"ليالي خريف" للفنّانة والكاتبة اللبنانيّة سيرين أشقر

 محمد عطية محمود

 

 

 

كاتب وناقد مصري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في مجموعة (مسا...فات) للقاص الأردني سمير أحمد الشريف، تعانق النصوص القصيرة جدًا ‏الحس السردي المفعم بالتفاصيل؛ سواء كانت مضمرة أو معلن عنها، وهي التي تسعى في ‏مجملها لاقتناص مشهد سردي مكتمل يعبِّر عن رؤية ما أو يطرح قضيّة ما للوجود من خلال ‏محاوره المتعددة، وضمن بناء سردي بالغ الرهافة الحسيّة والمتانة اللغوية التركيبيّة للنص ‏القصير جدًا.‏

 

 

 

القِصَّةُ القصيرة جدًا مُنتَج سردي له دلالاته وطقوسه الخاصة، المستمدة من كونها قصة قصيرة ‏في المقام الأول، لها أبعادها وحدودها، لا بدّ من أن تتوفر لها شروط السرد المحكمة والتي ‏تزداد تكثيفًا وتقطيرًا لتعمِّق من قيمة الحالة/ اللحظة/ اللقطة القصصيّة التي قد تفجِّر فضاءً ‏سرديًّا له من التأثير ما للقصة المكتملة الأبعاد والأركان، مع شرط التَّجسيد، فالمتتبِّع لهذا ‏السيل المتدفق من النصوص الملتبسة ما بين الشعر والومضة والتوقيعة والنثر الفني ‏المقتضب، وإحداث المفارقة اللاذعة أو النكتة، يجده بلا شك يحول في النهاية دون تقديم تلك ‏الخصوصية المائزة للسرد أو الحكي المختزل المعبِّر عن تلك اللحظة الآنيّة القابلة للتشظّي ‏والانفجار والتحوُّل لتعطي أبعادًا للتأويل والدخول في مناطق العتمة المسكوت عنها أو ‏المرموز إليها.‏

 

 

 

حيث إنَّ الارتباط بمفهوم القصة بالأساس يوحي بدلالة قاطعة على وجوب توفر تلك الشروط ‏الحاكمة لكتابة نص يراهن على تقليص المسافات ولا يختصرها، ويضغط الزمن ولا يلاشيه ‏تمام التلاشي، مما يجعل المسافة البينية للحدث أكثر توتُّرًا وانفعالًا وتجسيدًا لواقع أزمة/ حالة ‏يلعب النص على أوتارها المشدودة ببراعة التعبير اللغوي والفني/ التقني متجاورين وليس ‏منفصلين؛ لتقديم تلك الوخزة التي يمتد أثرها الانفعالي خارج حدود الكلمات والسطور، مع ‏توظيف العديد من التقنيات السردية الدقيقة من إحالة وإسقاط وإزاحة ومفارقة وترميز وإضمار ‏وحذف وإضافة، والتي ما هي في الأساس إلا شروط أساسية مميّزة للسرد المصفّى الذي تمتاز ‏به القصة القصيرة، لتحقيق هذه المعياريّة الفنيّة التي ربما ارتبطت بروح مغايرة يعلو فيها ‏الترميز اللغوي والدلالي وتزداد معها مساحات التأويل والفرضيات التي تجعل من الحدث ‏كيانًا في حدّ ذاته، لا يسقطه سوى استطراد مخلّ أو تقتير أكثر إخلالًا وغموضًا غير شفيف، لا ‏رجاء من محاولات سبر غوره ومدى نجاحه في تجسيد تلك المسافة القصيرة جدًا بين نقطتين.. ‏

 

 

 

فالبناء السردي بالغ الرهافة الحسيّة والمتانة اللغوية التركيبيّة للنص القصير جدًا، يعمل على ‏مخاطبة الوعي من خلال خلخلة الحالة السردية ومحاولة ملء الفراغات القائمة بين الكلمات ‏والسطور بالتخييل والتخيُّل معًا كلعبة متبادلة بين الكاتب والمتلقي تبيِّن مدى التأثير والتأثر، ‏لجذب قارئ جديد قادر على التحليل والاستنباط أو سبر الغور، ربما يشحذ حواسه كي يكمل ‏هذا البناء مع السارد، أو يكتفي ويتوقف حيث يتوقف السارد حيال نص اكتملت أركانه الماديّة ‏واللغويّة والمعنويّة والمشهديّة، رهانًا على واقع يرفده.‏

 

 

 

في مجموعة (مسا...فات) الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2018، للقاص سمير ‏الشريف، تتراوح النصوص القصيرة جدًا بين الاختزال الشديد، والبراح المعنوي الذي يشتعل ‏فيه التخييل والترميز لمحاولة الوصول إلى حالة التشبُّع والاكتفاء السردي من اللقطة/ القطعة ‏القصصيّة، نحو تجسيد رؤية مضمرة في ثنايا النصوص تعبِّر عنها من خلال المفردات الدالة ‏والرامزة في كثير من الأحوال.‏

 

 

 

تشكيل الحالة الوجدانيّة

 

 

 

ففي نص "رسم" يتوجَّه الخطاب السردي إلى تلك النزعة الطفوليّة الفطريّة في وعي طفلة ‏تلعب بالألوان لترسم عالمها الداخلي على الورق:‏

 

 

 

‏"في الحصة بحثت عن ألوانها.. رسمت بيتًا تشتعل فيه النيران وجسمًا غير محدَّد الملامح.. ‏قالت للمعلمة: إنَّ الإطفائيّة لم تتمكن من الوصول إليها"(ص8).‏

 

 

 

فالنص هنا يعتمد في بنائه على تراتبيّة حدث درامي يمرُّ بمراحل ثلاث، مع وقفتين أو فراغين ‏فيما بينهما.. تشتعل فيهما حالة التخيُّل التي يصنعها، ويبقى الفراغ شاهدًا على مزيد من ‏الحذف للمراحل البينيّة التي قامت فيها الطفلة بالفعل، وهو ما يعبِّر عن وعي بتقنية مهمة من ‏تقنيات القص ما يصنع دراما داخلية له لتشكيل هذا العالم المتخيَّل/ المتوقع من خلال عمليتي ‏الحدس الداخلي للطفلة، وعملية الإبداع/ التعبير الخارجي بالرسم لنقل الحالة الوجدانية للبنت.. ‏تلك التي تتخذ بنية التراكب بين الحواس وبين المادة المستخدمة في الرسم ورموزها المبثوثة ‏في النص لتبرز حالة الاحتراق الداخلي الذي تعاني منه الفتاة الصغيرة كضمير للنص وضمير ‏للواقع الذي أنتج هذه الرؤية التي تشكلت في الوجدان، والتي قامت عليها عملية التعبير ‏الخارجي عمّا يجول في داخلها، وهو ما يمثل واقعًا مغايرًا لحالة الكمون والاستسلام/ ‏الاسترخاء التي تعطيها حالة الوجود في الفصل (الصفّ) وعلى مقعدها وعلى المنضدة ‏وامتلاكها أدوات للرسم والتعبير. ‏

 

 

 

فشَرطيّة الحالة القصصيّة هنا متوفرة إلى حد بعيد في اعتماد البناء السردي/ الاستناد إلى ‏مشهديّة تجسيد الحدث/ الحالة وحركته الدالة من خلال هذا التبرير الممنطق بالوعي الداخلي/ ‏الوجداني للطفلة، وهو ما تزيحه على الواقع على خلفيّة صراع نفسي ينجح النص على قصره ‏البالغ في تجسيده وتضفيره مع الحالة الناتجة، لتعطي هذه الصورة الأكثر اكتمالًا لسرد حالة ‏بها الكثير من الشجن.. وهو ما قد نجده بشكل مغاير في نص "اختناق" الذي يعبِّر عن حالة ‏منطقة اللا معقول يثيرها النص، لتنتج عنه حالة استثنائية مفجِّرة لمفارقة الاستغراق في ‏التجسيد، ولها مدلولها النفسي والمعياري للشخصيّة:‏

 

 

 

‏"عندما قفز النمر من اللوحة التي يضع الفنان رتوشها، لم يحرِّك الرسّام ساكنًا غير أنه أحس ‏بخيط ساخن ينساب تحته في هدوء".‏

 

 

 

هنا يبدو التوحُّد/ الاستغراق مع الحالة الوجدانيّة المضطربة التي تخلقها علاقة الرسام باللوحة، ‏وتداخل الوعي بالمفهوم الخارجي لإدراك حالة من الإبداع، والتي تمثل تفريغًا نفسيًّا في الوقت ‏ذاته، ومحاولة تحويل الأشياء المتحركة في طبيعتها، إلى أشياء جامدة وثابتة بفعل الرسم، فإذا ‏بالمفارقة النفسية الداخلية تأتي من خلال اللاوعي في إدراك حالة موازية من الخوف والهلع ‏من ذلك المخلوق الذي دار به النص دورة عكسيّة ليعيده في ذهن الفنان إلى طبيعته؛ فأحدث ‏هذا الردّ العكسي الإحساس الكامل بسطوة المشهد من خلال ما قد نسمّيه تشيؤًا، وهو تحويل ‏اللا شيء الجامد إلى شيء موجود وملموس ومحسوس يؤثر بالتأثير المادي نفسه للحالة ‏الواقعية التي يهرب منها الرسام، ويعمل على تلاشيها؛ ما يبرز هذا الواقع النفسي من خلال ما ‏تضمره هذه العلاقة التي يحركها هاجس الخوف من مجهول/ أثر تاريخي نفسي قابع بالوجدان ‏يبدو تأثيره من خلال هذه الحالة المضطربة.. ‏

 

 

 

لكن ممّا تجدر ملاحظته في هذا النص هو بداية النص بالتعبير بكلمة "عندما" التي ربما ‏أبعدت النص عن حالته الآنيّة، وجعلت الحدث يتخلّى عن جزء ولو بسيط من مشهديّته القائمة ‏على ذوبان الحالة في الزمن، تلك التي تعطي النص قدرة أكثر تأثيرًا في تحقيق معيارية النص ‏النازع للكمال الإبداعي..‏

 

 

 

هذا الانفجار المعنوي والنفسي الذي تثيره الكتابة القصصيّة بما تملكه من قناعات وجودها التي ‏تشكل في إجمالها طاقة تعبير، قد نجدها تكتمل في نص آخر هو "حلم" الذي يلعب على الوتر ‏ذاته، وإن كان من خلال صورة تعبيرية أخرى قادرة على التجسيد وصناعة المشهد القصصي ‏القصير المشحون بطاقة المشهد السردي المكتمل:‏

 

 

 

‏"أمام اللوحة التي يعلو فيها الموج ضاربًا أسوار المدينة، تمنّى أن يسحبه الماء إلى الأعماق ‏التي احتوت حبيبته"(ص23).‏

 

 

 

فهنا تبدو براعة الاختزال لتضع بين كلمات النص وفراغاته البينيّة مسافات واسعة من الحكي ‏المضمر الذي يعبِّر عن تاريخ مؤلم مسكوت عنه في ضمير المسرود عنه/ الشخصية ‏المحبطة، وتكثف بوعي وتقطير شديدين قصة كاملة للحب والغرام تنتهي بألم الفقد الدافع لهذه ‏الحالة من الذكرى الضاغطة على الوعي، تغني عن سردها تلك الشحنة الانفعاليّة المعنويّة ‏التي كمنت في النص وبين حروفه وكلماته المعدودة، وعملت على تصوير خلفي مستبطن ‏يفتح طاقات التخيُّل للمتلقي الواعي الذي يدرك قيمة الكلمة، وهو ما يزن القصة القصيرة جدًا ‏بميزان حساس، لتحريك تلك الفضاءات التي تصنع عالمًا مكتملًا موازيًا في تضاعيف الحالة ‏المكتوبة..‏

 

 

 

وهو ممّا يشير -إلى حد بعيد- كإشكالية مهمة من إشكاليات هذا الفن التجريبي المحض، إلى ‏حساسيته وخطورته، وإمكانيات التعامل معه من منطق السهل الممتنع الذي قد يبدو سهلًا ‏ولكنه قد يستعصي على الكثيرين الذين يتهاونون في إنتاج نص مقتضب لكنه لا يحمل مثل ‏تلك القضايا أو الرُّؤى الإنسانية العميقة، فالمعوَّل عليه هنا بناء سردي محكم لا يفتقد أركانه ‏الرئيسة.‏

 

 

 

تنعكس حالة الشتات الوجداني التي يعاني منها النموذج الإنساني، والتي تشي بها المفردات ‏الدالة على الوقوع في نماذج حالات الالتباس والفقد والألم التي تجسدها نصوص تبدو فيها ‏نزعة الأمل متجاورة مع نزعة اليأس في صراع يجعل من الوجدان فضاءً للصراع النفسي ‏المستمر مع الوجود، وهو الهاجس الذي يميز جُل النصوص الهاربة من واقعها لتصنع واقعًا ‏آخر موازيًا، وكتفريغ نفسي لما يعتلج الروح، فالمقاومة هنا سلاح جيد في مواجهة الذات ‏المقموعة في أحلامها، ففي نص "فرح" نجد حالة من حالات المفارقة سواء على مستوى ‏العنوان أو على مستوى بناء الحالة الإنسانية المتحكمة في النص: ‏

 

 

 

‏"الطفل الذي يقف وحيدًا يوم العيد.. رسم طفلًا على الحائط يحِّلق عاليًا فوق أرجوحة تغمره ‏الفرحة"(ص69).‏

 

 

 

تتجسَّد الفرحة بداية من العنوان، لتعكس تفاصيل النص حالة الفرح الوهمي لتصنع المفارقة، ‏حيث يقر الطفل وقائع هذا الفرح من خلال مواجهته لواقعه ومحاولة إعادة تشكيله والعمل على ‏تجميله استيعاضًا عن حالة الفقد التي يعاني منها، ليضمر النص هنا المزيد من التفاصيل ‏المريرة التي يعاني منها الطفل –على الرغم من تاريخه غير الطويل مع الألم- ويسقطها من ‏ذاكرة الكتابة ليحييها في ضمير التأويل، لتخلق عالمًا موازيًا لهذا الفقد من حلال الفرحة ‏الصناعيّة التي تعكس مدى مفارقة الوجود في عالم لا يعترف بأنه طفل لم يقدم النص –‏صراحة- ما يعتلج في نفسه، ولكنه استبطن كل التوترات الانفعاليّة التي انبثقت من الداخل إلى ‏السطح الهادئ الذي تعامل مع الواقع باضطراريّة التكيُّف والمعايشة، إلى جانب ما ترمي إليه ‏الرموز المبثوثة في النص؛ فالأرجوحة هنا تؤرجح علاقة ذاك الطفل مع الواقع، وتعكس ‏بإيجابية الكتابة، سلبيّة وقهر الواقع، مع الاحتفاظ بنبرة تفاؤل قد تكمن في تلك النفس شبه ‏الرّاضية..‏

 

 

 

بنية المشهد القصصي وديناميّته

 

 

 

ربَّما تمثلت البنية السرديّة على نحو آخر في بعض النصوص التي ازدادت مساحتها لتفكّ أسر ‏الدراما المختبئة/ المضمرة في نصوص أخرى أقصر نسبيًّا، لتقوم بالتعرُّض إلى بعض ‏التفاصيل التي تعطي تلك الدينامية المرتبطة بتوغل الحالة القصصيّة في عمق الحالة الإنسانية ‏المرصودة مع الاهتمام بالخارج، من خلال سرد لا يعدم مميزات تكثيفه واختزاله واحتوائه ‏على المزيد من الحركة الدالة على تكوين عالم ربما كان مختلفًا قليلًا ونازعًا إلى استمراء ‏الحالة والتركيز على مفرداتها وحركتها المستمرة، ففي نص "قهر":‏

 

 

 

‏"ندت من فم الطفل صرخة مكتومة ووالده يضغط بكفه الكبيرة على يده الطرية.. يجره من ‏أمام المحل الذي تتزيَّن واجهته بالألعاب دون أن ينتبه الطفل للدمعة التي انطلقت من عيني ‏الأب محاولًا إخفاءها"(ص64).‏

 

 

 

هنا يتحرك السرد حركة اطراديّة من خلال مشهدية ناطقة بالحال المضمر الذي يحتفظ بأسبابه ‏الداخلية التي تصنع الشجن الموازي بين صرخة الطفل، ودمعة الوالد، حيث تتحرك الصرخة ‏بداية نتيجة عملية ضغط على المستويين الداخلي النفسي والخارجي البدني، لها دافعها ‏الأصيل، وهو التعبير عن العجز الذي ينتهي بدلالته الموجعة، وهي الدمعة المنطلقة من عين ‏الأب، والتي لا يدري بها الطفل، كما يشد الأب بقسوة قبضته على ابنه.. ليصنع هذا التوازي ‏الشكلي تلاقيًا على مستوى المضمون والمضمر في نفسيَّتي الطفل ووالده.. ‏

 

 

 

كما تمثل واجهة محل الألعاب وسيطًا لهذا الضغط على الوعي لدى كل منهما، وهو ما يجعل ‏من عملية السرد وترًا مشدودًا لمشهد غاية في الرهافة الحسيّة وقوة البنيان من خلال الاعتماد ‏على تلك البنية المحكمة والمقطّرة والتي تحمل أيضًا مفهومًا من مفاهيم الدراما العنيفة لمشهد ‏يتحرك بسرعة لا تفقد تأثيرها وحفرها في الذاكرة.. ‏

 

 

 

كما تتحرك البنية السردية من خلال تتالي الأفعال الضاغطة على وعي الشخصيتين، والتي ‏تأتي كردود أفعال للحالة التي يصفها النص بالطقس الذي لا يُحتمل في نص آخر هو "إشارة"، ‏ليفتح الباب أمام هذا التتالي للفعل الماضي المتسارع المسجل للحظة/ المشهد، دلالة على ‏الضغط، وكسبيل للتخلص من الشحنة الانفعاليّة:‏

 

 

 

‏"نفخ الملل- داعب زرّ التكييف في السيارة الفارهة- أضاء اللون الأحمر- هدأ زئير المركبة.. ‏‏(رأى الناس أسراب نمل تقتحم مسامات روحه قبل أن يقترب البائع الصغير من النافذة)- ‏ضغط بانفعال على كبسة الإغلاق- ارتفع الزجاج الأسود في وجه الطفل جدار خيبة- وأشاح ‏السائق بوجهه للناحية الأخرى"(ص78).‏

 

 

 

على الرغم من انسيال الأفعال في الحركة وديناميكيتها الفاعلة، نلاحظ في هذا النص شيئين ‏مهمين أولهما: زيادة حاجة النص بداية من الوصف الذي استطاع الجو العام لحركة النص أن ‏يجسِّده بحركة الأفعال، دون الحاجة إليه في قوله: "طقس لا يحتمل.. أنهار السيارات تُغرق ‏الشارع"، مع نعت السيارة بالفارهة، بعد ذكر التكييف، وثانيهما طول الجملة السردية: (رأى ‏الناس أسراب نمل تقتحم مسامات روحه قبل أن يقترب البائع الصغير من النافذة) في وسط ‏النص، فقد كان من الممكن تجزئتها اعتمادًا على تركيز الأفعال فيها كما سبقها وما تلاها، ‏وهو ما أدخلها في نطاق القص العادي الذي لا تحتمله مساحة السرد في حجم القصة القصيرة ‏جدًا، أو المساحة النفسيّة التي تتحمّلها..‏

 

 

 

إلا أنَّ ديناميكية السرد قد أدَّت وظيفة مهمة من وظائف النص القصصي القصير جدًا، إضافة ‏إلى الإحالة البلاغية أو المجاز الذي عبَّر به النص عن زجاج النافذة بالجدار الذي اقترن ‏بالخيبة، وعدم استطاعة تحقيق الرغبات في خضمّ الحالة الانفعالية المختنقة من خلال الصراع ‏الناشئ بين الطفل البائع وقائد السيارة الذي كانت كل ردود أفعاله للموقف، تختزل في الوقت ‏ذاته في رد فعل واحد نفسي صرف لدى الطفل الذي فشل في الوصول والبيع، ووقف أمام ‏جدار الخيبة..‏

 

 

 

تبقى المسافات -التي وفقت في تكليل عنوان المجموعة وجبينها- حجر عثرة في مواجهة ‏الشخوص الساعية في ثنايا النصوص التي نجحت إلى حد بعيد في التعبير وتجسيد أزمة وجود ‏إنسانية خاصة، وإن تعددت صورها، واختلطت بالذاتي والعام والسياسي المضمر، في مقابل ‏تقنية كتابة تحاول بجهد كبير تحقيق معيارية معادلة كتابة القصة القصيرة جدًا الصعبة، ‏والحافلة بالتجريب على مستويي الشكل والمضمون..‏