يوسف عبدالله محمود
كاتب أردني
كَثيرةٌ هي التحدِّيات التي تواجه "الثقافة العربيّة" في ضوء المتغيّرات العالميّة، وبخاصة التحوُّلات التي أحدثتها ثورة الاتِّصالات. في كتابه "سؤال الثقافة" يقرأ الكاتب والمفكِّر المغربي علي أومليل تداعيات التحدِّيات التي تستهدف الثقافة العربيّة مستصغرةً من شأنها؛ معتبرة أيّ حوار معها لا يخدم قِيَم "الحداثة" التي تواكب إيقاع العصر الذي نعيش.
في البداية يقدِّم المفكر علي أومليل مفهومًا غير تقليديّ للثقافة، يتجاوز ترقية العقل والذوق، فهو يعتبرها "رؤية ومبدأ للسياسات: كيف تكون سياستنا في التربية والتعليم منتجة لرأسمال بشري منتج ومنافس في عالم اليوم"(ص7). ويدعو إلى "عقليّة حداثيّة" تتجاوز الماضي الذي ولّى والذي لم يعُد قادرًا على الإجابة عن سؤال ما تقتضيه رؤية هذا العصر.
سؤال الثقافة اليوم لا يكتفي بالتنظير والوصف، بل يتناول منظومة قِيَم تحفِّز إلى المبادرة والابتكار والإقبال على العمل المنتج، كما تحتفي بالكرامة الإنسانية التي لا يجوز أن تُمتهن أو تُصادر.
يقع هذا الكتاب في 157 صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على ستة فصول هي على التوالي:
- الليبراليون الجُدُد والقيم الثقافيّة.
- أضواء على المسألة الثقافيّة.
- الثقافة العربيّة في عالم متحوّل.
- في الحريّة والعدالة.
- حوار الثقافات: العوائق والآفاق.
- الدولة النّامية والمجتمع المدني: صراع أم شراكة؟
وكما نلاحظ، ثمّة خيط واحد يربط هذه الفصول؛ وهو ضرورة احترام البُعد الإنساني لأيّ ثقافة بما فيها الثقافة العربيّة.
وإذا كانت الثقافة –وكما يرى المؤلف- قد غدتْ "قضيّة استراتيجيّة" تتطلّب رؤية إنسانيّة، فمن الواجب التعامل معها على نحو يحترم الوعي والتنوير والتحديث، ولن يتم ذلك إلا بترسيخ الديمقراطيّة التي لا تحديث دونها.
في هذا الفصل يحدِّثنا المؤلف عن المثقفين العرب الليبراليين الذين بزغ نجمهم على وجه الخصوص في أوائل ومنتصف القرن العشرين أمثال طه حسين وعلي عبدالرازق الذين أرادوا تأصيل التنوير والحداثة بعيدًا عن النمط التقليدي ودعاته من السلفيين.
غير أنَّ هذه النُّخبة من المثقفين والمبدعين العرب، وإنْ كانت الثقافة في نظرهم ذات محتوى إنساني، إلا أنَّها اختلفت عن المحتوى الثقافي الذي تبنّاه علماء واقتصاديون ومبتكرون واكبوا عصر التكنولوجيا والمعلومات في ما بعد.
وعلى الرّغم من أنَّ الليبراليّة في أوج نشأتها تبنّت "التحديث"، إلا أنها في ما بعد غَدَتْ "ليبرالية بتراء" –كما وصفها المؤلف- لأنها أسلمت نفسها للّيبراليّة الجديدة مقلِّدة أطروحات الليبراليين الجُدُد في العالم الغربي، تلك الأطروحات التي خلت من البُعد الإنساني مُغلّبة "الانتفاعيّة" على ما عداها.
في الفصل الثاني من الكتاب "أضواء على المسألة الثقافيّة" يرى المؤلف "أنَّ الثقافة اليوم تجاوزت كونها تنمية للفكر وإمتاعًا للوجدان فحسب، فهي أيضًا مبادئ للسياسات، سواء تعلّق الأمر بالسياسة الاقتصاديّة أو التعليميّة التربويّة أو أسس العمل السياسي أو القيم الحافزة لأيّ عمل أو نشاط في أيّ من هذه المجالات"(ص67).
أمّا الفصل الثالث "الثقافة العربيّة في عالم متحوِّل"، فيتحدَّث عن أثر ثورة الاتصال على الثقافة العربيّة. وهو أثر لم يكن إيجابيًّا دومًا في ظلِّ "عولمة" أفرزت الهويّات الثقافيّة المتعدِّدة التي "تسعى إلى إثبات ذات جماعيّة: دينيّة، طائفيّة، إثنيّة، تتصارع في ما بينها وتصارع العالم صراعًا غير متكافئ"(ص88).
انعكس كل هذا على المجتمعات النامية، ومنها مجتمعاتنا العربيّة والإسلامية، حيث "اقتتلت الهويات الثقافيّة المتنوّعة بعد أن فشلت التعدديّة الثقافيّة في التعايش والتوافق على قيم جامعة وعلى الولاء لدولة وطنيّة متعاقد على مؤسساتها"(ص89).
لم يحدث -مع الأسف- مثل هذا التَّعايش الذي من شأنه أن يُعزِّز الوحدة الوطنيّة للدولة العربيّة في عهد الاستقلال. ولم تحسن الدولة العربيّة التعامل مع الهويّات المتعدّدة، ممّا عمل على التفكيك والتشتيت والمطالبة -مطالبة هذه الهويّات- بالاستقلال داخل الوطن الواحد.
في الفصل الرابع يتناول أومليل موضوع "الحرية والعدالة". وهو في البداية يقدِّم قراءة عميقة حول مفهوم الحرية في التراث العربي والإسلامي، حيث "حصل الاهتمام به في مجالين: مجال فقهي، ومجال كلامي يدور حول الأفعال الإنسانيّة"(ص103)، ومن خلال هذه القراءة للتراث يَخلُص الكاتب إلى أنَّ الحديث عن "الحرية" كحق طبيعي للفرد وإثبات هذا الحق قانونًا بكل ضمانات الحريّة الشخصيّة "لم يكُن من المُفكَّر فيه عند الفقهاء والمتكلمين".
فالحريّة –إذن- بمفهومها الحداثي المستند إلى القانون اختلفتْ عن تصوُّر الأقدمين، التصقتْ فكرة "الحرية" بالأوطان، وأمست إبان الفترة الاستعماريّة للوطن العربي ومن ثم بعد نيل الاستقلال "حصنًا للدفاع عن الهويّة الوطنيّة"(ص105).
وفي هذا السياق يشير المؤلف إلى "الردَّة التي آلت إليها فكرة "الحرية" في الفكر الإسلامي اللاحق وبخاصة لدى "الأصوليين" من الكُتّاب المسلمين الذين عَدَّ بعضهم "الديمقراطيّة" كفرًا!".
وفي ما يتعلق بـِ"العدالة الاجتماعيّة" يطرح الكاتب مفهومين متضادين لها: مفهوم العدالة التوزيعيّة ومفهوم "التبادليّة". وللأسف فمفهوم "العدالة التوزيعيّة" لم تتبنَّه السلطة السياسيّة في بلداننا العربيّة على النّحو المطلوب، فظلَّ شعارًا يتمُّ رفعه من حين لآخر دون أن يُطبَّق على الأرض.
الليبراليون الجُدُد من الاقتصاديين العرب يغلّبون منطق الفعاليّة الاقتصاديّة على سياسات الاقتصاد الاجتماعي التي تتوخّى التضامن مع الفئات الأقل حظًّا في المجتمع"(ص111). ويزعم أصحاب هذا المنطق الليبرالي أنَّ العدالة الاجتماعيّة هي ضد الفعاليّة الاقتصاديّة. وعليه فهُم ضدّ العدالة الاجتماعيّة بمفهومها الإنساني!
وهنا نرى المؤلف يطالب بتحديث "الثقافة العربيّة"، فهذا التَّحديث هو الكفيل بتكوين الرأسمال الإنساني الذي لا يسعى إليه الليبراليون الجُدُد.
أمّا الفصل الخامس من الكتاب وموضوعه "حوار الثقافات: العوائق والآفاق"، فيتناول الجدل الدائر في السنوات الأخيرة حول مستقبل الثقافات: هل هو صراع وصدام أم تعايش وأخذ وعطاء؟
الصراع والصدام يفتعله "الأصوليّون" من غلاة المسلمين والغربيّين الذين ينظرون بمنظار الرّيبة إلى المفهوم الإنساني للتَّحديث.
ينتقد المؤلف العائق الذي يحول دون قيام حوار حضاري مع الغرب، رادًّا إيّاه إلى نوع المعرفة التي يتلقّاها طلابنا والتي "لا تساير عالمًا سريع التطوُّر في كميّة المعرفة التي ينتجها"(ص124).
كما أنَّ تعليمنا ومناهجنا التربوية –وكما يرى هذا الباحث- لا ترفع مستوى الوعي، كما أنّها لا توسِّع قاعدة الديمقراطيّة. ويرى أيضًا أنَّ "الأصوليّة" والفكر الأصولي المتشدِّد، إنْ في بلداننا العربيّة والإسلامية أو في البلدان الرأسماليّة الغربية، يَحولُ دون خدمة هذا "الوعي".
أصوليّتنا المسمّاة "الأصولية الإسلامية" تَعْتَبِرُ الانفتاح الثقافي على الغرب إساءة لقِيَمنا الروحيّة، في حين ترى "الأصولية الغربيّة" أنْ لا سبيل لتحديث البلدان النّامية ومنها البلدان العربيّة والإسلاميّة إلا "بالتَّغريب على الطريقة الليبراليّة"، وهذا يعني فقدان "الهويّة العربيّة"!
وهنا ينبغي القول إنَّ النظام العالمي الجديد، وبخاصّة بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة والاتحاد السوفييتي، قد أساء إلى مفهوم "الدولة العلمانيّة" كما تسود بلدانه؛ وذلك حين اعتبر "الإسلام" عدوًّا لدودًا لمنجزات العلمانيّة. ومن الحق أنْ يُقال هنا إنَّ "الحركة السلفيّة" في عالمنا العربي والإسلامي والتي تعادي في معظمها المفهوم العلماني للدولة، قد أسهمت في حجب قِيَم الاستنارة في التراث الإسلامي عن الغربيين، فأمسوا يلوذون بعنصريّة بغيضة تجاه الآخرين، فهم غير مؤهّلين لاستيعاب مفردات حضارتهم!
أخيرًا، يلقانا الفصل السادس من الكتاب "الدولة النامية والمجتمع المدني: صراع أم شراكة؟"، وفيه يدعو الدكتور أومليل إلى تفعيل الشراكة كأساس متطوِّر بين الحكومة ومجتمعها المدني، فهي التي توسِّع قاعدة الديمقراطية، كما أنَّ هذه الشراكة تحفِّز التنمية والاقتصاد.
المؤسف أنَّ هذه الشراكة لم تتمّ على النحو المأمول، فمركزيّة السلطة العربيّة همّشت "الديمقراطيّة"، بمعنى أنَّها لم تعُد أولويّة لها. وبرّرت هذا التهميش بما أسمته "أيديولوجيا التنمية"؛ وهو التبرير الذي لجأت إليه الكثير من الأنظمة العربيّة ولم يكن مستساغًا شعبيًّا لأنَّ التنمية دون قاعدة ديمقراطيّة لن تكون حقيقية.
يعزو المؤلف هذا التبرير إلى طبيعة "الثقافة السياسية" التي يتبنّاها هذا الحاكم أو ذاك، والتي تطْرد من رحابها "الديمقراطيّة" مكرِّسةً "الاستبداد".
من هنا يمكن القول إنَّ "دولة السيادة والرّعاية والرّفاه" التي بشَّرتْ بها الكثير من الأنظمة العربيّة لم تتحقّق، فالمركزيّة الشموليّة لطبيعة هذه الأنظمة حالت دون إحداث أيّ تنمية حقيقيّة في بلدانها، وبات دور الدولة الأساسي –كما يقول المؤلف- هو مجرَّد "حفظ الأمن في مجتمع تتنازل فيه الدولة عن تلبية الطلب الاجتماعي والخدمات الأساسية للمواطنين"(ص142).
وبعد، فقد نجح المؤلف في عرضه للثقافة متجاوزًا المفهوم التقليدي لها، معتبرًا إيّاها "رؤية ومبدأ للسياسات"، تخلق "عقليّة حداثيّة" مستشرفة آفاق المستقبل المنشود، عقليّة تركِّز على كرامة الإنسان جاعلةً حقوقه المشروعة نمطًا للحياة.