د. أحمد عودة الله الشقيرات
كاتب أردني
الأسلوب هو الطريقة التي يختارها الأديب ليجمع بها العناصر الفنيّة الأخرى ويرتِّبها على نحو يسهم معه كل عنصر في بناء الجمال الفني، وقد أضحت الأسلوبيّة بفضل الكثير من الملاحظات المتراكمة علمًا خاصًا بدراسة جماليّات الشعر والنثر، لكنَّها لم تبلغ بعد حدًّا يجعلها تشكِّل نظريّة نقديّة شاملة لكل أبعاد الظاهرة الأدبيّة، إذ إنَّ النقد الأسلوبي لم يستوفِ كل جوانب العمل الأدبي.
يَرى د.إبراهيم عبدالجواد أنَّ الدراسات الأسلوبيّة مبثوثة -في الغالب- في بطون الدوريّات العربيّة والعالميّة، ولكنه يقرّ بأنّ هذ الحكم لا ينسحب على كل المراجع التي كانت بين يديه، فهناك -كما يقول- دراسات غنيّة في موضوع الأسلوبيّة واتِّجاهاتها، مثل دراسة د.عبدالسلام المسْدي "الأسلوبيّة والأسلوب نحو بديل ألسني في النقد الأدبي" متسائلًا: هل يتسنّى للأسلوبيّة أن تحلّ محلّ النقد الأدبي؟
• ما الأسلوب؟
لغةً: جاء في لسان العرب لابن منظور: يُقال للسطر من النخيل أسلوب، وكل طريق ممتدّ فهو أسلوب، والأسلوب بالطريق، والوجه، والمذهب. يُقال: أنتم في أسلوب سوء، ويجمع أساليب، والأسلوب الطريق نأخذ فيه، والأسلوب الفن يُقال: أخذ فلان في أساليب من القول؛ أي أفانين منه.
واصطلاحًا: هو فنٌّ من الكلام يكون قصصًا أو حوارًا، تشبيهًا أو مجازًا أو كتابةً، تقريرًا أو حِكمًا وأمثالًا. فإذا صحَّ هذا الاستنباط كان للأسلوب معنىً أوسع إذْ يتجاوز هذا العنصر اللفظي فيشمل الفن الأدبي الذي يتخذه الأديب وسيلة للإقناع أو التأثير(1).
• الأسلوب والجنس الأدبي والشَّكل
يرى د.عدنان النحوي أنَّ الأسلوب هو الطريقة التي يختارها الأديب ليجمع بها دور العناصر الفنيّة الأخرى ويرتِّبها على نحو يسهم معه كل عنصر في بناء الجمال الفني، حتى يقوى وينمو. وهناك ثلاثة عوامل تكاد تحدِّد الأسلوب وترسم له نهجه، وهي: اللغة، والأديب، والبيئة والواقع. وهناك عوامل أخرى تسهم في توجيه الأسلوب ودفعه وحركته، فالموضوع الفني يبحث عن الأسلوب الأمثل له ويوجِّه الصِّياغة إليه، والرأي يساعد على توجيه الأسلوب ودفعه وإعطائه الحركة والنشاط، والجنس الأدبي يسهم كذلك في توجيه الأسلوب. فللشعر أساليبه وللنثر أساليبه، وكذلك للقصة أساليب وللمقالة أساليب.
ومن أهمّ ما يستطيع الأسلوب أن يسهم في بنائه هو الصورة في النص الأدبي والحركة فيها. فالأسلوب يستطيع أن يسهم في اختيار الألوان ومواقع الأجزاء لتكتمل الصورة وحين ينجح الأسلوب في دفع الحركة في النص الأدبي فإنه يزيد بذلك من درجة الجمال الفني.
والأديب المبدع يستطيع أن يختار الجنس الأدبي لموضوعه الذي يريد أن يطرقه، فقد يختار النثر وقد يختار الشعر، وقد يختار المقالة أو البحث، أو القصيدة أو الملحمة الطويلة. واختيار الجنس أو النوع الأدبي يمكن أن يدخل في الأسلوب أو في تجديد الأسلوب وتوجيهه وبناء صورته وحركته(2).
• نشأة الأسلوبيّة
ارتبطت نشـأة الأسلوبيّة بملاحظات "شارلز بالي" أحد تلاميذ "سوسير" و"رومان باكيبسون" الذي عني عناية خاصة بالكناية والاستعارة. وقد أضحت الأسلوبيّة بفضل الكثير من الملاحظات المتراكمة علمًا خاصًا بدراسة جماليّات الشعر والنثر. ومنذ أقدم العصور تحدث أرسطو في كتابه (الخطابة) عن الأسلوب وفرَّق بين الأسلوب الجميل والأسلوب القبيح وقسمه إلى أسلوب متصل وآخر دوري. وفي الآداب العربيّة القديمة استخدمت كلمة الأسلوب للدلالة على تناسق الشكل الأدبي، واتِّساقِه، في كلام البلاغيين، وكان الباقلاني في كتابه الموسوم بـ"إعجاز القرآن الكريم" أقدم مَن استخدم هذه اللفظة، فقد أوضح عبدالقاهر الجرجاني أنَّ لكل شاعر أو كاتب طريقة يُعرف بها وتُنسب إليه.
وقد تطرَّق إلى اختلاف الأسلوب باختلاف الموضوع، فالشاعر الذي يقول الشعر في المدح يختلف أسلوبه عنه في الغزل أو غيره. وكذلك تطرَّق إلى الصفات الشخصيّة للأسلوب وعزا هذه الصفات للطباع المركوزة في النفس. فالمتنبي المطبوع على الشجاعة أسلوبه في الحرب أفضل من أسلوب البحتري الذي ليست الشجاعة من صفاته، ولا هي طبع من طباعه(3).
• الأسلوبيّة والتَّجديد
إنَّ الانقلاب الذي حصل في وسط الدراسات الأدبية بخصوص الأسلوبيّة لم يصدر عن اللغة حسب، وإنما جاء من قلب الدراسات النقدية والبلاغية، وإنَّ الأسلوبيّة لم تبلغ بعد حدًّا يجعلها تشكِّل نظريّة نقديّة شاملة لكل أبعاد الظاهرة الأدبيّة، إذ إنَّ النقد الأسلوبي لم يستوفِ كل جوانب العمل الأدبي.
وإنَّ الأسلوبيّة والنقد الأدبي يتعاونان ويتكاملان، بل يمكن للأسلوبيّة أن تشكِّل رافدًا نقديًّا يفيد منه الدرس النقدي، أو تشكِّل نظريّة أساسيّة ضمن نظريات أخرى في دراسة النص. وقد تبيَّن أنَّ بعض محاولات التجديد كانت تعيش في بحر فهم القدماء للأسلوب، إضافة إلى ربطهم الأسلوب بالمبدع من حيث تعلُّق الأسلوب بمزاج المبدع وأحواله النفسيّة، وربطه –كذلك- بالصورة الفكريّة عند المبدع، ويُلْحَظ أثرهم بمقوله "بيفون": (الأسلوب هو الرجل نفسه).
وتؤكد الدراسات الغربيّة والعربيّة الصلة الوثيقة بين الدرس البلاغي والدرس الأسلوبي، وكما كانت الدعوة عند الغربيين إلى تجديد البلاغة لبنائها على أسس جديدة حتى تُستغلّ في الدرس الأسلوبي، فإنَّ الدراسات العربيّة أكدت ضرورة إعادة دراسة البلاغة العربيّة على أسس جديدة حتى تستغل في الأسلوبيّة. وتبيّن أنَّ الدرس البلاغي القديم خصب جدًا، إذ يساعد على وضع المبادئ الأساسيّة لعلم الأسلوب العربي كما نحتاج إليه اليوم(4).
• الأسلوب وتباين الأجساد اللغويّة (النصوص)
إنَّ استخدام مصطلحات مثل الشعر، النثر، الرواية، القصة القصيرة، الملحمة، البناء الرمزي، البناء الأسطوري، وإقرارها يعني بأنَّ هناك تباينًا في "الأجساد اللغويّة" النصوص، تبعًا لتلاحم الأسلوب والرُّؤية. فليس "الأسلوب للكاتب"، ولا اللون للمصوِّر، مسألة تقنيّة، وإنَّما هو مسألة لا تعني الشكل لأنَّ الأول أخص من الثاني على تعبير "مارسيل بروست". ومن المفيد القول إنَّ الأسلوب لا يعني الشكل لأنَّ الأول أخص من الثاني، فالأسلوب عنصر مهم من عناصر الشكل.
ولذا فإنَّ التباين في الأساليب والأشكال أساسه التباين في الرُّؤية. وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنَّ "جاك لينهارت" يقرُّ بأنَّ "كل فحص للمستويات الشكليّة دون معرفة لرؤية العالم سيكون محكومًا عليه بالاعتباطيّة أو السطحيّة".
ولا أحد يستطيع أن ينكر أهميّة اللغويّات في دراسة الأدب. فالنقد الأدبي أكثر ما يحتاج في هذه الآونة إلى إنجازات علم الأسلوب. وأحسب أنَّ هذه الإنجازات ستسهم في تحديث الأدوات النقديّة. لكن الخطورة هي أن يصبح علم الأسلوب بديلًا للنقد الأدبي، لأنَّ ذلك سيوقعنا في مزالق النظرة التي ترى بأنَّ الظاهرة الأدبيّة ظاهرة لغويّة محضة.
إنَّ النص الأدبي يتَّصف بالغنى والتعدديّة والوحدة أيضًا، هذه الوحدة لا تتحكّم بها قوانين لغويّة حسب، بل قوانين لغويّة وأدبيّة وثقافيّة واجتماعيّة(5).
• السمات الأسلوبيّة في ديوان "أصداء الناي"
للدكتور أحمد هيكل (تطبيق)
تقول د.إخلاص عمارة في كتابها الموسوم بـ"قراءة نقديّة في الشعر العربي المعاصر": إذا تخطّينا معجم الشاعر إلى دراسة أسلوبه وعباراته، فإنّنا نرصد بعض السمات الواضحة البيّنة، التي تميِّز لغته (أي لغة أحمد هيكل) عن غيره من الشعراء. فقد نشأ في ظلال (تيّار الإحياء) في أواخره -وقد بلغ الغاية عند شوقي وحافظ وأضرابهما- ونحن نجد أصداء لهذا التيار تتمثل في قوة اللغة وفصاحة التعبير عبر الكثير من القصائد، تأمَّل مثلًا تعبيره عن إشراق يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وما أحدثه من هالات الضوء التي غمرت الكون أجمعه:
أهو الصبح حائكًا عبقريًا
نسج الضوء للوجود رداء؟
أو تذوَّق أسلوبه المشرق في هذا البيت من القصيدة نفسها:
ما لتلك الجبال أضحت قلوبا
في ضلوع الصحراء تُحْيي الرجاء(6).
ويميل الشاعر "هيكل" غالبًا إلى الأسلوب الخبري ممّا يستتبع الخطابيّة والنثريّة، فإذا نوَّع ببعض الأساليب الإنشائيّة غلب عليه النداء وخاصة بالياء أو بحذف أداة النداء. فله اثنتا عشرة قصيدة في هذا الديوان تبدأ بالنداء، كما نلقى لديه أساليب إنشائيّة متنوعة كالاستفهام والتعجُّب والتمنّي، والدُّعاء.
ومن السمات الأخرى الواضحة في أسلوب الشاعر أحمد هيكل (سمة التكرار) أي استخدام الكلمة نفسها في قصيدة واحدة، أو في أبيات متتابعة أو متقاربة، وحقيقة أنَّ التكرار قد يستخدم أحيانًا لأغراض بلاغيّة كتوضيح فكرة ما، أو التأثير عليها، وربَّما لبيان الإصرار على أمر معيَّن أو موقف خاص، وقد يكون التكرار مقصودًا للتعبير عن حالة شعوريّة من الملل أو السأم نتيجة استمرار مبعث الضيق أو الألم وعدم تغيُّر الحالة والإحساس بالعبث واللاجدوى.
ومن أمثلة التكرار المستحبّة ما نلاحظه من ورود عبارة (أيّ سحر؟) في قصيدة "حنين" ستّ مرات نتيجة حب الشاعر لمصر، يقول:
أيّ سحر في ظلام الهرم ولياليه تساوي الأنجم؟
أيّ سحر في مياه النيل يسري أضياء دافقٌ أم ذوب تبر(7).
ومن السمات الأسلوبيّة عند الشاعر (الطّباق) وهو لون من المحسّنات البديعيّة مستحبّ حين يأتي متناثرًا متباعدًا، عفويًا بلا اقتناص أو تعمُّد. يقول في قصيدة "إلى جميلة الجزائريّة":
من جديب الأسى دفعت ربيعًا
فيه للعرب ألف ألف جميلة
من وراء القضبان أرسلت إعصارًا
وأنت الأنسام تسري عليلة(8).
ومن سمات الشاعر الأسلوبيّة تذكر المؤلّفة "الصورة الشعريّة" وهي وسيلة تعبيريّة أساسية ومهمة في صياغة الشعر، لأنها تشكل مع الموسيقى حدود الشعر الحقيقية التي نقف عندها لنقول: "ذلك هو الشعر". يقول الشاعرعن طه حسين:
يا أدبيًا أقام صرحًا من الفن
كتاج على جبين الزمان(9).
وتختم د.إخلاص دراستها عن الشاعر وشعره بالقول: لقد حاولتُ عبْر هذه الدراسة أن أتعرَّف على فن الشاعر وشخصيّته، وأن أكتشف أبعاد معانيه من خلال القراءة المتأملة الواعية لكل عناصر العمل الشعري، واجتهدتُ في ذلك قدر استطاعتي. ولكنني أعترف أنَّ كل ما فعلته هو محاولة للتفسير، ولا شك أنه بعد كل المحاولات يبقى في الشعر شيء يصعب تفسيره، هذا الشيء ربَّما الأكثر أهميّة في الشعر، لأن الشاعر حين ينشد قصيدة عبقريّة يُحدِث شيئًا جديدًا- لا شيء ممّا تحدَّثنا عنه يمكن أن يفسِّره. وهو الذي نعنيه عندما نتحدَّث عن الخلق والإلهام(10).
• الهوامش:
(1) أحمد الشامي: الأسلوب "دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية"، ط4، مطبعة السعادة، مصر، 1956، ص41.
(2) د.عدنان علي النحوي: النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء، دار النحوي، مصر، الرياض، 1995، ص149-150.
(3) د.إبراهيم خليل: النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، دار المسيرة، عمّان، 2003، ص149-150.
(4) د.إبراهيم عبدالجواد: الاتجاهات الأسلوبيّة في النقد العربي الحديث، طبع بدعم وزارة الثقافة، عمّان، الأردن، 1996، ص229-230.
(5) د.شكري عزيز ماضي: من إشكاليات النقد العربي الجديد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997، ص40-41.
(6) د.إخلاص عمارة: قراءة نقدية في الشعر العربي المعاصر، مكتبة الآداب، القاهرة، 1992، ص142.
(7) المرجع السابق، ص149-150.
(8) المرجع نفسه، ص153.
(9) المرجع نفسه، ص168.
(10) المرجع نفسه، ص180.