"من زاويةٍ أنثى": ‏ ديمقراطيّة الرِّواية وتعدُّد الأصوات

 د. حكمت النوايسة

 

ناقد أردني وباحث في التراث غير المادي

 

 

 

 

 

 

 

بالاستناد إلى بناء رواية "من زاوية أنثى" نجد توزيع الرُّؤية قد جاء متماسكًا، ‏فهناك "الرُّؤية من الخلف"، و"الرُّؤية المصاحبة"، و"الرُّؤية من الخارج"، ‏ومع أنّ السارد يتخفَّف من "الرُّؤية من الخلف" باللجوء إلى "السّيريّ" من ‏خلال المدوّنة الشخصيّة، إلا أنّ "الرُّؤية من الخلف" كانت مسيطرة، ولكنها ‏في الوقت نفسه عملت على تعميق التماسك الروائي.‏

 

 

 

يبدو هذا العنوان غريبًا بعد قراءة رواية "من زاويةٍ أنثى" للروائي محمد ‏حسن العمري، ولكن المفتاح الذي أطمئنَّ إليه، أنّ الضمير المتكلّم في الرواية ‏يقف أمام جمهوره، ويكلّمهم؛ ففي غير مفصل من مفاصل الرواية التي ‏جاءت على شكل مدوّنات إلكترونيّة، كأنها صفحات الفيس بوك، أو ‏الصفحات الرسميّة لأصحابها في الشبكة العنكبوتيّة، وغيرها، ظهر الراوي ‏كالذي (يفتح الرُّؤوس ويعرف ما فيها) وفق تعبير النقّاد الروس، وما عبّر ‏عنه بالرُّؤية؛ الرُّؤية من الخلف، الرُّؤية المصاحبة، الرُّؤية من الخارج، حيث ‏يعرف الراوي في الرُّؤية من الخلف أكثر من الشخصيّة، ويعرف الراوي في ‏الرُّؤية المصاحبة بمقدار معرفة الشخصيّة، وأمّا الرُّؤية من الخارج، فإنّ ‏الراوي يعرف فيها أقل من الشخصيّة، وهذه الحالة هي الحالة الديمقراطيّة ‏التي تجعل الرواية فنًّا ديمقراطيًّا، وتجعل الشخصيات تظهر على مسرح ‏النص، ولا يستبين القارئ الخيط الذي يحرّك فيه الراوي الضمني/ المؤلف ‏معرفة الشخصيات.‏

 

تبدأ الرواية بالرُّؤية من الخلف، البؤرة صفر، من قرية "تلّ البراغيث" التي ‏أصبحت "تلّ الورد" فيما بعد، عندما أصبح ابنها "ظافر" وزيرًا وغيَّر اسمها، ‏وتبدأ أيضًا بعتبتين، الأولى تشكّل إهداءً، والثانية تشكل مرسومًا ليدخل القارئ ‏فيه الرواية، في العام 1970، حيث عائلة "محمود" التي أغرق السيل خرافها ‏ونجا الطفل "ظافر" من فم ضبع عندما التقطه "أبو علي" وأعاده إلى أمه، ‏وعائلة "أبي علي" شريك "محمود" في التجارة، وصديقه في الحياة، وتحكي ‏الرواية بعض أحداث أيلول، والعلاقة بين الفدائيين والمدنيين، وبعض ‏التقاطعات التي لم تخضع لقوانين الحرب المفروضة بين الطرفين كإسعاف ‏الفدائي "أبي ليلى"، وإصرار "أبي علي" على غسله والصلاة عليه على الرغم ‏من كونه مسيحيًّا، وغيره من الأمور التي تنظر لتلك الأحداث من زاوية ‏محايدة، سواء أكان من الرواة، أم من قراءة الراوي للتفاصيل في وثائق ‏الأحداث، ويضعنا الراوي في محطة مؤلمة وهو يقرأ أسماء المشاركين في ‏تلك الحرب، وقد كانوا من المشاركين في معركة الكرامة، سواء أكانوا من ‏الجيش العربي، أم من الفدائيين من منظمة "فتح".‏

 

من تلك الأجواء يخرج "ظافر" و"عليّ" صديقين، يتميّز "علي" بالذكاء ‏العلمي، ويتميّز "ظافر" بالذكاء الاجتماعي، يدرس "ظافر" القانون في ‏الجامعة الأردنية منحة لأنَّ أباه كان عسكريًّا متقاعدًا، وأحد جرحى معركة ‏العام 48، ورافقه جرحه عرجةً في رجله إلى أن مات.‏

 

وفي الجامعة سطع نجم "ظافر" الذي تعاون مع مؤسسات الجامعة، وحاز ‏رضاها في مواجهة موجات الاحتجاج التي أعقبت هبّة نيسان، في العام ‏‏1989، والتحوُّل الديمقراطي الذي نشأ في الأردن، ومن هناك ارتقى إلى أن ‏وصل إلى مرتبة وزير دولة في إحدى الوزارات.‏

 

مدوّنة "ظافر": بين البؤرة الخارجيّة والبؤرة الداخليّة

 

تنتقل الرواية في إطار واضح بعنوان واضح إلى حديث "ظافر"، هكذا: ‏المدوّنة الشخصيّة، "ظافر محمود". ولكنّنا نقرأ في الهامش أنّ هذه المدوّنة ‏نُشرت بموافقة صاحبها، وهنا ينقلها من ديمقراطية الخطاب إلى ديمقراطية ‏الوثيقة، كما ينقلنا الهامش من وهميّة السّرد والتخييل الروائي إلى الإيهام ‏الوثائقي، فضلًا عمّا نجده في هذه (المدوّنة) من حيلة سردية تتعلّق بالرُّؤية، ‏ذلك أنّ "ظافر" أراد أن يضيء شيئًا من شخصيّته أثناء طفولته، فعثر على ‏هذا الشيء عند مدير المدرسة الذي زاره في مكتبه طلبًا للمساعدة في توظيف ‏ابنه، فطلب منه "ظافر" أن يحدّثه عن طفولته في المدرسة، فيتحدّث المدير، ‏ونجد جزءًا من المدوّنة/ السيرة على لسان المدير(ص40).‏

 

ونعثر في هذه المدوّنة على حدث له أهميّة في تكوين شخصيّة ظافر فيما بعد، ‏وهو علاقته بالدكتور (عبدالحميد القلب) الذي يعدّه نموذجًا لأستاذ الجامعة ‏السّيّئ؛ فهذا الأستاذ ميّال إلى النساء، وجهوي، أو (عنصري) يضع العلامة ‏وفق ذلك، وعندما يطلب منه "ظافر" في سنته الأولى تأجيل الاختبار يكون ‏ردّه ردًّا غير متوقَّع، ويصف مجتمع "ظافر" كلّه بعدم الأحقيّة في دراسة ‏القانون، وأنّ هذا المجتمع ليس له إلّا الفلاحة والزراعة، وأنّ للقانون أهله ‏إلخ، وهنا نحن أمام السرد الذاتي، والرُّؤية من الخلف، إذا عددنا "ظافر" ‏راويًا ثانيًا، فهو يروي ما حدث معه في مقابلة الدكتور "القلب"(ص47)، أو ‏‏"الكلب" كما يسمّيه، وإذ يتخفَّف السارد من الرُّؤية من الخلف، ويحتال ‏بالسّيريّ من خلال المدوّنة الشخصيّة، فإننا أمام رؤية ناقصة، إذ لم نسمع من ‏الدكتور "القلب" شيئًا عمّا وصفه به "ظافر" على مساحة النص، وهذا من ‏إشكالات السيرة الروائية في مجال الرُّؤية، حيث تنتقل الرواية من كونها فنًّا ‏ديمقراطيًّا، يسمح للشخصيات بالظهور على مسرح النص إلى المناخ الانتقائي ‏الذي يسمح لبعض الشخصيات بالظهور دون الأخرى، وهو ما يجرّ القارئ ‏إلى التعاطف مع الشخصيّة الساردة، دون أن يُعطى المجال لسماع/ قراءة ‏وجهة نظر الشخصيّة الأخرى، ونحن هنا نتعاطف مع طالب الجامعة الطامح ‏النَّشط، ولا نتعاطف مع أستاذ الجامعة لأنَّنا لم نسمع منه إلا نقلًا، وربّما ‏نتعاطف معه فيما بعد عندما جاء "القلب" إلى مكتب "ظافر" بعد أن أصبح ‏وزيرًا، جاءه مقدِّمًا طلبًا ليصبح خبيرًا دوليًّا، فكانت المقابلة الانتقاميّة التي ‏قابله بها ظافر، ومات بعدها بسكتة قلبيّة.‏

 

وفي مدوّنة "ظافر" نجد الرُّؤية من الخلف عندما يكون الحديث عن "سعديّة"، ‏الحبيبة والزوجة فيما بعد، فهو بين الاعترافات، والحديث الجوّاني، والسرد ‏الموضوعي، والسرد الذاتي، وهذا ديدن السرد السيرذاتي، إذ لا تسيطر رؤية ‏محدَّدة، وإنَّما تتعدَّد الرُّؤى بين الرُّؤية من الخلف، والرُّؤية المصاحبة، ‏والرُّؤية من الخارج عندما ينقل عن "سعديّة"، أو يضعنا في أجواء الحوار ‏كما في الصفحة 69، والحديث عن ابنهما "محمود" المُصاب بالتوحّد.‏

 

وفي زواجه الثاني من "هيام" كان السرد مصطبغًا بالنمط السيرذاتي، ولم نجد ‏لـِ"هيام" صوتًا بقدر ما وجدناه لـِ"سعديّة" في هذه المدوّنة.‏

 

صوت المؤلّف والتخطيب التبويبيّ

 

والتخطيب هنا تخطيب تبويبيّ، يأتي في أبواب الفصول، أو بعض أبوابها، ‏ومن هذا ما جاء في الصفحة 85، إذ يختار من قصيدة امرئ القيس ‏المشهورة (بكى صاحبي) وقصيدة قطريّ بن الفجاءة (أقول لها) محدِّثًا نفسه، ‏ثم يختار من آراء "روسّو" رأيًا انتقائيًّا حول شعور الشخص عندما يتعرَّض ‏للازدراء، وما يترتَّب على هذا الشعور في سلوكه فيما بعد. وربما يكون ما ‏يجمع هذه الاختيارات هو الطموح، وما يتطلّبه الطموح من مغامرة، وقوّة.‏

 

ثمّ تأتي حيلة روائيّة أخرى، هي ورقة مكتوبة محفوظة لدى "أم ظافر"، كان ‏قد كتبها "أبو ظافر"، قبل مماته، يشرح بها إصابته في حرب الـ(48)، ‏ويوصي "ظافر" باستخراج الرصاصة من ساقه ووضعها مزيّنة في بيته.‏

 

يبدأ الفصل الثاني بعنوان جذّاب: "سعديّة... جاذبيّة المرأة والروح ‏والسموّ"(ص90)، وقد جاء هذا الفصل مبوّبًا بأرقام، حيث بدأ بالحديث ‏و(الرُّؤية من الخلف) عن "سعديّة"، ووفاة والدها "سيد عبدالرحمن" وقد ‏دهسته شاحنة، وتعرُّضها للظلم بإقناعها بالتنازل عن حق لم تفهمه ليعود ‏السائق الذي دهس أباها إلى بيته في اليوم نفسه. ثمّ انتقال "سعديّة" للعيش مع ‏عائلة المحامي "سفيان الخطيب" صديق والدها، ونسمع صوتًا ربّما للمؤلف، ‏أو الراوي الضمني، يتحدّث عن الطفولة، وعن موت الآباء، وعن الحياة، ‏وهذا مرتبط بالتخطيب الذي جاء في مدخل الفصل، فهو حديث مليء بالشجن ‏والإنسانية والشاعرية(ص99).‏

 

الوقفة الوصفيّة: الوقفة الحرّة والوقفة المُؤدلَجة

 

تُعدُّ الوقفات الوصفيّة من أساليب التوريط الجمالي، للتعاطف أو اللاتعاطف ‏مع الشخصيّة أو الحدث، ومن الرواية نقتبس هذه الوقفة: "سمراء جميلة ‏ترتدي أجمل التنانير القصيرة دونها كولونات شفّافة تتَّخذ لون بشرتها ‏الداكنة... تكشف فتنتها بجسد يجمع بين اللاعبات القويّات"(102)، ونحن هنا ‏نغادر، لا شعوريًّا، مضامير البحث عن الرُّؤية، لأنّنا أمام وقفة وصفيّة ‏تورّطنا بالتعاطف الجمالي مع (شكل) "سعديّة" بعد أن نتساءل:هذا كلام مَن؟ ‏والوقفة الوصفيّة عادة تكون محايدة، تترك الأشياء تتحدّث عن ذاتها، ويوقف ‏القارئ القراءة، أو يعلّقها ليتبيّن الجمال أو عدمه، وتصبح غير محايدة عندما ‏يتسلّل منها صوت (الواصف)، وعينه.‏

 

ومن خلال الرُّؤية من الخلف نتعرَّف على شخصيّة "سعديّة"، وتكوّنها ‏المساند للفقراء، وانتمائها السياسي، ومشاركتها في حملة النائبة الشركسية ‏المعارضة توجان فيصل...إلخ، وتعرّفها إلى "ظافر محمود"، وزواجهما ‏وهما طالبان، كما نعرف قصّة والدتها اليمنيّة من خلال أحد جرحى الحرب ‏اليمنيّة في العام 1994؛ إذ جاء للأردن للعلاج، حيث كان هذا الجريح ‏خالها، وأخذ يسأل عنها إلى أن اهتدى بأن زارته في المشفى، وأخبرها بوفاة ‏والدتها "إيلاف".‏

 

وننتقل إلى الجزء الثاني من هذا الفصل إلى مدوّنة "سيف الخطيب"، ابن ‏المحامي "سفيان الخطيب"، وهذه المدوّنة كُتبت باللغة الإنجليزية، وتُرجمت ‏في هامش الرواية، ولا أجد أيّ مسوّغ لكتابتها باللغة الإنجليزية، إلا محاولة ‏الإيهام السردي، أي أنها منقولة عن مدوّنة لمدوِّن يعيش في لندن، ويكتب ‏باللغة الإنجليزية، ويبدو لي هذا المسوّغ ضعيفًا، إلا إذا وجدت له مسوّغًا ‏آخر، خاصّة وأن المدوّنة مترجمة في الهامش.‏

 

في هذه المدوّنة يعرِّف "سيف" بنفسه وعائلته، وأصل تسمية الخطيب، ‏وحياته في لندن، وعلاقته الخاصة بسعديّة التي تعدُّ أقرب المقرّبين إليه، ‏ووجهة نظره بـِ"ظافر محمود"، فنرى في هذه المدوّنة رأيًا آخر بـِ"ظافر"، قد ‏يوافق رأي "سعديّة" بعد عِشرةٍ معه.‏

 

في الحزء الثالث من هذا الفصل نقف مع مدوّنة "سعديّة موسى"، وفيها ‏حديث عن "ظافر"، وما وفَّرته له من ظروف تساعده في السير في طريقه ‏التي ارتضاها لنفسه، على الرغم من موقفها المعارض للحكومة، وانتمائها ‏لحزب يساري، ونقرأ عن كبحها لـِ"ظافر" من الانتقام من "عبدالحميد القلب"، ‏وترى أنَّ نهاية هذا الأستاذ كانت على يد زوجها "ظافر" عندما طرده من ‏مكتبه وأهانه وأصيب بعدها بسكتة وهو يغادر مكتب "ظافر".‏

 

وتأتي القصّة هنا منقولة بلسان سعديّة، ولسنا أمام شخصيّة لنعرف مدى ‏معرفتها، وإنّما أمام حدث، وهذا الحدث هو ما تمّ في مكتب "ظافر" مع ‏‏"عبدالحميد"، وتفاصيل تلك المقابلة الدقيقة، ولا بدّ أن تكون "سعديّة" قد بنت ‏القصّة من تكرار "ظافر" لها، ونحن هنا أمام راوٍ ثانٍ للحدث.‏

 

تتواصل المدوّنة بطبيعة الحياة مع "ظافر" حتى قراره الزواج، والارتباط ‏بـِ"هيام"، وهنا تصبح العلاقة علاقة أخرى، ولكنها ليست ككل علاقة بين أي ‏امرأة ورجل يريد أن يتزوج عليها، وإنّما علاقة امرأة قويّة أدارت صراعها ‏إدارة قويّة، حكيمة.‏

 

وعلى الرغم من هذه القوّة والحكمة، فإننا نقف على مشهديّة إنسانيّة رائعة ‏تديرها، وتنقل أحداثها "سعديّة" في حديث جوّاني، ورؤية مصاحبة، حيث ‏تتأمَّل ملابسه، وترتِّبها بتؤدة، وتعيد ترتيبها، بقلب ويد عاشقة، وحديث قلب ‏جريح... مع هذا تدير، فيما بعد، علاقة ودٍّ مع "هيام" التي ستصاب ‏بالسرطان وتموت به.‏

 

وتطلّ علينا حكمة "سعديّة" عندما تصف زواج "ظافر" من "هيام": "لم ‏يخدعني، ولا أحسبه خدع هيام، رجل لا يعرف المخادعة، يذهب إلى هدفه ‏دون أن يحسب عواقبه..."(145).‏

 

وفي المدوّنة نقرأ عن مرض التوحّد ما يصحح الأخطاء الشائعة عنه، وهو ما ‏يضعنا في أجواء انشغالات "سعديّة" الخاصة تجاه ابنها المصاب بالتوحّد.‏

 

كما نجد "بوست" آخر عن "حنة آرندت" اليهودية المناوئة للدولة العبرية، ‏وتختار من كلامها ما تجد فيه عزاء لها، أو توصيفًا لعلاقتها بـِ"ظافر"، ‏وتنقل عنها: "المعاناة من الخطأ أهون بكثير من ارتكاب الخطأ؛ لأنّ المظلوم ‏ممكن أن يكون صديقًا للشخص الذي أوقع عليه الظلم، أو لأيّ أحد في هذا ‏العالم، ولكن الظالم لا يجد مَن يصادقه"(146).‏

 

عودة إلى الإيهام بالوثيقة: وثيقة قادمة من القبر

 

في استدخال غرائبي، تأتي وثيقة كتبها "سيد عبدالرحمن" من قبره، وفيها ‏يعرّف بنفسه، وأبيه، وزوجته "إيلاف"، وحرب اليمن، قبل توحيدها، وابنته ‏سعديّة، وعلاقته بالمحامي "سفيان الخطيب" ووصيّته له بـ"سعديّة". وتأتي ‏الوثيقة حيلة سرديّة للتعريف بـ"سيد عبدالرحمن" الذي لا يعرف التدوين/ ‏الزمن/ الإلكتروني، والعجائبي هنا أن تكون هذه الوثيقة في مكتب ابنته ‏‏"سعديّة"/ المحامية(ص147)، والمهم هنا الربط بين أمنيته في العودة إلى ‏الحياة للحفاظ على "سعديّة"، والإشارة إلى الخدش الذي في جبينها، وهو ‏خدش أحدثه "ظافر" الطفل الذي أتى به أبوه ليعالجه الشيخ من عدم النُّطق في ‏جبين الطفلة "سعديّة" التي أتى بها أبوها ليعالجها الشيخ من مرض ما، ولا ‏يعرف أحدهما أنَّ الأيام ستجعل ذلك الطفل يتزوّج تلك الطفلة، كما أنّهما لا ‏يعرفان الآن سبب ذلك الخدش، وتنتهي الرواية دون أن يعرف أيّ منهما ‏سببه، ولكنّ الرمزيّة في هذا الخدش تكمن في أنّ مَن يساعد "سعديّة" بإزالته ‏هي "هيام"، ضرّة "سعديّة" التي تدلّها على طبيب ماهر يزيل الخدش الذي ‏كان يشكّل هلالًا في جبينها.‏

 

الفصل الثالث: "هيام"‏

 

يخصّص هذا الفصل لـ"هيام"، الزوجة الثانية لـ"ظافر"، وهنا تسيطر الرُّؤية ‏من الخلف، ونعرف عن "تلّ الورد"، وعائلة "أبي علي"، وأولاده الأربعة، ‏ثلاثة شباب وفتاة/ هيام التي تصبح طبيبة، ويصبح الشباب مهندسَيْن ومعلّم ‏رياضيات متفوّق، ويتزوّج الشابان "محمد" و"محمود" ابنتي الدكتور سفيان ‏المغترب في لندن، "سارا" و"زارا"، وتكون الوساطة في التعارف "سعديّة".‏

 

أمّا "علي" المتفوق بالرياضيات فيتّهم بالانتماء لخليّة إرهابيّة ويحكم بالإعدام، ‏ويُفرج عنه عندما تثبت براءته.‏

 

تتزوّج "هيام" من ابن بلدتها "ظافر"، الذي تولّى الدفاع عن أخيها محاميًا، ‏واستطاع إثبات براءته، وإذا كان هذا الفصل مقدّمًا بالرُّؤية من الخلف، فإنّه ‏لم يخلُ من (التخطيب الروائي) عندما يتساءل السارد عن سرّ زواج "هيام" ‏من "ظافر"، ويقترح السبب: "ذلك من غرائز الجسد ونزوات القلوب.. هذه ‏القلوب الراجفة تحت سياط الحب والرغبة والغرائز"(ص170)، كما سنرى ‏الراوي العليم الذي يفتح الرؤوس "كان في عالم مختلف.. كان غارقًا في ‏شفتيها وهي تتكلم دون أن تعي شيئًا"(171).‏

 

الجزء الثاني من الفصل الثالث للأستاذ "علي"، وقد جاء بصوت "عليّ"، أي ‏الرُّؤية السيرذاتيّة، المصاحبة، هو الراوي والشخصيّة معًا، وفي المدوّنة ‏نرى وجهة نظره في المعتقل، وأثره في نفسه، ومحاولته الانتحار، وبعض ‏الأخبار عن العائلة، ونرى تذييلًا هامشيًّا عن آراء ابن تيمية التي يضعها ‏‏"علي" في سياقها التاريخي، وينتقد مَن يحاول السكن في الماضي، ومغادرة ‏الحاضر والمستقبل معًا(195).‏

 

حيلة سرديّة أخرى نجدها، مَن الراوي؟ أو المؤلف لهذه الرواية؟ وهو بما ‏يسمّى الرواية داخل الرواية، ونجد أنَّ المؤلف هو غير الاسم المكتوب على ‏غلاف الرواية، وإنما هو لباحثة أردنيّة مهتمّة بتوثيق التراث ‏الأردني...(ص198).‏

 

الجزء الثالث من هذا الفصل هو مدوّنة الدكتور "إلياس"، و"إلياس" هو ‏الطبيب المختص بالأورام السرطانية، وهو الذي تقدّم لخطبة "هيام"، ولكنها ‏رفضته، فاستمرّ على رفض الزواج، ويأتي القدر على يديه بأن يستأصل ‏ثديي هيام المصابين بالسرطان، فنجده بين المتشفّي، والطبيب الوفي لقسمه ‏الطبي.‏

 

الجزء الرابع من هذا الفصل هو (مدوّنة الدكتورة هيام أبوعلي)، وهو مدوّنة ‏مكتوبة بضمير المتكلم، وبالبؤرة الداخليّة، والرُّؤية المصاحبة، وفيها نجد ‏أن المدوّنة قد كتبت في غرفة العمليات، أثناء تلقيها العلاج من مرض ‏السرطان، ونجد تداعي الذكريات، وانكشاف الذات على ما يؤلمها من فعل ‏قامت به، هو زواجها من "ظافر"، وطعنها لزوجته "سعديّة" التي لا تستحق ‏هذه الطعنة، ثم الانفتاح على الذات بأسئلة تحاول بها الإجابة عمّا قامت به، ‏ونرى ارتفاع اللغة الشعريّة عندما تصف بدايات العلاقة التي توطّدت بينهما ‏قبل الزواج، ثمّ قرارهما بالزواج، وفي هذه المدوّنة نجد أجلى وجوه عنوان ‏الرواية، مِن زاوية أنثى، ففي المدوّنة الحوار الجوّاني الذي تديره "هيام" ‏باقتدار، وبلغة شاعرة، وانكشاف وكشف عن الأفكار، وتداعيها، والشعور ‏بالندم، قبل الزواج لا بعده، وتيار الحب الجارف الذي قادها إلى ذلك الزواج، ‏ووصفها لـ"سعديّة" واعترافها بقوّة "سعديّة" وطغيان شخصيتها، وإنسانيتها ‏أيضًا. لغة "هيام" في مدوّنتها لغة شاعرة لا لغة طبيبة، وهو ما يذكرنا أنها ‏كتبت ديوانًا من الشعر بداية حياتها الطبية، ثم غضّت الطرف عن المسير في ‏طريق الكتابة إلى أن جاءت هذه اللحظة التي يكون فيها الإنسان أمام ذاته، ‏وتكون فيها الكتابة الرفيقة الجميلة التي يستطيع بها الإنسان أن يفلت روحه ‏تحلّق مخفّفة من أوزارها.‏

 

التبويب الختامي أو العتبات النهائيّة

 

هنا تأتي الرُّؤية البصريّة منقولة بعين الكاميرا، ولكنّها بالضرورة رؤية من ‏الخلف، نظرًا لانتقائيتها، وما تمثله من معان:‏

 

مركز الهيام الطبي....‏

 

مركز الظافر... للإيجار‏

 

مرشحتكم للتغيير سعديّة موسى

 

ويذكِّرنا هذا التبويب الختامي بالقطع السينمائي، ولكنّه يجعلنا نعيد ترتيب ‏القراءة التي أنهيناها ونتأمّل ما آلت إليه الشخصيات، ويذكِّرنا أيضًا بأنَّ ‏الشخصيات الرئيسة الفاعلة في هذا العمل الروائي هي هيام، وظافر، ‏وسعديّة.‏

 

ثم نهاية الرواية باسم الراوي الذي يدوّن اسم المؤلف صراحة (محمد العمري) ‏ويخالف ما ورد في أثناء النص من أنّ ابنة الباحث الأردني الشهير في ‏التراث هي التي كتبتها.‏

 

ومِن تتبُّع الرُّؤية في الرواية نجد مفاصل الرُّؤية من الخلف، التي يعرف فيها ‏الراوي أكثر من الشخصيّة قد تكرّرت ثماني مرات، وتكرّرت الرُّؤية ‏المصاحبة، التي تكون فيها معرفة الراوي مساوية لمعرفة الشخصيّة ست ‏مرات، بينما تكرَّرت الرؤية من الداخل، التي تعرف فيها الشخصيّة أكثر من ‏الراوي مرّة واحدة، وتكرَّر النموذج السير ذاتي مرتين، وتكرَّر وجود الراوي ‏العليم مرتين، وتكرَّر التخطيب الروائي مرتين، وتكرَّرت الوقفة الوصفيّة ‏مرتين.‏

 

وبالاستناد إلى لغة الأرقام، فإنّنا نجد سيطرة للرؤية من الخلف، ولكن ‏بالاستناد إلى بناء الرواية نجد توزيع الرُّؤية قد جاء متماسكًا، إذا ما عرفنا أنّ ‏الرُّؤية من الخلف المسيطرة قد جاءت لتعميق هذا التماسك الروائي، فيما ‏جاءت الرُّؤية المصاحبة لإتاحة الفرصة لظهور الشخصيات بأصواتها على ‏مسرح الرواية، وكذا النموذج السير ذاتي، والظهور الوحيد لنموذج الرُّؤية من ‏الخارج، أو من الخارج مسوّغ في مثل هذه الرواية التجريبيّة، التي حاولت أن ‏تزاوج بين انتمائها لزمنها، وانجذاب أحداثها لزمن فائت.‏