د. إيهاب محمد زاهر
مدرِّس في قسم التاريخ/ الجامعة الأردنيّة
لسانُ الدين بن الخطيب علّامة موسوعيّ، من كتبه "الإحاطة في أخبار غرناطة" و"اللمحة البدريّة في الدولة النصريّة" و"نفاضة الجراب في علالة الاغتراب". اتَّسم منهجه التاريخي بملامح عديدة، منها الدقة والموضوعيّة، ويُلاحَظ وصفه للحياة الاجتماعيّة، وتركيزه على الوصف الجغرافي للأماكن التي يتحدَّث عنها، واحترامه التسلسل الزمني، وحرصه على ذكر مصادر معلوماته.
يُمْكِنُ تتبُّع أبرز عناصر المنهج التاريخي للسان الدين بن الخطيب بتتبُّع كتاباته؛ لنجلي أهم ملامح هذا المنهج، وقد استطعنا أن نتوصَّل من خلال ما كتب بالملاحظات التالية:
"التاريخ فـنٌ غايته نقل الأخبار، والفن التاريخي مأرب البشر ووسيلة النشر، يعرفون به أنسابهم في ذلك شرعًا وطبعًا ما فيه، ويكتسبون به عقل التجربة في حال السكون والرّفيه، ويرى العاقل من تصريف قدرة الله تعالى ما يشرح صدره بالإيمان ويشفيه...".
وهكذا، فالتاريخ معرفة الماضي للإفادة منها في رؤية الحاضر.
والتاريخ لدى ابن الخطيب ليس مجرَّد نقل للأحداث السياسيّة وسِيَر الملوك والسلاطين، بل هو تصوير للحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والعمرانيّة بما تشمله هذه الحياة من رقيّ وازدهار، أو تخلُّف وتدهور. وهو في ذلك يتابع التفاصيل الدقيقة للموضوع الذي يتحدَّث عنه.
يتحدَّث في الرحلة الأندلسيّة "خطرة الطيف" عن مشهد استقبال السلطان من قِبَل سكان إحدى المناطق في وادي فرذش، فيقول:
"واستقبلتنا البلدة حرسها الله- نادى بأهل المدينة، موعدكم يوم الزينة، فسمحت الحجال برباتها والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها والمنازل بدورها، فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب، وتدافع البدور بالصدور، بيضًا كأسراب الحمام...".
ثم يقول: "واختلط النساء بالرجال، والتقى أرباب الحجا بربّات الجمال... فلم نفرِّق بين السلاح والعيون الملاح، ولا بين البنود حمر الخدود...".
ويلاحَظ هنا دقة ابن الخطيب، كما يلاحَظ وصفه للحياة الاجتماعيّة التي يظهر فيها النساء والرجال. كما يشير في مكان آخر إلى وجود رعايا مسيحيّين في مملكة غرناطة خرجوا لاستقبال السلطان وهم يتمتّعون بكامل حقوقهم.
ويركِّز ابن الخطيب على الوصف الجغرافي للأماكن التي يتحدَّث عنها، ويجعل هذا الوصف مدخلًا لبحثه التاريخي. وهذا ما فعله في حديثه عن غرناطة في مقدمة كتابه "الإحاطة" وكذلك في كتابه "نفاضة الجراب" حينما يصف الأماكن التي زارها. ومن ذلك حديثه عن مدينة أغمات في كتاب "نفاضة الجراب" حيث يقول:
"ثم أتينا مدينة أغمات في بسيط سهل موطأ لا نشز فيه، ينال جميعه السّقي الرّغد، وسورها محمر الترب، مندمل الخندق، يخترقها واديان اثنان من ذوب الثلج، منيعة البناء، مسجدها عتيق عادي، كبير الساحة، ومئذنته لا نظير لها في معمور الأرض...".
ويحترم ابن الخطيب التسلسل الزمني بدقة وموضوعيّة، شأن المؤرخين المحترمين، فهو يستعرض الدول ونشوءها وسقوطها استعراضًا تاريخيًّا دقيقًا، ولا يقرب دولة لشرفها أو مكانتها كالأدارسة مثلًا. وقد فعل سواه ذلك تقرُّبًا لسلاطين عصرهم.
ويدأب ابن الخطيب على ذكر مصادر معلوماته، ويحرص على ذكر المؤرخين السابقين باحترام. وقد أورد من الأسماء ما يشير إلى سعة اطِّلاع وعُمق معرفته. فهو يذكر في مقدمة "الإحاطة" الكتب التي اطَّلع عليها كتواريخ للمدن أراد أن ينافسها في كتابه "الإحاطة"؛ ومن ذلك على سبيل المثال: "تاريخ بخارى" لأبي عبدالله الفخار، و"تاريخ أصبهان" لصاحب الحلية، و"تاريخ همذان" لغنا خسرو الديلمي، و"تاريخ الرقّة" للقشيري، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر، و"تاريخ الإسكندرية" لوجيه الدين الشافعي، و"تاريخ مكة" للأزرقي...
إنَّ ذِكْرَ هذه الأسماء دليلٌ على سعة المعرفة، وأمانة النَّقل، واحترام الرَّأي الآخر.
كذلك، حرص ابن الخطيب على الاستعانة بالمعلومات من مصادرها القريبة. ومن ذلك طلبه من صديقه سفير قشتالة يوسف بن وقارق معلومات عن تاريخ الممالك النصرانيّة: قشتالة وأراغون والبرتغال، وذلك لتكون معلوماته موثّقة ومستندة إلى مراجعها.
ويُلاحَظ اعتماده على مشاهداته من النُّقوش والكتابات على العمائر والأضرحة والمنشآت المختلفة، وتوثيق تلك النُّقوش والكتابات والإفادة منها في مادته التاريخية.
وتبدو أخلاقيّته العالية في منهجه التاريخي، وصدقه وموضوعيّته؛ ومثال ذلك رسالته التي نصح فيها الملك القشتالي "بدرو القاسي"، وقد أوردها المستشرقون الإسبان كشاهد على أخلاقيّة ابن الخطيب. وقد أورد الحادثة المؤرِّخ الإسباني المعاصر "دي إيالا". ووصفها المؤرخ "جاريباي" بأنها قيم أخلاقيّة جاءت من هذا المسلم ابن الخطيب، وهي تفوق في قيمها ما كتبه "سينكا" وغيره من فلاسفة الرواقيين الأقدمين.
ومزج ابن الخطيب بين التاريخ والجغرافية والرحلات في إطار من النثر الفني الرشيق والبليغ، بحيث جاءت كتاباته التاريخيّة يغلب عليها الطابع الأدبي والسَّجع اللطيف.
هذه الملاحظات هي أهمّ ما يميِّز المنهج التاريخي لابن الخطيب، وهي ميزات تستدعي في الذاكرة مؤرِّخَيْن آخريْن؛ أحدهما من القرن الرابع الهجري هو مسكويه، والآخر معاصر لابن الخطيب وهو شيخ المؤرِّخين العرب ابن خلدون.