د. زياد أبولبن
ناقد وأديب أردني
ما يميِّزُ المجموعة القصصيّة "جنازة المومياء" للقاص والرِّوائي الأردني "حسام الرشيد"، الصادرة عن وزارة الثقافة في عمّان للعام 2019، اتكاؤها على الموروث الشعبي، حيث ينهل المؤلف من الحكاية الشعبيّة المسرودة على ألسنة العامة من الناس فتغدو مصدرًا غنيًّا لقصصه، ومن ناحية أخرى فإنَّ الناظم لخيط قصص المجموعة كلّها هو نقد الواقع، ومحاولة التمرُّد عليه، عبر مفارقات تستدعي الدَّهشة.
يَرى "جيرار جينت" أنَّ الحكاية تدلّ على سلسلة الأحداث الحقيقيّة أو التخييليّة، وأظنّ أنّ "حسام الرشيد" قد مزج بين الحقيقي والمتخيَّل، واستطاع أن يقدّم قصصًا ذات نكهة خاصة في شخوصها وأمكنتها وأزمنتها، فكانت شخوص قصص "جنازة المومياء" هامشيّة على أطراف عبثيّة الحياة، ومحرِّكًا فاعلًا في تثوير الأحداث، ومتمرِّدة على نفسها قبل أن تكون متمرِّدة على واقعها، وكذلك جعل "حسام" من المكان بطلًا رديفًا للبطل الآدميّ أو الإنسانيّ، ومن الزَّمان فضاءً منفتحًا على تفاصيل صغيرة، وكان السرد الحكائي مبعثًا على تعدُّد زوايا النَّظر.
تُشغل قصص "حسام الرشيد" حيِّزًا واسعًا في الأدب الساخر، الفكاهيّة المضحكة، وتعبِّر عن الصراع الاجتماعي، من خلال الشخصيّات الهزليّة الكوميديّة الساخرة، بصور كاريكاتيريّة ضاحكة، ينتقد فيها الظواهر السلبيّة في المجتمع، بلغة تتناسب والشخصيّات الهامشيّة، وهي تشكّل أبرز ملامح قصصه، فهو يصنع المفارقة صناعة، ويجعل منها لحظة قابلة لإدهاش المتلقي أو القارئ، كما هو في قصة "موتى بلا قبور"، التي تلتقي خيوطها بخيوط قصة "دومة ودّ حامد"، للرِّوائي والقاص الطيب صالح، حيث يقوم بناء قصة "موتى بلا قبور" على فكرة تهديد موجَّه من شيخ الجامع في خطبة الجمعة إلى المجلس البلدي، فالمجلس البلدي يقرِّر استملاك الجزء الغربي من المقبرة القديمة في البلدة أو القرية لبناء متنزَّه، كما هو بناء قصة "دومة ودّ حامد" على تهديد أهل القرية للحكومة التي قرَّرت قطع "الدومة" التي دفن في ظلّها رجل صالح له من الكرامات ما له، وإلى إقامة مشروع زراعي، باعتبار أنَّ ما يفعله المجلس البلدي وما تفعله الحكومة مخالفًا لمعتقدات أهل القريتين، وفيه مساس بكرامة الموتى، لكنَّ المجلس البلدي يُنَفّذ قراره، وتبدأ أسنان الجرّافة بالعمل، وما إن لبثت الجرّافة في إخراج (رانا) حجري، حتى هبّ أهل القرية كلّ يحمل فأسًا للبحث عن الدَّفائن، وقد نسوا موتاهم، و"تدحرجت عظام الموتى على الأرض، وغدت قبورهم أثرًا بعد عين". فالجشع وتغليب المنفعة الشخصيّة صورة جليّة في القصتين، وكذلك سطوة رجال الدين في المجتمع، فكلّ فكرة تقوم عليها كل قصة لا يعني هذا التطابق الموضوعي في الحكاية، بل كلّ قاص يتّخذ من الحكاية الشعبيّة منهلًا في سرد حكائي مختلف.
يتَّخذ "حسام الرشيد" من المفارقة الدراميّة مبنىً لكلّ حكايات قصصه، ففي قصة "الكمين" تدور الحكاية حول حُلم رآه "الحاج مرضي" في منامه لا يفكّ شيفراته إلا شيخ الجامع، فيشير عليه بطلاق إحدى زوجتيه، وهنا ينقدح زناد فعل الزوجتين عن مؤامرة على شيخ الجامع، وبالحيلة التي لا تتأتّى إلا لشخوص بديع الزمان في مقاماته، تنتصر الزوجتان على قهر "الحاج مرضي"، ويفرّ شيخ الجامع إلى غير رجعة، وهكذا تفوز النسوة برحيله عن القرية، فهو فوز للمرأة المسكونة بذكوريّة الرجل الشرقي، وبلاهة الرجل في الوقوع في شرك النساء، كما هي الحال في قصة "الصبّار الحلو"، فتبرز صورة المرأة سليطة اللسان، التي لم تترك أحدًا من أهل القرية يمرّ من أمام بيتها إلا ووقع في شَرَك لسانها. كان شيخ الحارة الملقب بالثعلب العجوز يتوعَّدها ويهدِّدها بالطرد من الحارة، فوقفت له بالمرصاد، واصطنعت حيلة للانتقام منه، بعدما وَشَت إحدى الجارات بأسرار شيخ الحارة، فقد انكشف سرّ الشيخ، وعرفت سليطة اللسان أنَّ الشيخ وعلى الرغم من زواجه من عدد من النساء وطلاقه منهنّ، إلا أنه لم يرزق بولد، فقصدت بيته ذات يوم، والتقت بآخر زوجاته، وانطلت الحيلة عليها، فقشرة من الصبّار منقوعة بالخلّ، مفتاح سرّ الشيخ، ودسّه بالطعام هو سرّ الحياة الزوجيّة، ولم يطُل انتظار سليطة اللسان بخبر "طلاق آخر زوجاته، وعدم قدرته على الكلام، حتى تمنّى لو يقصّ لسانه حتى تبرحه آلامه الموجعة".
تنطوي الحكايتان على سخرية من الواقع، ونقد لاذع بصورة الضحك والاستهزاء، بعيدًا عن المُبالغة في التصوير الفني، بل تنزاح أحداث القصتين إلى سرد حكائي مفارق للموقف أو السياق الذي ينشغل فيه السرد الحكائي.
ولا تختلف الحال في قصة "الوليمة الحمراء" عن القصص السابقة عليها في المجموعة، إلا أنَّ القاص يجعل من عجائز المضافة سخرية لأهل القرية، فقد عزموا الأمر على إثبات قوّتهم، ودحض وَهَم عجزهم بعدما بلغوا من العمر عتيًّا، فتربّصوا لثعلب ماكر يسطو على مواشي القرية ويفتك بها، وما بين صحو وإغفاءة انقضّوا على عدوّهم، فما كان ذاك العدوّ إلا غنيمتهم.
هنا تحدث المفارقة الساخرة على وقع هزيمتهم أمام نصرٍ ظنّوا به أمرًا لإثبات عزم قوّتهم، ونجد في السرد الحكائي للقصة غنىً باذخًا من المفردات اللغويّة، التي تتَّسم بلغة فرديّة بطوليّة، تقوم على وصف شعري رفيع المستوى، ينزاح بدلالاته لإخـراج الكـلام علـى خـلاف مقتضـى الظـاهر، بضـرورة اتِّحـاد اللفـظ والمعـنى كما يراه عبدالقاهر الجرجاني، فجاءت الألفاظ دون تزايد في المعنى، فاستطاع القاص "حسام الرشيد" أن يمتلـك القـدرة علـى تشـكيل اللفظة جماليًّا بعيدًا عن المبالغة، وقريبًا من وَقْعِ المكان/ القرية.
إنَّ قصة "امرأة الشرفة" وقصة "الزفاف" وقصة "الديناصور يتلو آخر اعترافاته" وقصة "الصعود إلى معراج السماء" تتَّخذ من الحيّ المسكون بهاجس المدينة مكانًا، خلافًا لبقيّة قصص المجموعة التي تتَّخذ شخوصها من القرية مكانًا تتحرّك من خلاله، فقصة "امرأة الشرفة" تدور حول حكاية الرجل الستيني المثقف ومعشوقته الخمسينية الجالسة على شرفتها، فيهيم بها، ويشغل صحبه بعشقه، ويكتب لها رسالة، ويُلقي بالورقة أمامها على الشرفة، فلم تأبه بأمرها، فيتملّكه الحزن، ويظن أنها امرأة عابثة، ليكتشف في نهاية الحكاية أنَّ تلك المرأة عمياء تقودها الخادمة، وهذه (اللقطة) تتكرَّر في الأفلام السينمائية الرومانسية، وقد اعتمد القاص على لحظة المفاجأة في نهاية القصة، والتي لم تغب عن قارئ مثقف، لكن تبقى لغة السرد المشحونة بالعواطف هي سمة القصة، والمفارقة الساخرة بطابعها الكوميدي تبعث على الحياة في القصة، وعلى الرغم من تكرار الفكرة التي بُنيت عليها أحداث القصة، كما هي قصة "الزفاف" التي تجعل من أحلام كبار السن في الزواج من امرأة حُلم الشباب، وتقوم المفارقة الدراميّة حول شخصيّة المنسي الذي يسخر من صديقه العجوز المقدم على الزواج من أرملة، إذ به يفكِّر في الزواج بعد أن بلغ السبعين من العمر، وفجأة يختفي ويتغيَّب عن جلسات أصدقائه المعتادة، ممّا أوقعه في تندُّرهم عليه، ثم سعوا لزيارته، ففوجئوا بسرداق ضخم في نهاية الزقاق، فقدَّموا واجب العزاء. أمّا قصة "الديناصور يتلو آخر اعترافاته" فتكشف عن مفارقة محمولة على فعل طريف في شخصية العجوز، الذي يوهم زوجته وأبناءه برسائل تهديد موجّهة إليه من مجهول الهويّة، لكن تلك الرسائل ما هي إلا من العجوز نفسه، ولعلّ الشعور بالفراغ العاطفي عند كبار السن يدفعهم لتلمُّس عاطفة الآخرين، فالقاص يقدِّم للقارئ نماذج من شخصيّات قصصه طاعنة في العمر، وفي جميع قصص المجموعة، وكأنَّ تلك الشخصيات ما هي إلا شخصيات خرفة أو تصنع الخرافة في المجتمع، وتفتقد لمعنى الحياة.
والمفارقة في قصص (امرأة الشرفة، والزفاف، والديناصور يتلو آخر اعترافاته) تقوم على كسر أفق التوقُّع عند القارئ، وتشحذ الذاكرة لنهاية مأساوية غير متوقعة في شخصية المنسي وشخصية الستيني العاشق وشخصية رجل الأمن المتقاعد، فقد استطاع القاص أن يكشف عن البُعد النفسي لشخصيات القصص الثلاث، وهذا القول ينسحب على باقي قصص المجموعة، فهي شخصيات مأزومة تبحث عن الخلاص من سوداوية الواقع، وتتمرَّد عليه في لحظة يظنّ القارئ أنها عاجزة عن خلاصها، فمحمولات القصص تنزاح إلى عالم مشتبك مع ذاته، وعالم هامشي مسكون بتفاصيله الصغيرة.
إذا كان عنوان المجموعة "جنازة المومياء" عتبة كبرى، ويشكِّل العنوان خطابًا مستقلًا لا بنية نصيّة، فإنَّ فهم العنوان باعتباره عتبة كبرى يفضي لعتبة أو لعتبات صغرى يساعدنا على فهم الدلالة للوصول إلى المدلول، فعنوان المجموعة ما هو إلا دال على قصة من بين عدد من القصص التي تحمل هذا العنوان، فهو عنوان مفارق لقصص المجموعة، وإن كان يحمل في دلالته ما يحمله، وهذا ما تكشف عنه قصة "جنازة المومياء"، التي تقوم في بنائها على العجائبي أو الغرائبي في أحداثها، بل تسعى إلى أسطرة الواقع، فإذا كان السرد الغرائبي والسرد العجائبي لا يعبّران عن قطيعة مع الواقع أو مغادرته، كما يراه النقد الحديث، فإنَّ "حسام الرشيد" أقام قصته على حدث مفارق للواقع، وهو أشبه بالخرافة المتداولة بالموروث الشعبي، تلك المرأة العجوز التي تكثر حولها الروايات أو الحكايات الخرافيّة وتشكِّل مصدرًا للشرّ لدى أهل الحارة، وتبعث على موت لكلّ مَن يقترب منها أو من بيتها، كما حدث لمختار الحارة وشيخها وفتوّتها، وفي نهاية القصة تتمرّد الشجاعة في قلوب رجال الحارة على خوفهم المسكون بحكايات الجن والعفاريت في جسد المرأة العجوز المومياء، ويندفعون داخل بيتها، وتكون المفاجأة أنهم لم يعثروا عليها.
يثير القاص في "جنازة المومياء" الدهشة والحيرة لدى القارئ، ويعمّق الأثر النفسي في كسر قوى الطبيعة للواقع المُعاش، ويصنع من تفسير الظواهر الغريبة عالمًا خاصًا، قد ينحو إلى أسطرة الواقع بما يحمله في لحظة المفارقة الدالة على فعل جماعي متمرِّد على نفسه وعلى المجتمع.
في قصة "حمار بجناحين" ثمّة وهم يسكن الرجل العجوز، وخيالات لا تفارقه عندما رأى حمارًا بجناحين يطير من بين أشجار البستان، ليتبيَّن في نهاية القصة أنَّ الحمار ما هو إلا عباءة جارته العجوز، ويستعيد الرجل العجوز أمجاد شبابه أمام عجزه الذي ينزع إلى شِجاره المستمر مع زوجته، فهي قصة تأخذ من الحكاية طُرفة خفيفة تنبني على سرديّة بلغة تصويريّة يتخللها الوصف والحوار، في حركة متوازنة بين السرد والحوار والوصف، معتمدًا على تحفيز خيال القارئ، كما هو الصراع في قصة "بساط الأحلام" بين ذاك الرجل والشيطان، فيتداخل الحلم مع الواقع أو الواقع مع الحلم، ويسقط الرجل في مكيدة الشيطان، وهو استعادة لسقوط آدم في فعل الغواية.
وهنا تبرز للقارئ قدرة القاص على السرد الحكائي ليخرج الحالة الشعوريّة إلى التناصيّة، وهذا ما تحقَّق فعله بصورة جليّة في قصة "الصعود إلى معراج السماء" وإن كانت ثيمتها تختلف عن قصص المجموعة كلّها، فأحداثها تدور حول تخليد ذكرى شهداء معركة الكرامة، ويتلقّى الصحفي؛ الشخصية الرئيسة، رسالة مجهولة من جندي مجهول سطّر فيها لحظات بطولية خاضها في المعركة مع رفاقه، وجاء في نهاية الرسالة "في ذكرى المعركة الخالدة، ألتقيك عند نصب الجندي المجهول"، هناك التقى الصحفي بشاب في مقتبل العشرين من عمره، ودار حوار قصير بينهما، ثم "مضي الشاب إلى الشاهد الرخامي لنصب الجندي المجهول، حيث نقش اسمه على لائحة الشهداء الأبرار، ثم مضى صاعدًا إلى معراج السماء"، وفي نهاية القصة وكأنَّ الصحفي وقع أسير الحلم عندما اختفى الجندي ولم يعثر الصحفي في جيبه على الرِّسالة. كُتبت الرِّسالة بأسلوب سردي جميل، وبلغة مشحونة بالعواطف، واتَّكأ القاص على لحظة المفاجأة أو الإدهاش أو على مفارقة كسرت التوقُّع لدى القارئ، وتنهل من الموروث الديني ما يستدعي شخصيات القصة.
يبقى القول إنّ قصص المجموعة، هي قصص يسكنها عالم القرية كمكان تتحرَّك فيه الشخوص، وهي شخصيّات هامشيّة تأخذ حكاياتها ثيمة واحدة من الأدب الساخر الفكاهي، على خلاف قصة "امرأة الشرفة" وقصة "الزفاف" وقصة "الديناصور يتلو آخر اعترافاته" وقصة "الصعود إلى معراج السماء"، فهي قصص تنتمي لعالم المدينة كمحرِّك للمكان، وشخوصها من طبقات اجتماعيّة متوسطة، تنشغل في علاقاتها الاجتماعيّة، وفي البحث عن عالم جديد يملأ فراغ كبار السن بكوميديا سوداء، والناظم لخيط قصص المجموعة كلّها هو نقد الواقع، ومحاولة التمرُّد عليه.