انسلالٌ مؤقتٌ

حنان بيروتي
قاصة أردنية

"ليس من عادة هذا اللص المحترف التفكير في تفاصيل المكان أثناء عمله، تيقظه وسرعته أهم ما يميّزه، هو يحدس أين يجد المقتنيات الثمينة في البيت، يحمل ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، لكن هذه الفيلا المبنية على النظام الأمريكي فيها شيءٌ يثير استغرابه؛ ثمة مصعد يربط بين طابقيها، بدت أزراره أقلّ انخفاضًا من العلو المعتاد، اصطدمت عيناه بكرسيٍّ متحرّكٍ متطوّرٍ، ثمة غرفتان متقابلتان تحويان أسرّة طبية، وكلُّ ما في البناء يوحي بأنَّه صُمّم لراحة القاطنين فيه ..."
لم تكمل قراءة الملخص المكتوب عن الفيلم آثرت البدء بمشاهدته هربًا من اللحظة.
في بداية الفيلم ظهر كهلٌ وهو يراقب فيلا بطابقين، يذرع الشارع ويتلصّص على المكان، رنّ "الخليوي" في جيبه، خفض صوته وهو يتحدث عن التفاصيل، بدا واضحًا بأنّه يخطّط للسرقة، وثمة شريك يمدّه بالمعلومات التي يحتاجها لتنفيذ المهمة.
تبدو قصة الفيلم مكرورة، أفكّر وأنا أقلّب جهاز التحكم بملل، فترة الحظر تبدو متطاولة كأنّها لا تنتهي، تطفئ في قلبي قناديل الفرح، سيقتحم الفيلا ويسرق ما استطاع من مقتنياتٍ ثمينة وما يجده من مال ومجوهرات، وقد يختلف مع شريكه حول تقسيم المسروقات وذلك لإثارة التشويق، وقد يقتل أحدهما الآخر، الاحتمالات محدودة في قصة مكرورة كهذه، أفكّر في الانتقال لمشاهدة فيلم آخر يحمل فكرةً جديدة، أتذكر شاشة التلفاز في بيتنا بخيارتها المحدودة، قناة رئيسة للبثّ الأرضيّ وأخرى باللغة الإنجليزيّة تبثّ لساعات محددة، كان ذلك قبل مجيء "الساتالايت" الذي أشرع العالم على مصراعيه وزاده جنونًا ورعونة، أتذكّر حميمية العلاقات العائلية، أختي "سهاد" التي لا تكفّ عن التذمر، منذ طفولتنا وهي تتّخذ مني قسمًا للشكاوي، كأنَّ في حياتي مصفاةً سريّةً لما يعكر صفوها، القصة وما فيها بأنّي أحسُّ بأنّ تحدّثي عن الألم يضاعفه، تتضخم المشكلة حين أسمعها كأنّي أنقشها وشمًا في الذاكرة، أوشك أن أضغط على زر إنهاء المشاهدة لولا رؤيتي لمشهد يبدو فيه السارق مندهشًا من تفاصيل المكان داخل الطابق الأرضي للفيلا، أزرار المصعد الداخلي الذي يربط بين طابقيها وكبسات أزرار الكهرباء منخفضة عن العلو التقليديّ المعتاد، كأنّ هذا المكان سحري يشبه كوخ الأقزام السبعة في قصة "سنووايت" الذي تسللت إليه "بياض الثلج" هربًا من زوجة أبيها الغيورة التي تخطط لمقتلها، هل هذا وقت تذكّر الحكايات الخيالية؟ كيف يمكنه أن يضيّع لحظات ثمينة ومحسوبة عليه بين التنفيذ والهرب قبل تصاعد إمكانية إلقاء القبض عليه؟
حيرةُ البطل تجعلني أفكّر بأنَّ الوقتَ- حقًا- ثمينٌ، لكنّ هذا الحجْر اللعين حوّله إلى عدو بقامة طويلة تمامًا مثل "صاحب الظّل الطويل"، يرنُّ هاتفي أفكّر في إيقاف عرض الفيلم لحين الانتهاء من المكالمة، لكنَّني دونما تخطيط أسارع بالرد حين أرى اسم "سهاد" التي لا تطيق الانتظار، تتهمني بالتقصير والتشاغل عنها، صوتها غير مسموع مع صوت التلفاز، أمشي مبتعدة، تسهب في حديثها عن مشكلة جديدة، أستغرق في تخيّل ما يحدث من صدامات دائمة بينها وبين زوجها الذي يرهقه المكوث في البيت دون عمل، الضغوطات المادية ومشاحنات الأولاد والتعليم عن بعد، أستمع وأقترح حلولًا للتهدئة والتعايش، وكأنّي بعيدة عن ظروف الوباء وأسكن المدينة الفاضلة.
عندما رجعتُ للشاشة ظهر البطل وهو يتحدث بعصبية مع امرأة تعمل في الفيلا، ربما هي من سرّبت له المعلومات لتنفيذ عملية السرقة، تسحب أمامه بعصبية كرسيين متحرّكين وهي تصف حجم الثروة المكرّسة لفتاتين لكلٍّ واحدةٍ منهما خادمتان لتلبية احتياجاتهما الخاصة، كونهما ولدتا بإعاقة خلقية لا يعالجها طبٌ ولا زمنٌ جعلتهما بحاجة إلى رعاية مدى الحياة، وتضيف بصوت مسرحيّ "لا عقل ليقدّر النعمة أو يفهم لغة الأرقام! "
تدمع عيناي بسرعة لم أعتدها، ربما المكوث في البيت كلَّ هذه الفترة والتوتر والخوف من الإصابة بفيروس ملعون يجعل عواطفي متورمة مثل بالون ينفجر أمام أيّ موقف.
تبدو فكرة الفيلم مشوقة نجحت في التنفيس عن إحساسي بالضجر والخواء من ملازمة البيت، أكاد أنسل من حالتي تلك لولا تصاعد رنين الهاتف مجددًا، أحرص هذه المرة على ايقاف العرض، تتجمد الصورة على مشهد يجمع بين السارق والمرأة وهما يتعانقان بتواطؤ لاتمام صفقتهما، مشهد غريب في مكان يبدو مؤثّثًا بالدفء والحب، يتوقف الرنين لسببٍ ما، أفكّر في تسريع عرض الفيلم، أتوق لمعرفة النهاية، ثمة مشهد يظهر فيه السارق وهو في عراك مع والد الفتاتين الذي لم يرافق عائلته لسبب طارئ، يضربه السارق على رأسه ويغيب عن الوعي وحين يسمع خلفه حركة يسارع لإطلاق النار؛ فتكون الضحية المرأة التي ساعدته، أرقب المشهد وهو ينحني عليها، وهو يحمل الحقيبة التي تحوي المسروقات، وعده لها بأنّه سيطلب المساعدة، لو أنَّه يلقي ما في يده من مال ومصاغ ويهبّ لإنقاذها؛ لأتمّ طيف الحب في هذا المكان، تظلُّ حواسي متعلقة بالشاشة، أتجاهل تصاعد الرنين مجددًا، تخيب توقعاتي المتأثرة على ما يبدو بالحكايات الخيالية، أرقبه وهو يُجهز على المرأة، وينحني ليكبس زر المصعد، فيما هو يغادر مسرعًا تظهر على الجدار صورة تشبه غلافًا لحكاية لم تكتمل، وجه فتاتين تبتسمان لأبيهما وهو يحاول التقاط أجمل لحظة