د. مروة عادل إبراهيم عبدالجواد
كاتبة وأكاديمية مصرية
السَّعادةُ إحساس داخليّ، وحالة نفسيّة يُعبِّر عنها الطفل بحركاته وملامح وجهه وابتسامته ومواقفه وتعامله مع المحيط الأسري، وهي نتيجة المواقف في حياة الطفل، فما هي المشكلات التي تحول دون سعادة الأطفال؟ وما متطلَّبات هذه السعادة؟ لعلّ القارئ يجد في هذا المقال شيئًا ممّا يحتاجه الطفل ليشعر بالسعادة، وهي احتياجات مُمكنة ومُتاحة لِمَن أراد من الآباء والمربّين.
• مُعضلة سعادة الأطفال
عِنْدَما يرزقكَ الله عزّ وجلّ بطفل، تتمنّى لو حقَّقتَ له كل ما يتمنّى الإنسان في حياته، ويتخيل من أمنيات لتسعده، وأنتَ مستعدّ للتضحية والتعبير عن فرحتك بالمولود، ولسان حالك يقول: "ابني هذا ينبغي أن يكون سعيدًا، ويحيا حياة هانئة..."، لكنَّ الآباء والمربّين يواجهون صعوبات في تحقيق هذه السعادة.
إنَّ حقيقة عدم الموازنة بين الطفولة والسعادة لا تعني أنَّ الراشدين (يقصد بهم الكاتب "بيتر ستيرنز" هنا الآباء) قد سعوا إلى جعل الأطفال تُعساء، لقد فعل ذلك بعضهم، ويفعله بعضهم الآخر في المجتمعات الحديثة، لكن لا يُوجد سبب معيَّن للاعتقاد بأنَّ الآباء يتعمّدون الإساءة لأطفالهم، وكثير منهم يُسرُّون سرورًا حقيقيًا بوجود أطفالهم، وبالمُتع التي يُشاركونهم فيها. أضِف إلى ذلك أنه، باستثناء ما يحدث بسبب سوء المعاملة، فلا يُوجد سبب للاعتقاد بأنَّ الأطفال أنفسهم كانوا بالضرورة غير سعداء، فمن المؤكد انهم كانوا كذلك أحيانًا بسبب أعباء العمل لدى الآباء، والضغوط عليهم، ولعل مقدار ما يُترك لهم من فراغ لينغمسوا في اللعب، في أثناء وقت الفراغ من العمل، قد وفرَّ لهم مقدارًا معيَّنًا من الإشباع.
• ما الذي يُريده الأطفال حقًا؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعرض هذه القصة التي يرويها كل من "ستيف بيدولف"، و"شارون بيدولف"، يقولان: في عام 1945؛ انتهت الحرب العالمية الثانية، وكانت أوروبا تعيش في حالة دمار. وكان من بين المشاكل الإنسانية التي يجب مواجهتها العناية بآلاف الأطفال الأيتام الذين فقدوا آباءهم في الحرب إمّا بسبب الوفاة، أو بسبب الانفصال الدائم نتيجة الحرب. فقامت سويسرا -والتي نجحت في أن تبقى بمنأى عن الحرب- بإرسال بعثة طبيّة للمساعدة في حلّ بعض هذه المشاكل، حيث تولّى أحد الأطباء مهمّة البحث عن أفضل وسيلة للعناية بالأيتام الرُضَّع. سافر هذا الطبيب إلى كل أنحاء أوروبا، وشاهد الكثير من أنواع العناية بالأيتام كي يختبر أكثر هذه الأنواع نجاحًا، وفي أثناء جولته رأى الكثير من التناقضات، ففي بعض الأماكن كانت المستشفيات الأميركية الميدانية تُوفر للأطفال أسرَّة من الصّلب في عنابر صحيّة، ويحصل الأطفال الرُضَّع على وجبتهم الغذائية كل أربع ساعات من اللبن المُخصَّص للرضَّع بواسطة مُمرضات متمرِّسات يرتدين زيًّا خاصًّا.
وعلى الطرف الآخر رأى في بعض القرى الجبليّة النائية إحدى الشاحنات وهي تحمل عددًا من الأطفال، وإذا بقائد السيارة يتوقف ويسأل: "هل يمكنكم العناية بهؤلاء الأطفال؟"، ثم يتركون عددًا منهم وهم يبكون ليتولّى أهل القرية رعايتهم، وهناك يعيش الرُضَّع محاطين بالأطفال والماعز والكلاب، وفي أحضان نساء الريف البسيطات، حيث يتغذون على ألبان الماعز في ظلّ حياة بسيطة تخلو من أبسط أنواع وسائل التَّرف.
وقد اتَّبع الطبيب السويسري طريقة بسيطة للمقارنة بين الطرق المختلفة للعناية بالأطفال؛ ولم يكن بحاجة إلى معرفة وزن الأطفال أو البحث عن الابتسامة والتواصل البصري؛ ففي أثناء تلك الأيام كان قد تفشّى مرض الأنفلونزا والدوسنتاريا، فلجأ الطبيب إلى أبسط طريقة إحصائية وهي قياس نسبة الوفيّات بين الأطفال.
غير أنَّ ما توصَّل إليه كان بمثابة مفاجأة؛ فبينما كانت الأوبئة تجتاح أوروبا، وتحصد الكثير من الأرواح، أثبت الطفل الذي كان يحيا في القرى البدائية (المجتمع الزراعي الريفي النقي) كفاءة تتفوَّق على نظرائه الذين كانوا يحظون بكل تلك الرعاية الصحيّة داخل المستشفيات.
لقد اكتشف الطبيب شيئًا ما كانت العجائز من السيدات قد اكتشفنه منذ زمن بعيد، حيث اكتشف أنَّ الأطفال يحتاجون إلى الحب لمواصلة الحياة؛ لقد كان الأطفال في المستشفى ينالون كل شيء من الرعاية عدا الحب والتحفيز، بينما الأطفال في القرية فقد كانوا يحظون بقدرٍ أكبر من العناية والمداعبة، ويشاهدون ويتعرّفون على أشياء كثيرة أكثر ممّا كانوا يعرفون؛ كما ساعدهم جوّ الأرياف بنقائه على مقاومة الأمراض، وقد لخَّص الطبيب بعض المتطلبات المهمّة لسعادة وصحّة الطفل، بما يلي:
- التواصل الجسدي الحميم من جانب اثنين أو ثلاثة من الأشخاص المقربين من الطفل.
- الحركة الرقيقة مثل حمل الطفل والسَّيْر به، وهدهدته حتى يستكين.
- التواصل البصري، والتبسُّم في وجه الطفل، والبيئة الحيّة زاهية الألوان.
- الأصوات مثل الغناء، والحديث، وأغاني الأطفال، وما شابه ذلك.
لقد كان هذا كشفًا مهمًّا، وأصبح هذا الكشف أوّل تسجيل علمي لدى الأوروبيين يُصرِّح بأنَّ الطفل بحاجة ماسّة للتواصل الإنساني والحب، وليس فقط للغذاء والدفء، والنظافة، وإنْ لم يحصل الطفل على هذه الخصائص الإنسانية قد يموت بسهولة.
إنَّ الرَّضيع يحبّ الملامسة والدّلال، وكذلك الحال بالنسبة للأطفال الصغار، أمَّا مَن هم في سن المراهقة فغالبًا ما يخجلون من مثل هذه المتطلبات، ولكنهم يعترفون بوضوح لأهل الثقة أنهم يُتوقون إلى مثل تلك العواطف شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الصغار.
• أسباب سعادة الأطفال
لخَّص مصطفى أبوسعد في كتابه "الأطفال المزعجون" الأسس التي تستوجبها سعادة الأطفال في سبعة أمور، وهي:
- الإحساس بالقدرة على الإنجاز:
حين يتمكَّن الطفل من إنجاز شيء معيَّن كالنجاح في وضع أشكال فوق بعضها، أو تركيب صور. يستشعر لذّة الانتصار والقدرة والثقة بالنفس؛ ممّا يُحقق له سعادة لا تُقارن بغيرها.
- الشُّعور والتمتُّع بالاستقلاليّة:
شعور الطفل أنه إنسان مستقلّ، ونجاحه في اتِّخاذ قرار، والمشاركة برأيه يُسعده كثيرًا، ويرفع معنويّاته.
- الاعتماد على الذات:
قدرة الطفل مثلًا في قيادة الدراجة بنفسه دون مساعدة غيره تُشعره بنشوة الانتصار والتحدي مع نفسه، حيث يكون بذلك قد نجح في الاعتماد على نفسه.
- إحساس الطفل بأنَّ المحيطين به يفهمونه:
حين يرى مَن حوله يُقدِّرون إنجازاته ويُتيحون له فرصة الاعتماد على الذات والاعتراف بقدراته، والإنصات لكلامه، والتواصل معه نفسيًّا وعاطفيًّا، يستشعر السعادة وقتها.
- استشعار احترام الآخرين له:
يأتي ذلك من خلال احترام قدراته، والتأدُّب في مخاطبته، واستشارته في ما يخصّه من قضايا، وإتاحة الفرصة له أن يختار اللعبة التي يُحبها، ونوع الطعام الذي يُفضّله، وكذا ألوان الملابس التي تستهويه.
- التقدير والثناء:
تقدير جهوده، والثناء على نجاحاته، ومدح إنجازاته يُقوّي شعوره بأسباب السعادة، ويُنمّي عنده الصفات الإيجابية من الاعتماد على الذات، والطموح نحو الإنجازات، والنجاح والتفوُّق والاستقلاليّة.
- التعبير عن محبّته:
لا يكفي أن يُحبّ الوالدان أبناءهما، بل لا بدَّ أن يُعبِّرا لهم عن هذا الحب، من خلال اللّمسات الحانية، والمداعبة، وتقبيلهم، والأخذ بالأحضان، فكلّ هذه رسائل محبَّة تُدخل على نفس الأبناء البهجة والسرور.
• الفيتامينات المطلوبة لسعادة الأطفال
أبدع "ستيف بيدولف" في اكتشاف جديد مهم للأطفال، من الممكن أن نُطلق عليه فيتامينات السعادة التي يحتاجها الأطفال، فمثلما هناك فيتامينات من (أ إلى ك) يحتاجها الجسم كي ينمو ويزدهر، فهناك فيتامينات للسعادة تتمثَّل في الآتي:
- فيتامين ر:
فيتامين الروحانية، وهو الموجود في دور العبادة، في المسجد، والكنيسة، فكُن حريصًا على اصطحاب أبنائك لدور العبادة، وتلقينهم، وتوعيتهم بتعاليم الدين السَّمحة، ونشر ثقافة التَّسامح والتَّعايش وقبول الآخر، شريك الوطن.
- فيتامين م:
فيتامين الموسيقى التي يستمع إليها الآباء بالفعل، يُمكن إضافتها إلى النظام الغذائي الخاص بالأسرة، أدِر موسيقى هادئة جميلة مع أبنائك في غرفة المعيشة، وداوم على هذه العادة. اصطحب أبناءك إلى دروس الموسيقى، واحرص أن يكون الدرس مُمتعًا لهم. واحذر من تشغيل التلفاز والمذياع بصورة دائمة؛ لأنَّ الضوضاء التي تُصدرها هذه الأجهزة تُعلِّم الأبناء عدم الإنصات.
- فيتامين ش:
فيتامين الشِّعر؛ لقِّن أبناءك الأشعار، واجعلهم يحرصون على إلقائها أثناء التجمُّعات العائلية، استمع أنت وأبناءك إلى القصص والشعر المُسجَّل على وسائط التسجيل الصوتي ليستمعوا إلى صوت الرّاوي.
- فيتامين ط:
فيتامين الطبيعة؛ امنح أبناءك فرصة الاستمتاع بالبيئة الطبيعية، وكذلك الحدائق الصغيرة حول المنزل خاصةً للأطفال الصغار، ليراقبوا العصافير وهي تطير بين الأشجار والنباتات، واحترس من ألعاب الحاسوب، والعيش داخل المدن (يُحبِّذ الكاتب العيش في مناطق الريف، حيث الخُضرة والهدوء، والطبيعة الخلّابة).
- فيتامين أ:
فيتامين الأمل، إنه يتكوَّن بصورة طبيعيّة، ويرى الكاتب ضرورة تجنُّب رؤية العالم من خلال مُشاهدة الأخبار أو الصحف؛ بمعنى لا تُقحم الصغار أو المراهقين في مثل هذه الأمور، واجعلهم يُشاركون في برامج التوعية التي تُصدر نشرات إيجابيّة، وتُنمّي حُب الوطن والانتماء له، والتي تُساعد المغتربين في الخارج على تزكية روح الانتماء، والاعتزاز بالوطن الأم، واحرص على التمتُّع بنظرةٍ أكثر إيجابيّة نحو العالم والمستقبل أمام الصغار.
وأخيرًا، فقد ظهر التزام تام بسعادة الأطفال في بعض الدول، ففي الولايات المتحدة على أقل تقدير، أخذت الكرّاسات الموضوعة في تنشئة الأطفال تُوشّى بأقوال مثل: "السعادة ضرورية كضرورة الغذاء إذا أُريد للطفل أن يُصبح رجلًا أو امرأة طبيعية"، و"ينبغي أن يكون القصد من التربية في كل أطوارها هو جعل الطفل سعيدًا بقدر الإمكان"؛ وفي الشرق الأوسط نجد دبي تميّزت منذ زمن بعيد بمراكز تسوُّق تتَّخذ من شعار "الأشياء التي تُفضِّلها الأم وطفلها"، وهي دعاية بالدرجة الأولى لحفلات الميلاد، فالمكان يضمّ مهرِّجين، وآلات غزل بنات، وحديقة للحيوانات المُدلَّلة، ومراكز ترفيه.
• المصادر والمراجع:
- بيتر ستيرنز، الطفولة في التاريخ العالمي، ترجمة وفيق فائق كريشات، عالم المعرفة، 2015، ص257-267.
- ستيف بدولف، سر الطفل السعيد، مكتبة جرير، 2004، ص39-45 وص232-235.
- مصطفى أبو سعد، الأطفال المزعجون، 2006، ص199-200.
-https://www.pinterest.com/pin/76631631144697125/
-https://www.albawaba.com/ar/%D8%B5%D8%AD%D8%AA%D9%83%D9%90-%D9%88%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%90/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%8A%D8%AD%D9%82%D9%82%D9%88%D9%86-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84-453472
-http://www.gogmsite.net/_Media/1788-louise-elisabeth-de-2.jpeg
-https://www.pinterest.com/pin/254312710181046889/?lp=true