكلة الافتقار إلى القيم الإنسانية والحرية. ويشير سحبان إلى الدعوى السوفسطائية القائلة إنَّ الإنسان الفرد هو مقياس الأشياء جميعاً، موضحاً ما جاء به "سارتر" في دراسته الموسومة بـ "فلسفة سارتر في الأخلاق والسياسة" بأنَّ حرية الفرد هي الأساس الفريد للقيم وأنَّها المسوِّغ لها. وهو يتفهم مواءمة "سارتر" لمفهوم الحرية، حيث بدأ التحوُّل نحو ضرورة احترام حرية الآخرين متمثِّلة في المبدأ الكانطي، القائل (إنَّني لا أستطيع أن أجعل حريتي هدفي/ ما لم أجعل حرية الآخرين هدفاً لي بالمثل، وأنَّ اختياري لفعلٍ ما هو بمثابة التشريع للإنسانيّة جمعاء). ويؤيد سحبان ما فسّره المفكر "جورج لوكاش" بأنَّ هناك حالة تناقض، حيث أنَّ فلسفة "سارتر" فردية تماماً، والقول بأخلاق اجتماعية أمرٌ يتناقض وأسسها (خليفات، 1988).
إنَّ أسلوب التحليل اللغوي الذي اتبعه سحبان خليفات في محاولة فهمه لفلسفة الأخلاق من منظور عدد من فلاسفة الغرب، وتمثّله لمفهوم النقد الحضاري من المنظور ثلاثي الأبعاد: الفلسفي، والأخلاقي، واللغوي، هي عبارة عن توضيح لمشروع سحبان خليفات الفكري الذي حاول فيه الاستفادة من فكر الغرب ونقده من منظور الفكر العربي في الإجابة عن المشكلات الأخلاقية والتحديات المختلفة لهذا الواقع وآفاقه في ظلِّ عالمٍ متغيّر فكرياً، من خلال بحث المقاربات الفكرية وتداخلاتها الأخلاقية واللغوية النقدية. وأخيراً ينتهي المطاف بالمفكر سحبان خليفات الذي بدأ باحثاً في المنظور الأخلاقي في الفكر العربي ليمرَّ بالتحليل اللغوي، وينتهي بالفكر الأخلاقي من جديد مستوعباً بذلك الفكر الغربي في الأخلاق.

المصادر والمراجع
خليفات، سحبان. (2012). دراسات في فلسفة الأخلاق والتحليل اللغوي في الفكر الغربي المعاصر. منشورات وزارة الثقافة. عمان، الأردن.
خليفات، سحبان. (2005). نقاط الضعف في التحليل اللغوي. مجلة المجمع الجزائري للغة العربية - الجزائر: مج 1: ع 1.
خليفات، سحبان، النظرية الأخلاقية المعاصرة: دراسة تحليلية لنظرية ستيفنسون الانفعالية، المجلة الثقافية، الجامعة الاردنية، (القسم الثاني)، العدد (الرابع عشر – الخامس عشر) ، 1988، 125-137.
خليفات، سحبان، الحرية الاخلاقية في ضوء الحتمية واللاحتمية، مجلة " أفكار" العدد الثالث والأربعون، 1979، 110-133 .
خليفات، سحبان، المسؤولية وفكرة النسق. مجلة الباحث، المجلد الرابع، العدد الرابع آذار، 1981، 51-70.
خليفات، سحبان، الحدسية (المذهب الحدسي)، الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد الثاني، القسم الاول، ط1 ، معهد الانماط العربي، 1988 ، 488-510.