خصوصيّة المكان في التجربة الشعريّة لعطاف جانم قراءة في ديوان "مدار الفراشات"‏

 د. مريم جبر فريحات

 

أديبة وأكاديمية أردنية

 

 

 

 

 

 

 

يُشَكِّلُ المكان أحد المفاتيح القرائيّة المهمّة التي نلج من خلالها العوالم الشعريّة في أعمال ‏الشاعرة عطاف جانم، وقد ارتأت د.مريم جبر في هذه الدراسة أن تقرأ تجلّيات المكان ‏وتشكُّلاته في ديوان جانم الأخير "مدار الفراشات"، وتخيَّرَتْ له عنوانًا منتزعًا من قصيدة فيه ‏هي "في مدار الفراشات". وقصائد الديوان نُظمت بين الإمارات والأردن، فحضرت فيها ‏ملامح كليهما، كما استدْعَت، على البُعد، ملامح تجربة مكانيّة أخرى في اليمن الذي كان ‏سعيدًا.‏

 

 

 

لِلْمَكانِ في شعر عطاف جانم خصوصيّة يكتسبها من عمق إحساسها وتفاعلها معه، لا بوصفه ‏مساحة جغرافية عيانية محددة المعالم، بل بوصفه شريكًا شاهدًا على حدث أو حالة مرتبطة ‏بزمن وتاريخ وعلاقات إنسانية يمتزج فيها الخاص بالعام، وتتداخل فيها الحدود، وتتماهى ‏المشاعر. فالمكان حيّ نابض بصوت الذات الشاعرة التي يمكن قراءتها من خلال قراءة ‏المكان، خاصة وأنَّ هذا الصوت ما يلبث أن يتماهى بصوت الذات الجمعيّة، تلك الذات الممثِّلة ‏لتجربة عموم ممتدة عبر تاريخ من الهزائم والمعاناة التي تتفجَّر في قصيدة عطاف غضبًا، ‏وثورة، وحلمًا، وحفنة أسئلة تحكي حكاية وطن وأرض مغتصبة، تلك الأرض التي لم يكن ‏اغتصابها "انتهاكًا مجرّدًا للجغرافيا أو عدوانًا عابرًا عليها، بل هي للشاعر العربي عدوان ‏على حريّته وتماسكه وبهجته الإنسانية"(1)، الأمر الذي يجعل منها/ الأرض/ مركز انبثاق ‏اللحظة الشعرية وموطن مآلها النفسي والجمالي المقصود.‏

 

‏(وتلتقطُ الأرضُ خطوي.. فترفَعُني../ عريسٌ أنا.. فوق أيدي الصباحِ يطيرْ/ وتُخرِجُ أمّي ‏سكاكينَها.. وزغاريدَها/ بينما الأفقُ جرحٌ كبير!).‏

 

تتوزَّع اللحظة الشعرية عند عطاف جانم بين ثلاثة أماكن تتصل بتجربتها الحياتية والوطنية ‏والإبداعية، يمكن إجمالها بثلاثة: مكان الألفة، ومكان الاغتراب، ومكان الحلم، وفي جميعها ‏يتشكّل المكان ويتجلّى بحضور نفسيّ انفعاليّ أكثر ممّا هو فيزيائيّ، ويرتهن للحالة والموقف ‏والتجربة والارتباط الروحي، بتداخل وتنوُّع يسوق إلى تعدُّد في الدلالات يرتدّ إلى تنوُّع في ‏التجربة وخصوصيتها الأنثوية لجهة الشاعرة وجهة الأمكنة في الآن نفسه: (غمامة، ‏المحاضر، وادي الجن، غياثي، ليوا، إربد، القدس...)، وتستمدّ تلك الأماكن أهميتها في قصيدة ‏عطاف من ارتباطها بقيمة ما، نفسيةٍ ذاتية، أو اجتماعيةٍ، أو تاريخيةٍ، أو سياسية، ذلك أنَّ ‏‏"علاقتنا بالمكان تنطوي على جوانب شتى ومعقدة تجعل من معايشتنا له عملية تجاوز قدرتنا ‏الواعية لتتوغل في لاشعورنا. فهناك أماكن جاذبة تساعدنا على الاستقرار، وأماكن طاردة ‏تلفظنا. فالإنسان لا يحتاج إلى مساحة فيزيقية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها ‏بجذوره، وتتأصل فيها هويته"(2).‏

 

أقامت عطاف حوارية جمالية بين الأمكنة التي احتفت بتجربتها الحياتية والفنية، وهي حوارية ‏وإن قامت على نقض المكان الحاضر لصالح مكان الحلم أو المكان المُفتقد، فهو فعل عملت ‏من خلاله على تحويله عبر تمرير الموقف والفكرة والحس الشعوري إلى شكل من التكامل ‏يتبدّى في استدعائها لمكان ما ليكمل ما تراه ناقصًا بعين وجدانها قبل عينيّ جسدها، ومن ذلك ‏ما نجده في انتقالاتها من مكان الاغتراب (ليوا) إلى (إربد):‏

 

‏(أغصانُ نداءِ الصلواتِ/ باردةً تصلُنا/ بعد أن جرّدَتها من ثمارِها أسنانُ المسافات/ هنا.. لا ‏تهبُّ رياحُ الطوابينِ البعيدةِ/ ولا تتراقصُ صحونُ الـحُمُّص/ وبخورُ الفلافلِ المُشتَهى/ فوقَ ‏أيدي الصِبْيَة/ في شارعِ الثلاثين/ والطرقاتِ الرافلةِ بالحياة).‏

 

وانتقالها كذلك من كل الأماكن/ البدان العربية التي خيّبت أملها إلى مهوى القلب/ القدس التي ‏فيها "وعد الحياة"، فتقول:‏

 

‏(وبنو العمومةِ بعدما هانوا على الخِدْرِ العتيقْ/ ضلَّتْ حِرابُهُمُ الطريقْ!/ ..../ كنعانُ.. ‏حضنُ المركبِ المخضرِّ يا عدنانُ،/ سيفُ اللهِ، مِتراسُ النجاةْ/ والقدسُ مغتسلٌ(3).. شرابٌ ‏باردٌ/ فاضربْ بِرِجلِكَ أيُّها المُضَريُّ،/ وامتشق الحياة!).‏

 

‏***‏

 

مكان الألفة في قصيدة عطاف جانم هو مكان الواقع، وهو بحسب "باشلار" المكان "الذي ‏مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا... الصورة التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت ‏الطفولة"(4)، الذي يُعدُّ "أحد أبرز المكوِّنات اللاشعورية الثانوية في عقل الشاعر، بوصفه ‏المكان الأثير لدى النفس"(5). فحين يرتبط المكان بالواقع يرتقي بالحس الشاعري ليتأنسن، ‏ويتحوّل لفضاء فيه من صنيع الإبداع أكثر ممّا فيه من صنيع الواقع، وليصير للأسئلة من ثَمّ ‏أنينُ موجوعٍ يدري حقيقة ما فيه، لكنه يصرخ باللاأدري، تلك التي ولّدتها فلسفة السابقين، أو ‏يترك أسئلة ما حلّ بغمامة مشرعة على أبواب الزمن الحاضر:‏

 

‏(ما الذي سدَّ شبابيكَ غمامةْ؟!/ ما الذي شجّ شبابيكَ غمامةْ؟!/ وسبى لونَ الفراشاتِ/ ‏خلايا النحلِ/ بوحَ الكهرمانْ؟!).‏

 

تلك هي لحظة الكشف، وذاك هو قصد اللحظة الشعرية التي تلتقط ما آلت إليه المدينة من تغيُّر ‏الحال، فما عادت شبابيكها مفتوحة على غيم الأفق، بل شُجّت شبابيكها، وسُبي لون الفراشات ‏وخلايا النحل وبوح الكهرمان، سُلب الجمال والبراءة والصفو.‏

 

فغمامة تلك المدينة الشامخة العالية المتعالية إلا على غيمة الشعر/ الحلم/ كانت الغيوم تنساب ‏عبر شبابيك بيوتها، بل تصير بعضًا من تلك البيوت:‏

 

‏(بعضُ هذا الغيمِ طِفلٌ عابثٌ/ يقفزُ ما بينَ الشبابيكِ.. يغني/ ينقرُ الدفَّ../ فيجري خلفَهُ ‏بعضُ الصِّغارْ/ بعضُ هذا الغيمِ بنتٌ للمكانْ/ تغسلُ الأطباقَ../ تغلي قهوةَ السمّارِ../ أو/ ‏تحملُ (فنجانًا) لِنَجمٍ يتمشّى في الجِوارْ).‏

 

أية غيمة هذه التي ألقى وحيُها للشاعرة بكل هذه التفاصيل الشجية؟ أيّ سحر هذا الذي ألقته ‏إليها فبعثرت مكوّنات المكان وجعلت نهاره ليلًا وليله نهارًا!! فما بين غمامة والغيم تتكثّف ‏الدلالات النابعة لا من التماثل الصوتي اللغوي حسب، بل ومن ارتقاء كليهما في أعلى ‏فضاءات، بما يوحي بتناغم عجيب التقطه حسّ الشاعرة:‏

 

‏(كانت الكسرةُ لحنًا في غمامةْ/ والقوافي.. مِهرَجانْ!).‏

 

لتجعل من لحظة عبور الغيم شبابيكَ غمامة لحظة توحُّد وألفة أسهم في خلقها بعدُ المسافة بين ‏داني الأرض وقربها من السماء، هنالك إذ يصير للبياض وغائميّة الرؤية وضوحُ الرؤيا ‏وكشفُها لما وراء المشهد في زمن ماض:‏

 

‏(...كانت الغيمةُ إنسيًّا وجنيًّا/ نهارًا في الدجى/ ليلًا بهيًّا في النّهارْ/ كانت الغيماتُ أسرارًا ‏وأنهارًا/ حقولًا تجمعُ العشّاقَ في عرسٍ جماعيٍّ/ يداري عوْزَهم عِقدُ الخُزامى/ أو/ زهورُ ‏البيلسانْ).‏

 

جماليات المكان في غمامة لا تتأتّى من لغة واصفة، بقدر ما تنثال عبر جملة من الأفعال: ‏تغسل، تغلي، تحمل، تجمع... التي تتالى وتتداعى لتنتج دلالات استشرافية ترى إلى الواقع بعين ‏الحالم، إذ تتكثف دلالات المكان كما يتكثف غيم غمامة، حاملًا أسرارها وأنهارها وحقولَ ‏عشاقها، إذ يسدّون عوزهم المادي من عقود خزاماها وزهر بيلسانها، ولعلَّ تلك هي رؤية ‏الشعر حين تستبدل المادة بالمعنى فترتقي بالحس الإنساني ليداري برومانسيّة التعبير خشونة ‏الواقع وبؤسه. ‏

 

‏***‏

 

يرتقي المكان في شعر عطاف جانم نحو المقدّس، ونحو الحلم، فحين يرتبط المكان بالوطن ‏يصير مكان احتماء، الاحتماء بمكان الحلم، ذاك الذي تشكله اللغة ليكون بديلًا ضد ما يتخلّق ‏في داخلها من مشاعر الفقد والاغتراب والغياب، وضد الخراب وما تشهده البلاد من تشويه ‏ناجم عن نزاعات السياسة وتفرُّق الأقوام. فيتشكل المكان لديها بأثر مما يجري في الواقع من ‏أحداث، في مستويين؛ خاص هو نتاج تجربة حياتيّة عاثت فيها غربة تقول إنها: ‏

 

‏(بدأَتْ مثلَ دُعابةْ/ وانتهت بي كَخرابةْ!).‏

 

وتقول:‏

 

‏(أو مرَّ بي هذا الزمانْ!/ بين المحاضرِ(6).. ناطحاتِ الغيمِ../ أسرابِ المَحارْ/ إذْ كلما ‏ومضتْ بماءِ الروحِ قافيةٌ/ وأشعلتِ الكيانْ/ عانقتُها نارًا لنارٍ).‏

 

ومستوى عام يستمد جماليّاتِه من طبيعة الحدث وموقعه في روح إنساني تواق للمكان البعيد، ‏المكان الغائب عيانيًّا، لكنه حاضر بقوة في الوجدان والذاكرة، وما يلبث أن يحضر سافرًا مع ‏كل حدث تشهده أو تسمع عنه، فتتجه بوصلة وعيها وقصيدتها لهناك، حيث وطن الشهادة ‏والإجازة (إجازة الشعر)، الذي تأمَّلَت عطاف بعض حاله ووضعته بين يديّ (درّة الشهداء) ‏الشاعر عبدالرحيم عمر الذي رأت في قصيدة له نعيًا للمسجد الأقصى قبل احتلاله بثلاثين ‏عامًا، فتخاطبه قائلة:‏

 

‏(يا درّةَ الشعراءِ والأمراءِ/ هذا المسجدُ الأقصى ينوءُ بِنَعْشِهِ/ لمْ يبقَ في فمهِ ثنايا/ ‏والقوارضُ فوقَ قُبَّتِه الشهيّةِ والبهيّةِ،/ رفرفتْ راياتُها/ بيدِ البَغايَا/ بُتِرَتْ نواشِرُهُ(7) ‏وأُلقِمَتِ الحريقْ/ وبنو العمومةِ بعدما هانوا على الخِدْرِ العتيقْ/ ضلَّتْ حِرابُهُمُ الطريقْ!/ أو ‏لاعَنوا(8) حُسن الجوارْ؟/ فاهتمّ(9) فجرٌّ.. واستدارْ).‏

 

‏***‏

 

تستحضر عطاف جانم الماضي عبر صور انتقائيّة تفعل فعلها في إثارة الحنين وتثوير ‏المشاعر الوطنية، ليكون للمكان دلالات أخرى غير كونه حاضنًا للذكرى، بل مجدِّدًا لها عبر ‏فاعلية تجلّت باستدعاء رموز حاملة لدلالات الزمان والمكان تتمثل بالشخصيات التاريخية ‏والوطنية والدينية، بما يكشف عن نزوع شعري يحرِّكه فكر ديني وانتماء روحي، بل تشبُّث ‏بكل ما له صلة بمكان الألفة المُفتقد، البيت المُشتهى، وأرض الأجداد وتلك السماء الحانية ‏المتدانية المردِّدة لصدى ابتهال عاشقة سرق العابرون حلمها كما سرقوا المعنى من كل مكان ‏مرّوا به:‏

 

‏(كيف كان العابرون/ كلّمَا مرّوا بحَارَة./ سرَقوا من فَمِهَا المَعنى/ ظلالَ الحرفِ/ قُفطانَ ‏الحضارةْ!!).‏

 

يعمل الرَّمز على كشف موقف الشاعرة من الحدث الواقعي، وكشف رؤاها في هذا الواقع، من ‏منظور يؤكد عدم انفصال المكان عن الزمان في اللحظة الحاضرة التي يتكثف فيها الوعي ‏على عمق مأساة الواقع الحاضر، ما يشكل حافزًا لخلخلة رتابة هذا الزمن باستحضار الماضي ‏بقصدية إقامة مواجهة صادمة للروح الفردي والجمعي على السواء، عبر استعادة رموز ‏محمَّلة بإيحاءات بالمشترك الرابط بين حاضر الأمة وماضيها، سواء أكان هذا المشترك فعل ‏إيجاب أو سلب للصفة: ‏

 

‏(يا الذي زجَّ/ بقابيلَ وغذّى نسغَهُ../ بالعتمةِ الشوهاءِ/ والطينِ/ ونَفطٍ للحوارْ/ يا الذي ‏يرقصُ حولَ النارِ/ مَنْ/ أطلقَ فأرَ السدِّ في مأربَ؟).‏

 

ففي الاستعادة هنا تحريض على التمثُّل بدلالات ما يحمل الرمز، حال كونه غائبًا في صفته ‏وفاعليّته في واقعٍ دامٍ، أو دعوة لرفض تمثله بما يحمل من سلبيّة، كي لا تتكرَّر التجربة ‏وتتَّسع وتتعمّق مأساة هذا الواقع، وهو ما فعلته عطاف في استدعائها لرمزيّة قابيل وفأر السدّ ‏والملك الضّليل والبردة المهداة:‏

 

‏(تحتَ الشَمسِ عِقبانٌ تُناغي الملكَ الضلّيلَ/ تُغويهِ/ فيا لَلْبردةِ المهداةِ(10)/ يسري سُمّها ‏في الجسدِ الراشحِ/ بالشعرِ وبالخمرِ/ يداري نشوةً مختنقةْ/ وبماذا تحلم المؤتَفكةْ/ أَنياشينُ ‏وعهرٌ في غمامةْ/ فوقَ ظلّ الغيمةِ/ المحترقةْ؟!).‏

 

فهي تترك للمتلقّي أن يتتبَّع الرموز ويلتقط ما ينطوي خلفها من دلالات يمكنه ربطها بالواقع، ‏ويوظف مفهومه لها في إعادة بناء مفهومه الخاص، ومراجعة علاقته بالمكان بما فيه من ‏عناصر بشرية وأحداث قلبت الحال في هذه المدينة، وغيرها مما يعمل على ربط الماضي ‏بالحاضر من خلال ما تلقيه من إضاءات وإشارات، كاستحضار البردة المسمومة التي أهديت ‏للملك الضّليل امرئ القيس من ملك الروم حين أمدّه بجيش ليأخذ بثأر أبيه وقد استنجد امرُؤ ‏القيس بهم، وهو استحضار يستنطق الماضي ويعمل على تعميق رؤية الشاعرة للواقع، كما ‏يكشف عن ارتباطاتها الوجدانية بمكانها الأول الذي بات بعيدًا، لكنه يبرز هنا من خلال ما ‏يتكثّف طيّ القصيدة من دلالات التحفيز نحو فعل لا ينخدع بظاهر إغواء الغرباء حين نستنجد ‏بهم لاستعادة حق مستلب.‏

 

إنَّ ربط الرموز التراثيّة بالحدث الحاضر يعمل على تعميق مأساته، ويبرز مدى شعور المبدع ‏ومعايشته لمآسي مجتمعه وفواجعه، فمؤتة المدينة مكان الحاضر الذي وقفت الشاعرة على ‏تخومه يومًا لتقرأ صورتها:‏

 

‏(طبقٌ من حكايا على رأسِها/ أمْ/ براعمُ من فضةٍ/ ووضوءْ!/ إذ تمرُّ بِعُكازةِ الصمتِ فينا/ ‏فتمشي إليها المُنى/ والدروبْ/ والسلالُ التي عَلِقتْ رُسْغَـها/ هل تفيضُ كما يشتهي صفوةُ ‏العاشقين/ بوردِ الكلامْ/ وبماذا تُسِرُّ الصبيّةُ للنسمةِ الواقفةْ!).‏

 

هذه المدينة هي ذاتها المكان الذي رأت فيه الحاضن لبذور التغيير، حيث "ميشع" ملك مؤاب ‏الذي هزم أحاب ملك اليهود وقتله، وحيث "جنان" أول شهيدة كركيّة في معركة حطين:‏

 

‏(يا لَميشعَ(11) يَنزِع أسماله الأبديةَ.. يحرث غاباتِ أرواحِنا../ يقلعُ العشبَ المتآكلَ.. ينثرُ ‏قربَ الحياةِ حبوبَ اللقاحْ/ يا ذئابَ الحلازينِ، كلُّ طريقٍ تقودُ إلى القوقعةْ/ فالرّغاليُّ(12) ‏يحرقُ راياتِه البائدةْ/ وجنانُ(13).. تعودُ ندى.. ورذاذًا ليرموكِها/ في نشيدِ الصباحْ).‏

 

فالمكان في ذاكرة الشعر هنا محمَّل بروح توّاق لميشع جديد يقتل أو يطرد اليهودي المستعمر ‏من وطنها فلسطين التي تحتضن كل يوم دماء جنان وأخواتها يروين ترابها. فالمكان هنا، ‏مؤتة، يحيل إلى الماضي كيما يبعث حاضرًا جديدًا، يرنو إلى ما يرنو له الإنسان من بعث ‏جديد يُعيد إليه ما افتقد، كما يُحيل إلى شخصية وإلى حدث تاريخي، إحالة تثير وعي المتلقي ‏نحو إعادة بناء حدث واقعي يحقق للأمة انتصارًا مماثلًا لذاك الذي شهده المكان/ مؤتة في ‏زمنٍ ماضٍ:‏

 

‏(قربَ مربطِ آمالِنا/ خيمةُ العائذينَ ببابكِ/ فلْتوقِظي شهداءَكِ مؤتةَ/ ولتنحني يا رياحْ).‏

 

وبذلك يرتسم المكان في القصيدة وفق ما يمليه موقفها الفكري والشعري، بما يشكل دافعًا ‏لاستذكار مكان الطفولة، والإمعان في تفاصيل مكان الاغتراب، كما يحيل إلى تعدُّد دلالي ‏يجعل مشاعر الألفة تعيد انتظام حلقاته لغويًا، فتلتئم دلالات الأمكنة كلها في مركز الارتباط ‏الوجداني والحضاري والديني، حيث فينيق وإرث النبوات،

 

‏(نسغُه.. ريقي و(دَمِّي)/ نسلُه.. سرُّ المحارةْ/ ..../ يا فنيقياتِ عكا/ في جنيني/ كلُّ أشواقِ ‏أبِيْهِ/ ويداهُ/ نبضُه.. يا كَرْكَراتِ الحقلِ لـمّـا/ هَودَجُ الماءِ تجلّى/ ولهُ من جدِّه الأوَّلِ/ عيناهُ.. ‏ورؤياهُ.. وكوفيّتُهُ/ إرثُ النبواتِ لهُ).‏

 

‏***‏

 

مكان الغربة عند عطاف جانم هو مكان الوحدة والشعور بالحرمان الذي يشكل مبعثًا لذكريات ‏غافية في أعماق طبقات النفس، حيث هنالك تكمن العلاقة الحقيقية بالمكان الأثير، أو المكان ‏الأكثر أثرًا في تكوين إنساني بات بالغ الهشاشة تتنازعه تفاصيل واقع حافل بالانكسارات، ‏وتفاصيل حلم واع بما ينبغي أن تكون عليه تلك التفاصيل، خارج الحرمان من حضن الأمومة ‏الراسخ في لا وعي الذات الشاعرة، ومن ثم يغدو الانفتاح على الأمكنة، الخارجية منها ‏والداخلية المكتنّة في الفكر والوجدان، ليس مجرد تنويع فني تتخلّق القصيدة من بين جنباته، بل ‏ضرورة إنسانية تصير فيها القصيدة فضاء لاحتواء هذا التنازع بين الأمكنة، بما لها من ‏ارتباطات وعلاقات وتفاعلات نفسية ووجدانية قارّة في العمق، وتظل خارج النسيان أو ‏الغياب، بل تزداد فاعليتها كلما أوغل الشاعر في المكان النقيض:‏

 

‏(ما أبعدَ المدينة السَّبيَّة المقدّسة/ ما أقربَ اليمن!).‏

 

وفي ذلك ما يجعل حضور مكان الحلم والهوية أشبه بصدمة تقطع انسياب اللحظة الحاضرة ‏بما يشبه ومضة باهرة الضوء وكاشفة:‏

 

‏(هنا.. آخرُ الشهقاتِ/ فلا جبلًا تعتليهِ/ ولا الغردقُ المشتهى في الضفافْ/ وفجرًا.. سيغتسلُ ‏البحرُ منكَ/ وتُولمُ تلكَ الهوامُ العِجافْ/ تعالَ.. كما كُنْت/ وكُن لِي يَمينًا إِذا مَا الْتَوَيْت/ وَرُدَّ ‏سِهَامَ أَخِي وَرَفِيقِي/ تعالَ/ وهبْ لي عيونيَ/ كُنْ لِي طَرِيقي/ لِسِجَّادةٍ قُربَ شَوقِ البُراق/ ‏لِزيتونةٍ عندَ بابِ العَمود/ هناكَ.. أحُطّ حَنِينِي../ أُطيلُ السُّجوْد..).‏

 

تعمل عطاف جانم على عقد مقاربة بين زمنين، ماض وحاضر، يجمع بينهما حال فيه من ‏التشابه والتماثل في المعاني المستترة الكامنة خلف الحدث وفعل الشخوص، وكل ما صاغته ‏رؤية شاعرة تقرأ الحاضر في ضوء الماضي، كما تعيد قراءة الماضي كيما تقول الحاضر ‏وعيًا بما يمكن أن تصير إليه مآلات الإنسان العربي، وحنينًا للذات في صفوها، للمكان في ‏تفاصيله اليومية دون غصة ولا عثرات تحول دون انسيابها هينًا، ما يجعل المكان لديها مكانًا ‏شعريًّا، لا فيزيائيًّا، يستمدُّ معالمه ممّا يحدثه في داخلها من تفاعل بأثر لحظة تأملية أو موقف ‏ما أو حدث يستثير فيها كوامن الحنين أو الغضب أو العتب، وهو ما نجده في قصيدة "ترابها ‏يا نور" التي تكشف مدى تفاعل الشاعرة وتأثرها بزيارة الشاعر نور عامر قدم من عكا في ‏زيارة لرابطة الكتاب الأردنيين في عمّان لأول مرة، وقد استغرب إذ سألته الشاعرة أن ‏يحضر لها في زيارة قادمة حفنة من تراب عكا، فقالت:‏

 

‏(ترابُها يا نور/ يفِرُّ من أصابعِ التقشيرِ والتعليبْ/ من../ ثقافةِ الجلادْ/ يفرُّ من.. تناحرِ ‏الأحبابْ/ يفرُّ من صهيلِنِا الخجولِ، من/ سكونِنِا الهجينْ/ ..../ ..../ ذرّاتُهُ، هذا الترابُ../ ‏جدودُنا/ ونكاد نسمع بوح أصداء السما/ لمَّا النجوم أَتت تغني بيننا/ يا ميجنا.. ويا ميجنا/ ‏ويا ميجنا).‏

 

والتراب بوصفه أحد عناصر الكون "يشكل موضوعًا خصبًا لمخيلة الشعراء، لما يتضمن من ‏طاقة توليدية تجعله قاسمًا مشتركًا للمعاني الكيانية الكبرى في الحياة، وللجمال الشامخ في ‏الوجود"(14)، وهو في قصيدة عطاف جانم، إرث الجدود ومغناتهم التي يتردد صداها في ‏سماء تغني نجومها الـ.. يا ميجنا. ‏

 

يتسم المكان في شعر عطاف جانم بالتحوُّل وفق الحالة الشعورية التي تعبِّر عنها، ويستمد ‏سماته مما تتَّسم به حالتها الوجدانية النفسية، فرحًا أو حزنًا أو غضبًا أو أو عتبًا... فيرتبط ‏بالحالة الشعورية، وبمجريات الواقع السياسي والاجتماعي إلى جانب محتوى الذاكرة لدى ‏الذات الشاعرة بما تمثله من زمنية خاصة وعامة في الآن نفسه.‏

 

تكشف قصائد "مدار الفراشات" عن تعلّق بالمكان في شتى اتجاهاته وطبيعته، سواء المكان ‏السليب الذي لا تني تستحضره مع كل حضور لأي مكان غيره، أو مكان السكنى الذي لا ‏تغيب تفاصيله الصغيرة، بل تحضر بشكل صارخ في أوقات الإجازة، عبر مواجهة تستبدل ‏تفاصيل هذا المكان بتفاصيل ممّا تفتقده في مكان الاغتراب لإبراز خصوصية مكان الألفة ‏الأول، ففي يوم الإجازة في (ليوا) يتولّد حنين ليوم الإجازة في إربد، هو في حقيقته حنين ‏للذات في صفوها، للمكان في انسياب تفاصيله اليومية:‏

 

‏(أغصانُ نداءِ الصلواتِ/ باردةً تصلُنا/ بعد أن جردَتها من ثمارِها أسنانُ المسافات/ هنا.. لا ‏تهبُّ رياحُ الطوابينِ البعيدةِ/ ولا تتراقصُ صحونُ الـحُمُّص/ وبخورُ الفلافلِ المُشتَهى/ فوقَ ‏أيدي الصِبْيَة/ في شارعِ الثلاثين/ والطرقاتِ الرافلةِ بالحياة..).‏

 

على ما تحمل هذه التفاصيل من دهشة تحويل العادي في المكان إلى غير العادي، عبر ‏صياغة تنقله إلى حيِّز الشعر بسلاسة تثير التأمل والتفكير النقدي في وظيفة القصيدة الحديثة ‏وما باتت تحتمله من لغة اليومي التي أبرزت من جماليات المكان ما خضع لاعتياد غالبًا ما ‏يؤدي إلى أن تبهت صورته أو تغيب عن اللحظة الحاضرة. ‏

 

كما يلفت القارئ ما تحمله من موقف إيجابي تجاه المكان عامة، فسرعان ما تشتبك بعلاقة ‏لاواعية مع المكان، أساسها الألفة وتجاوز المسافة الزمنية والجغرافية، ليصبح جزءًا من ‏تجربة وجدانية تستمد خصوصيتها من عمق إحساسها بالمكان، وقدرتها على أنسنته وتنفسه ‏وعيش لحظاته الخاصة. يتجلّى ذلك في تصويرها، لا أقول للمكان، بل لعلاقتها به، كمكان ‏الاغتراب الذي بدت فيه مندغمة متلمِّسة لجماليّاته، على الرغم من ارتفاع نبرات الشوق ‏والحنين لمكان الإقامة أو لمكان الانتماء الروحي/ مكان الحلم/ الوطن السليب. ‏

 

فكان لكل مكان لديها جماليّاته، التي أظهرت من خلالها وعيًا متميزًا للذات الشاعرة بالمكان، ‏وعيًا يجاوز ما يظهر من تفاصيل المكان، ليخلق من تلك التفاصيل حالة من التماهي أتاحت ‏لها هذه القدرة على المقاربة بين الأمكنة مقاربة شعورية يتصاعد فيها بشكل سلس وتدريجي ‏لا شعوري الحس الإنساني بشكل يعمل على تغييب مكان اللحظة الحاضرة لصالح حضور ‏راسخ للمكان الحامل للقيم وللمواقف الخاصة التي تشكلت لديها بوحي ممّا تمليه انتماءاتها ‏الوطنية والدينية والعروبية. ‏

 

ويبقى أن أقول، إنه على الرّغم من أنَّ شعر عطاف جانم شعر زماني شأن الشعر عامة، غير ‏أنَّ للمكان فيه سطوة ظاهرة جعلت منه فنًّا زمكانيًّا، وهو ما أشار إليه الدكتور يوسف بكار في ‏تقديمه للديوان، ذلك أنَّ النقلات الزمانية في كثير من قصائد الديوان ارتبطت بنقلات مكانية، ‏وإن تكن ذهنية، لكنها جاءت مشحونة بدفقات شعورية منحت المكان المتخلّق من عمق الذاكرة ‏والوجدان نبضًا وحياة ضاجّة بالمحمولات في سياقاتها الواقعية والنفسية والاجتماعية ‏والتاريخية.‏

 

 

 

الهوامش

 

‏(1)‏ إبراهيم تمرموسي، ذاكرة المكان وتجلياتها في الشعر الفلسطيني المعاصر، عالم الفكر، مج35، ع4، 2007، 68.‏

 

‏(2)‏ لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفني، تر: سيزا قاسم، مجلة ألف، الصادرة عن الجامعة الإمريكية بالقاهرة، ع6، ‏‏1986، ص83.‏

 

‏(3)‏ مغتسل: إشارة إلى قصة أيّوب عليه السلام "فاضرب برجلك هذا مغتسل بارد ‏وشراب".‏

 

‏(4)‏ غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط5، 2000، ص6.‏

 

‏(5)‏ قاده عقاق، دلالة المدينة في الخطاب الشعري المعاصر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص310.‏

 

‏(6)‏ المحاضر: تجمعات سكانية في مناطق متباعدة تميزت بها ليوا العاصمة القديمة لأبو ظبي في المنطقة الغربية من ‏الإمارات.‏

 

‏(7)‏ نواشره: مفرد ناشر وهو أحد الأوردة في باطن الذراع.‏

 

‏(8)‏ لاعَنوا: من المُلاعنة بين الرجل وزوجه.‏

 

‏(9)‏ اهتم: من الهم.‏

 

‏(10)‏ البردة المهداة: تلك البردة المسمومة التي أهديت للملك الضليل امرئ القيس من ملك الروم حين أمدّه بجيش ليأخذ ‏بثأر أبيه وقد استنجد امرُؤ القيس بهم.‏

 

‏(11)‏ ميشع: ملك مؤاب الذي هزم أحاب ملك اليهود وقتله (875-835 ق.م.).‏

 

‏(12)‏ أبو رغال وهو من دلّ أبرهة الأشرم على مكة في عام الفيل.‏

 

‏(13)‏ جنان: كركية كنانية، أول شهيدة في معركة حطين.‏

 

‏(14)‏ أسيمة درويش، تحرير المعنى، دراسة نقدية في ديوان أدونيس "الكتاب1"، دار الآداب، بيروت، 1997، ‏ص85.‏