د. مريم جبر فريحات
أديبة وأكاديمية أردنية
يُشَكِّلُ المكان أحد المفاتيح القرائيّة المهمّة التي نلج من خلالها العوالم الشعريّة في أعمال الشاعرة عطاف جانم، وقد ارتأت د.مريم جبر في هذه الدراسة أن تقرأ تجلّيات المكان وتشكُّلاته في ديوان جانم الأخير "مدار الفراشات"، وتخيَّرَتْ له عنوانًا منتزعًا من قصيدة فيه هي "في مدار الفراشات". وقصائد الديوان نُظمت بين الإمارات والأردن، فحضرت فيها ملامح كليهما، كما استدْعَت، على البُعد، ملامح تجربة مكانيّة أخرى في اليمن الذي كان سعيدًا.
لِلْمَكانِ في شعر عطاف جانم خصوصيّة يكتسبها من عمق إحساسها وتفاعلها معه، لا بوصفه مساحة جغرافية عيانية محددة المعالم، بل بوصفه شريكًا شاهدًا على حدث أو حالة مرتبطة بزمن وتاريخ وعلاقات إنسانية يمتزج فيها الخاص بالعام، وتتداخل فيها الحدود، وتتماهى المشاعر. فالمكان حيّ نابض بصوت الذات الشاعرة التي يمكن قراءتها من خلال قراءة المكان، خاصة وأنَّ هذا الصوت ما يلبث أن يتماهى بصوت الذات الجمعيّة، تلك الذات الممثِّلة لتجربة عموم ممتدة عبر تاريخ من الهزائم والمعاناة التي تتفجَّر في قصيدة عطاف غضبًا، وثورة، وحلمًا، وحفنة أسئلة تحكي حكاية وطن وأرض مغتصبة، تلك الأرض التي لم يكن اغتصابها "انتهاكًا مجرّدًا للجغرافيا أو عدوانًا عابرًا عليها، بل هي للشاعر العربي عدوان على حريّته وتماسكه وبهجته الإنسانية"(1)، الأمر الذي يجعل منها/ الأرض/ مركز انبثاق اللحظة الشعرية وموطن مآلها النفسي والجمالي المقصود.
(وتلتقطُ الأرضُ خطوي.. فترفَعُني../ عريسٌ أنا.. فوق أيدي الصباحِ يطيرْ/ وتُخرِجُ أمّي سكاكينَها.. وزغاريدَها/ بينما الأفقُ جرحٌ كبير!).
تتوزَّع اللحظة الشعرية عند عطاف جانم بين ثلاثة أماكن تتصل بتجربتها الحياتية والوطنية والإبداعية، يمكن إجمالها بثلاثة: مكان الألفة، ومكان الاغتراب، ومكان الحلم، وفي جميعها يتشكّل المكان ويتجلّى بحضور نفسيّ انفعاليّ أكثر ممّا هو فيزيائيّ، ويرتهن للحالة والموقف والتجربة والارتباط الروحي، بتداخل وتنوُّع يسوق إلى تعدُّد في الدلالات يرتدّ إلى تنوُّع في التجربة وخصوصيتها الأنثوية لجهة الشاعرة وجهة الأمكنة في الآن نفسه: (غمامة، المحاضر، وادي الجن، غياثي، ليوا، إربد، القدس...)، وتستمدّ تلك الأماكن أهميتها في قصيدة عطاف من ارتباطها بقيمة ما، نفسيةٍ ذاتية، أو اجتماعيةٍ، أو تاريخيةٍ، أو سياسية، ذلك أنَّ "علاقتنا بالمكان تنطوي على جوانب شتى ومعقدة تجعل من معايشتنا له عملية تجاوز قدرتنا الواعية لتتوغل في لاشعورنا. فهناك أماكن جاذبة تساعدنا على الاستقرار، وأماكن طاردة تلفظنا. فالإنسان لا يحتاج إلى مساحة فيزيقية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها بجذوره، وتتأصل فيها هويته"(2).
أقامت عطاف حوارية جمالية بين الأمكنة التي احتفت بتجربتها الحياتية والفنية، وهي حوارية وإن قامت على نقض المكان الحاضر لصالح مكان الحلم أو المكان المُفتقد، فهو فعل عملت من خلاله على تحويله عبر تمرير الموقف والفكرة والحس الشعوري إلى شكل من التكامل يتبدّى في استدعائها لمكان ما ليكمل ما تراه ناقصًا بعين وجدانها قبل عينيّ جسدها، ومن ذلك ما نجده في انتقالاتها من مكان الاغتراب (ليوا) إلى (إربد):
(أغصانُ نداءِ الصلواتِ/ باردةً تصلُنا/ بعد أن جرّدَتها من ثمارِها أسنانُ المسافات/ هنا.. لا تهبُّ رياحُ الطوابينِ البعيدةِ/ ولا تتراقصُ صحونُ الـحُمُّص/ وبخورُ الفلافلِ المُشتَهى/ فوقَ أيدي الصِبْيَة/ في شارعِ الثلاثين/ والطرقاتِ الرافلةِ بالحياة).
وانتقالها كذلك من كل الأماكن/ البدان العربية التي خيّبت أملها إلى مهوى القلب/ القدس التي فيها "وعد الحياة"، فتقول:
(وبنو العمومةِ بعدما هانوا على الخِدْرِ العتيقْ/ ضلَّتْ حِرابُهُمُ الطريقْ!/ ..../ كنعانُ.. حضنُ المركبِ المخضرِّ يا عدنانُ،/ سيفُ اللهِ، مِتراسُ النجاةْ/ والقدسُ مغتسلٌ(3).. شرابٌ باردٌ/ فاضربْ بِرِجلِكَ أيُّها المُضَريُّ،/ وامتشق الحياة!).
***
مكان الألفة في قصيدة عطاف جانم هو مكان الواقع، وهو بحسب "باشلار" المكان "الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا... الصورة التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة"(4)، الذي يُعدُّ "أحد أبرز المكوِّنات اللاشعورية الثانوية في عقل الشاعر، بوصفه المكان الأثير لدى النفس"(5). فحين يرتبط المكان بالواقع يرتقي بالحس الشاعري ليتأنسن، ويتحوّل لفضاء فيه من صنيع الإبداع أكثر ممّا فيه من صنيع الواقع، وليصير للأسئلة من ثَمّ أنينُ موجوعٍ يدري حقيقة ما فيه، لكنه يصرخ باللاأدري، تلك التي ولّدتها فلسفة السابقين، أو يترك أسئلة ما حلّ بغمامة مشرعة على أبواب الزمن الحاضر:
(ما الذي سدَّ شبابيكَ غمامةْ؟!/ ما الذي شجّ شبابيكَ غمامةْ؟!/ وسبى لونَ الفراشاتِ/ خلايا النحلِ/ بوحَ الكهرمانْ؟!).
تلك هي لحظة الكشف، وذاك هو قصد اللحظة الشعرية التي تلتقط ما آلت إليه المدينة من تغيُّر الحال، فما عادت شبابيكها مفتوحة على غيم الأفق، بل شُجّت شبابيكها، وسُبي لون الفراشات وخلايا النحل وبوح الكهرمان، سُلب الجمال والبراءة والصفو.
فغمامة تلك المدينة الشامخة العالية المتعالية إلا على غيمة الشعر/ الحلم/ كانت الغيوم تنساب عبر شبابيك بيوتها، بل تصير بعضًا من تلك البيوت:
(بعضُ هذا الغيمِ طِفلٌ عابثٌ/ يقفزُ ما بينَ الشبابيكِ.. يغني/ ينقرُ الدفَّ../ فيجري خلفَهُ بعضُ الصِّغارْ/ بعضُ هذا الغيمِ بنتٌ للمكانْ/ تغسلُ الأطباقَ../ تغلي قهوةَ السمّارِ../ أو/ تحملُ (فنجانًا) لِنَجمٍ يتمشّى في الجِوارْ).
أية غيمة هذه التي ألقى وحيُها للشاعرة بكل هذه التفاصيل الشجية؟ أيّ سحر هذا الذي ألقته إليها فبعثرت مكوّنات المكان وجعلت نهاره ليلًا وليله نهارًا!! فما بين غمامة والغيم تتكثّف الدلالات النابعة لا من التماثل الصوتي اللغوي حسب، بل ومن ارتقاء كليهما في أعلى فضاءات، بما يوحي بتناغم عجيب التقطه حسّ الشاعرة:
(كانت الكسرةُ لحنًا في غمامةْ/ والقوافي.. مِهرَجانْ!).
لتجعل من لحظة عبور الغيم شبابيكَ غمامة لحظة توحُّد وألفة أسهم في خلقها بعدُ المسافة بين داني الأرض وقربها من السماء، هنالك إذ يصير للبياض وغائميّة الرؤية وضوحُ الرؤيا وكشفُها لما وراء المشهد في زمن ماض:
(...كانت الغيمةُ إنسيًّا وجنيًّا/ نهارًا في الدجى/ ليلًا بهيًّا في النّهارْ/ كانت الغيماتُ أسرارًا وأنهارًا/ حقولًا تجمعُ العشّاقَ في عرسٍ جماعيٍّ/ يداري عوْزَهم عِقدُ الخُزامى/ أو/ زهورُ البيلسانْ).
جماليات المكان في غمامة لا تتأتّى من لغة واصفة، بقدر ما تنثال عبر جملة من الأفعال: تغسل، تغلي، تحمل، تجمع... التي تتالى وتتداعى لتنتج دلالات استشرافية ترى إلى الواقع بعين الحالم، إذ تتكثف دلالات المكان كما يتكثف غيم غمامة، حاملًا أسرارها وأنهارها وحقولَ عشاقها، إذ يسدّون عوزهم المادي من عقود خزاماها وزهر بيلسانها، ولعلَّ تلك هي رؤية الشعر حين تستبدل المادة بالمعنى فترتقي بالحس الإنساني ليداري برومانسيّة التعبير خشونة الواقع وبؤسه.
***
يرتقي المكان في شعر عطاف جانم نحو المقدّس، ونحو الحلم، فحين يرتبط المكان بالوطن يصير مكان احتماء، الاحتماء بمكان الحلم، ذاك الذي تشكله اللغة ليكون بديلًا ضد ما يتخلّق في داخلها من مشاعر الفقد والاغتراب والغياب، وضد الخراب وما تشهده البلاد من تشويه ناجم عن نزاعات السياسة وتفرُّق الأقوام. فيتشكل المكان لديها بأثر مما يجري في الواقع من أحداث، في مستويين؛ خاص هو نتاج تجربة حياتيّة عاثت فيها غربة تقول إنها:
(بدأَتْ مثلَ دُعابةْ/ وانتهت بي كَخرابةْ!).
وتقول:
(أو مرَّ بي هذا الزمانْ!/ بين المحاضرِ(6).. ناطحاتِ الغيمِ../ أسرابِ المَحارْ/ إذْ كلما ومضتْ بماءِ الروحِ قافيةٌ/ وأشعلتِ الكيانْ/ عانقتُها نارًا لنارٍ).
ومستوى عام يستمد جماليّاتِه من طبيعة الحدث وموقعه في روح إنساني تواق للمكان البعيد، المكان الغائب عيانيًّا، لكنه حاضر بقوة في الوجدان والذاكرة، وما يلبث أن يحضر سافرًا مع كل حدث تشهده أو تسمع عنه، فتتجه بوصلة وعيها وقصيدتها لهناك، حيث وطن الشهادة والإجازة (إجازة الشعر)، الذي تأمَّلَت عطاف بعض حاله ووضعته بين يديّ (درّة الشهداء) الشاعر عبدالرحيم عمر الذي رأت في قصيدة له نعيًا للمسجد الأقصى قبل احتلاله بثلاثين عامًا، فتخاطبه قائلة:
(يا درّةَ الشعراءِ والأمراءِ/ هذا المسجدُ الأقصى ينوءُ بِنَعْشِهِ/ لمْ يبقَ في فمهِ ثنايا/ والقوارضُ فوقَ قُبَّتِه الشهيّةِ والبهيّةِ،/ رفرفتْ راياتُها/ بيدِ البَغايَا/ بُتِرَتْ نواشِرُهُ(7) وأُلقِمَتِ الحريقْ/ وبنو العمومةِ بعدما هانوا على الخِدْرِ العتيقْ/ ضلَّتْ حِرابُهُمُ الطريقْ!/ أو لاعَنوا(8) حُسن الجوارْ؟/ فاهتمّ(9) فجرٌّ.. واستدارْ).
***
تستحضر عطاف جانم الماضي عبر صور انتقائيّة تفعل فعلها في إثارة الحنين وتثوير المشاعر الوطنية، ليكون للمكان دلالات أخرى غير كونه حاضنًا للذكرى، بل مجدِّدًا لها عبر فاعلية تجلّت باستدعاء رموز حاملة لدلالات الزمان والمكان تتمثل بالشخصيات التاريخية والوطنية والدينية، بما يكشف عن نزوع شعري يحرِّكه فكر ديني وانتماء روحي، بل تشبُّث بكل ما له صلة بمكان الألفة المُفتقد، البيت المُشتهى، وأرض الأجداد وتلك السماء الحانية المتدانية المردِّدة لصدى ابتهال عاشقة سرق العابرون حلمها كما سرقوا المعنى من كل مكان مرّوا به:
(كيف كان العابرون/ كلّمَا مرّوا بحَارَة./ سرَقوا من فَمِهَا المَعنى/ ظلالَ الحرفِ/ قُفطانَ الحضارةْ!!).
يعمل الرَّمز على كشف موقف الشاعرة من الحدث الواقعي، وكشف رؤاها في هذا الواقع، من منظور يؤكد عدم انفصال المكان عن الزمان في اللحظة الحاضرة التي يتكثف فيها الوعي على عمق مأساة الواقع الحاضر، ما يشكل حافزًا لخلخلة رتابة هذا الزمن باستحضار الماضي بقصدية إقامة مواجهة صادمة للروح الفردي والجمعي على السواء، عبر استعادة رموز محمَّلة بإيحاءات بالمشترك الرابط بين حاضر الأمة وماضيها، سواء أكان هذا المشترك فعل إيجاب أو سلب للصفة:
(يا الذي زجَّ/ بقابيلَ وغذّى نسغَهُ../ بالعتمةِ الشوهاءِ/ والطينِ/ ونَفطٍ للحوارْ/ يا الذي يرقصُ حولَ النارِ/ مَنْ/ أطلقَ فأرَ السدِّ في مأربَ؟).
ففي الاستعادة هنا تحريض على التمثُّل بدلالات ما يحمل الرمز، حال كونه غائبًا في صفته وفاعليّته في واقعٍ دامٍ، أو دعوة لرفض تمثله بما يحمل من سلبيّة، كي لا تتكرَّر التجربة وتتَّسع وتتعمّق مأساة هذا الواقع، وهو ما فعلته عطاف في استدعائها لرمزيّة قابيل وفأر السدّ والملك الضّليل والبردة المهداة:
(تحتَ الشَمسِ عِقبانٌ تُناغي الملكَ الضلّيلَ/ تُغويهِ/ فيا لَلْبردةِ المهداةِ(10)/ يسري سُمّها في الجسدِ الراشحِ/ بالشعرِ وبالخمرِ/ يداري نشوةً مختنقةْ/ وبماذا تحلم المؤتَفكةْ/ أَنياشينُ وعهرٌ في غمامةْ/ فوقَ ظلّ الغيمةِ/ المحترقةْ؟!).
فهي تترك للمتلقّي أن يتتبَّع الرموز ويلتقط ما ينطوي خلفها من دلالات يمكنه ربطها بالواقع، ويوظف مفهومه لها في إعادة بناء مفهومه الخاص، ومراجعة علاقته بالمكان بما فيه من عناصر بشرية وأحداث قلبت الحال في هذه المدينة، وغيرها مما يعمل على ربط الماضي بالحاضر من خلال ما تلقيه من إضاءات وإشارات، كاستحضار البردة المسمومة التي أهديت للملك الضّليل امرئ القيس من ملك الروم حين أمدّه بجيش ليأخذ بثأر أبيه وقد استنجد امرُؤ القيس بهم، وهو استحضار يستنطق الماضي ويعمل على تعميق رؤية الشاعرة للواقع، كما يكشف عن ارتباطاتها الوجدانية بمكانها الأول الذي بات بعيدًا، لكنه يبرز هنا من خلال ما يتكثّف طيّ القصيدة من دلالات التحفيز نحو فعل لا ينخدع بظاهر إغواء الغرباء حين نستنجد بهم لاستعادة حق مستلب.
إنَّ ربط الرموز التراثيّة بالحدث الحاضر يعمل على تعميق مأساته، ويبرز مدى شعور المبدع ومعايشته لمآسي مجتمعه وفواجعه، فمؤتة المدينة مكان الحاضر الذي وقفت الشاعرة على تخومه يومًا لتقرأ صورتها:
(طبقٌ من حكايا على رأسِها/ أمْ/ براعمُ من فضةٍ/ ووضوءْ!/ إذ تمرُّ بِعُكازةِ الصمتِ فينا/ فتمشي إليها المُنى/ والدروبْ/ والسلالُ التي عَلِقتْ رُسْغَـها/ هل تفيضُ كما يشتهي صفوةُ العاشقين/ بوردِ الكلامْ/ وبماذا تُسِرُّ الصبيّةُ للنسمةِ الواقفةْ!).
هذه المدينة هي ذاتها المكان الذي رأت فيه الحاضن لبذور التغيير، حيث "ميشع" ملك مؤاب الذي هزم أحاب ملك اليهود وقتله، وحيث "جنان" أول شهيدة كركيّة في معركة حطين:
(يا لَميشعَ(11) يَنزِع أسماله الأبديةَ.. يحرث غاباتِ أرواحِنا../ يقلعُ العشبَ المتآكلَ.. ينثرُ قربَ الحياةِ حبوبَ اللقاحْ/ يا ذئابَ الحلازينِ، كلُّ طريقٍ تقودُ إلى القوقعةْ/ فالرّغاليُّ(12) يحرقُ راياتِه البائدةْ/ وجنانُ(13).. تعودُ ندى.. ورذاذًا ليرموكِها/ في نشيدِ الصباحْ).
فالمكان في ذاكرة الشعر هنا محمَّل بروح توّاق لميشع جديد يقتل أو يطرد اليهودي المستعمر من وطنها فلسطين التي تحتضن كل يوم دماء جنان وأخواتها يروين ترابها. فالمكان هنا، مؤتة، يحيل إلى الماضي كيما يبعث حاضرًا جديدًا، يرنو إلى ما يرنو له الإنسان من بعث جديد يُعيد إليه ما افتقد، كما يُحيل إلى شخصية وإلى حدث تاريخي، إحالة تثير وعي المتلقي نحو إعادة بناء حدث واقعي يحقق للأمة انتصارًا مماثلًا لذاك الذي شهده المكان/ مؤتة في زمنٍ ماضٍ:
(قربَ مربطِ آمالِنا/ خيمةُ العائذينَ ببابكِ/ فلْتوقِظي شهداءَكِ مؤتةَ/ ولتنحني يا رياحْ).
وبذلك يرتسم المكان في القصيدة وفق ما يمليه موقفها الفكري والشعري، بما يشكل دافعًا لاستذكار مكان الطفولة، والإمعان في تفاصيل مكان الاغتراب، كما يحيل إلى تعدُّد دلالي يجعل مشاعر الألفة تعيد انتظام حلقاته لغويًا، فتلتئم دلالات الأمكنة كلها في مركز الارتباط الوجداني والحضاري والديني، حيث فينيق وإرث النبوات،
(نسغُه.. ريقي و(دَمِّي)/ نسلُه.. سرُّ المحارةْ/ ..../ يا فنيقياتِ عكا/ في جنيني/ كلُّ أشواقِ أبِيْهِ/ ويداهُ/ نبضُه.. يا كَرْكَراتِ الحقلِ لـمّـا/ هَودَجُ الماءِ تجلّى/ ولهُ من جدِّه الأوَّلِ/ عيناهُ.. ورؤياهُ.. وكوفيّتُهُ/ إرثُ النبواتِ لهُ).
***
مكان الغربة عند عطاف جانم هو مكان الوحدة والشعور بالحرمان الذي يشكل مبعثًا لذكريات غافية في أعماق طبقات النفس، حيث هنالك تكمن العلاقة الحقيقية بالمكان الأثير، أو المكان الأكثر أثرًا في تكوين إنساني بات بالغ الهشاشة تتنازعه تفاصيل واقع حافل بالانكسارات، وتفاصيل حلم واع بما ينبغي أن تكون عليه تلك التفاصيل، خارج الحرمان من حضن الأمومة الراسخ في لا وعي الذات الشاعرة، ومن ثم يغدو الانفتاح على الأمكنة، الخارجية منها والداخلية المكتنّة في الفكر والوجدان، ليس مجرد تنويع فني تتخلّق القصيدة من بين جنباته، بل ضرورة إنسانية تصير فيها القصيدة فضاء لاحتواء هذا التنازع بين الأمكنة، بما لها من ارتباطات وعلاقات وتفاعلات نفسية ووجدانية قارّة في العمق، وتظل خارج النسيان أو الغياب، بل تزداد فاعليتها كلما أوغل الشاعر في المكان النقيض:
(ما أبعدَ المدينة السَّبيَّة المقدّسة/ ما أقربَ اليمن!).
وفي ذلك ما يجعل حضور مكان الحلم والهوية أشبه بصدمة تقطع انسياب اللحظة الحاضرة بما يشبه ومضة باهرة الضوء وكاشفة:
(هنا.. آخرُ الشهقاتِ/ فلا جبلًا تعتليهِ/ ولا الغردقُ المشتهى في الضفافْ/ وفجرًا.. سيغتسلُ البحرُ منكَ/ وتُولمُ تلكَ الهوامُ العِجافْ/ تعالَ.. كما كُنْت/ وكُن لِي يَمينًا إِذا مَا الْتَوَيْت/ وَرُدَّ سِهَامَ أَخِي وَرَفِيقِي/ تعالَ/ وهبْ لي عيونيَ/ كُنْ لِي طَرِيقي/ لِسِجَّادةٍ قُربَ شَوقِ البُراق/ لِزيتونةٍ عندَ بابِ العَمود/ هناكَ.. أحُطّ حَنِينِي../ أُطيلُ السُّجوْد..).
تعمل عطاف جانم على عقد مقاربة بين زمنين، ماض وحاضر، يجمع بينهما حال فيه من التشابه والتماثل في المعاني المستترة الكامنة خلف الحدث وفعل الشخوص، وكل ما صاغته رؤية شاعرة تقرأ الحاضر في ضوء الماضي، كما تعيد قراءة الماضي كيما تقول الحاضر وعيًا بما يمكن أن تصير إليه مآلات الإنسان العربي، وحنينًا للذات في صفوها، للمكان في تفاصيله اليومية دون غصة ولا عثرات تحول دون انسيابها هينًا، ما يجعل المكان لديها مكانًا شعريًّا، لا فيزيائيًّا، يستمدُّ معالمه ممّا يحدثه في داخلها من تفاعل بأثر لحظة تأملية أو موقف ما أو حدث يستثير فيها كوامن الحنين أو الغضب أو العتب، وهو ما نجده في قصيدة "ترابها يا نور" التي تكشف مدى تفاعل الشاعرة وتأثرها بزيارة الشاعر نور عامر قدم من عكا في زيارة لرابطة الكتاب الأردنيين في عمّان لأول مرة، وقد استغرب إذ سألته الشاعرة أن يحضر لها في زيارة قادمة حفنة من تراب عكا، فقالت:
(ترابُها يا نور/ يفِرُّ من أصابعِ التقشيرِ والتعليبْ/ من../ ثقافةِ الجلادْ/ يفرُّ من.. تناحرِ الأحبابْ/ يفرُّ من صهيلِنِا الخجولِ، من/ سكونِنِا الهجينْ/ ..../ ..../ ذرّاتُهُ، هذا الترابُ../ جدودُنا/ ونكاد نسمع بوح أصداء السما/ لمَّا النجوم أَتت تغني بيننا/ يا ميجنا.. ويا ميجنا/ ويا ميجنا).
والتراب بوصفه أحد عناصر الكون "يشكل موضوعًا خصبًا لمخيلة الشعراء، لما يتضمن من طاقة توليدية تجعله قاسمًا مشتركًا للمعاني الكيانية الكبرى في الحياة، وللجمال الشامخ في الوجود"(14)، وهو في قصيدة عطاف جانم، إرث الجدود ومغناتهم التي يتردد صداها في سماء تغني نجومها الـ.. يا ميجنا.
يتسم المكان في شعر عطاف جانم بالتحوُّل وفق الحالة الشعورية التي تعبِّر عنها، ويستمد سماته مما تتَّسم به حالتها الوجدانية النفسية، فرحًا أو حزنًا أو غضبًا أو أو عتبًا... فيرتبط بالحالة الشعورية، وبمجريات الواقع السياسي والاجتماعي إلى جانب محتوى الذاكرة لدى الذات الشاعرة بما تمثله من زمنية خاصة وعامة في الآن نفسه.
تكشف قصائد "مدار الفراشات" عن تعلّق بالمكان في شتى اتجاهاته وطبيعته، سواء المكان السليب الذي لا تني تستحضره مع كل حضور لأي مكان غيره، أو مكان السكنى الذي لا تغيب تفاصيله الصغيرة، بل تحضر بشكل صارخ في أوقات الإجازة، عبر مواجهة تستبدل تفاصيل هذا المكان بتفاصيل ممّا تفتقده في مكان الاغتراب لإبراز خصوصية مكان الألفة الأول، ففي يوم الإجازة في (ليوا) يتولّد حنين ليوم الإجازة في إربد، هو في حقيقته حنين للذات في صفوها، للمكان في انسياب تفاصيله اليومية:
(أغصانُ نداءِ الصلواتِ/ باردةً تصلُنا/ بعد أن جردَتها من ثمارِها أسنانُ المسافات/ هنا.. لا تهبُّ رياحُ الطوابينِ البعيدةِ/ ولا تتراقصُ صحونُ الـحُمُّص/ وبخورُ الفلافلِ المُشتَهى/ فوقَ أيدي الصِبْيَة/ في شارعِ الثلاثين/ والطرقاتِ الرافلةِ بالحياة..).
على ما تحمل هذه التفاصيل من دهشة تحويل العادي في المكان إلى غير العادي، عبر صياغة تنقله إلى حيِّز الشعر بسلاسة تثير التأمل والتفكير النقدي في وظيفة القصيدة الحديثة وما باتت تحتمله من لغة اليومي التي أبرزت من جماليات المكان ما خضع لاعتياد غالبًا ما يؤدي إلى أن تبهت صورته أو تغيب عن اللحظة الحاضرة.
كما يلفت القارئ ما تحمله من موقف إيجابي تجاه المكان عامة، فسرعان ما تشتبك بعلاقة لاواعية مع المكان، أساسها الألفة وتجاوز المسافة الزمنية والجغرافية، ليصبح جزءًا من تجربة وجدانية تستمد خصوصيتها من عمق إحساسها بالمكان، وقدرتها على أنسنته وتنفسه وعيش لحظاته الخاصة. يتجلّى ذلك في تصويرها، لا أقول للمكان، بل لعلاقتها به، كمكان الاغتراب الذي بدت فيه مندغمة متلمِّسة لجماليّاته، على الرغم من ارتفاع نبرات الشوق والحنين لمكان الإقامة أو لمكان الانتماء الروحي/ مكان الحلم/ الوطن السليب.
فكان لكل مكان لديها جماليّاته، التي أظهرت من خلالها وعيًا متميزًا للذات الشاعرة بالمكان، وعيًا يجاوز ما يظهر من تفاصيل المكان، ليخلق من تلك التفاصيل حالة من التماهي أتاحت لها هذه القدرة على المقاربة بين الأمكنة مقاربة شعورية يتصاعد فيها بشكل سلس وتدريجي لا شعوري الحس الإنساني بشكل يعمل على تغييب مكان اللحظة الحاضرة لصالح حضور راسخ للمكان الحامل للقيم وللمواقف الخاصة التي تشكلت لديها بوحي ممّا تمليه انتماءاتها الوطنية والدينية والعروبية.
ويبقى أن أقول، إنه على الرّغم من أنَّ شعر عطاف جانم شعر زماني شأن الشعر عامة، غير أنَّ للمكان فيه سطوة ظاهرة جعلت منه فنًّا زمكانيًّا، وهو ما أشار إليه الدكتور يوسف بكار في تقديمه للديوان، ذلك أنَّ النقلات الزمانية في كثير من قصائد الديوان ارتبطت بنقلات مكانية، وإن تكن ذهنية، لكنها جاءت مشحونة بدفقات شعورية منحت المكان المتخلّق من عمق الذاكرة والوجدان نبضًا وحياة ضاجّة بالمحمولات في سياقاتها الواقعية والنفسية والاجتماعية والتاريخية.
• الهوامش
(1) إبراهيم تمرموسي، ذاكرة المكان وتجلياتها في الشعر الفلسطيني المعاصر، عالم الفكر، مج35، ع4، 2007، 68.
(2) لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفني، تر: سيزا قاسم، مجلة ألف، الصادرة عن الجامعة الإمريكية بالقاهرة، ع6، 1986، ص83.
(3) مغتسل: إشارة إلى قصة أيّوب عليه السلام "فاضرب برجلك هذا مغتسل بارد وشراب".
(4) غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط5، 2000، ص6.
(5) قاده عقاق، دلالة المدينة في الخطاب الشعري المعاصر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص310.
(6) المحاضر: تجمعات سكانية في مناطق متباعدة تميزت بها ليوا العاصمة القديمة لأبو ظبي في المنطقة الغربية من الإمارات.
(7) نواشره: مفرد ناشر وهو أحد الأوردة في باطن الذراع.
(8) لاعَنوا: من المُلاعنة بين الرجل وزوجه.
(9) اهتم: من الهم.
(10) البردة المهداة: تلك البردة المسمومة التي أهديت للملك الضليل امرئ القيس من ملك الروم حين أمدّه بجيش ليأخذ بثأر أبيه وقد استنجد امرُؤ القيس بهم.
(11) ميشع: ملك مؤاب الذي هزم أحاب ملك اليهود وقتله (875-835 ق.م.).
(12) أبو رغال وهو من دلّ أبرهة الأشرم على مكة في عام الفيل.
(13) جنان: كركية كنانية، أول شهيدة في معركة حطين.
(14) أسيمة درويش، تحرير المعنى، دراسة نقدية في ديوان أدونيس "الكتاب1"، دار الآداب، بيروت، 1997، ص85.