الوظيفة التوسطيّة للحبكة

ياسين معيزو

باحث في السرديات- المغرب

 

 

مهما تغيَّرت الزاوية التي تنظر منها الرواية إلى العالم، فلن يعدو هذا التغيُّر إلا وفاء للواقع ‏الإنساني، أو بتعبير "ريكور" الطبيعة الزمنيّة للتجربة الإنسانيّة، والتي تنفي عن الحبكة صفة ‏النقل الحرفي والتقليد المباشر. لكن، إلى أيّ حدّ يبلغ صمود مفهوم ووظيفة الحبكة، أمام ‏التغييرات وحالة اللاثبات واللاحقائق التي يشهدها العالم؟

 

قَد يبدو الأمر للوهلة الأولى أنَّنا أمام درس تعليمي حول وظيفة الحبكة في العمل على عقلنة ‏النص السردي، ولا يعدو أن يكون هذا الحكم سوى نتاجٍ لأحكام سابقة عن مفهوم الحبكة، في ‏بُعده المسؤول عن التنظيم السببي المنطقي للسرد والذي يفضي بالنص إلى تحقُّقه الشكلي؛ ‏معنى هذا أنَّ الحبكة هي الصورة الشكليّة للعمل السردي من خلال ما تضطلع به من ربط ‏الأحداث ربطًا منطقيًّا، بالإضافة إلى كونها ذات بداية ووسط ونهاية. لكن إلى أيّ حدّ يبلغ ‏صمود هذا النسق التوافقي من الأحداث، أمام التغييرات وحالة اللاثبات واللاحقائق التي ‏يشهدها العالم من ظروف سياسيّة واجتماعيّة، وثقافيّة وفكريّة...‏

لم يكن أمام الحبكة، منظورًا إليها عبْر هذه القواعد الجامدة، إلّا أن تُفهم على أنها شكل يستند ‏إلى علاقات سببيّة بين الأحداث والوقائع. والواضح أنَّ صلاحية هذا الفهم الضيِّق والمغلق ‏للحبكة يصير موضع شك وريبة أمام ما تطرحه الرواية الجديدة من تحدِّيات، فهي لا تقدِّم ‏الحياة بوصفها سلسلة متصلة من الأحداث، وإنَّما بوصفها لحظات منفصلة بعضها عن بعض، ‏لذا نجد الرواية لا تركِّز على وحدة المكان ووحدة الزمان، حيث يصيران بلا أهميّة بالنسبة ‏للأحداث والشخصيّة. طبقًا لهذه العوامل تتفكَّك الحبكة ويتشظّى فيها السَّببي المنطقي المفضي ‏إلى تشويه الشكل البرّاني للنص السردي، بل يمكن القول إنَّها تختفي نهائيًّا، ذلك أنَّ منطق ‏الأحداث السببي يتدمَّر كليًّا، نظرًا لطبيعة السرد اللامنتظمة، هذه الأحداث تتَّخذ شكل صور ‏ورموز مبهمة، يصعب تحديد معالمها للوهلة الأولى. من هنا تأتي شرعيّة سؤال مصير الحبكة ‏في الرواية الحديثة والمعاصرة، والحال أنَّنا نروم طرح سؤال آخر أشد يقظة، ويتعلق الأمر ‏بالطبيعة الخالدة للحبكة في ظلّ المدّ التراكمي النّوعي الذي يوفِّره تاريخ السَّرد، ممّا يدفعنا ‏للكشف عن ما إذا كان حضور الحبكة في النص السردي حضورًا ظاهرًا (تنظيم الأحداث) أم ‏مضمرًا (عمليّات ذهنيّة). ‏

فمن أين تستمدّ الحبكة -إذن- خلودها في النص السردي؟ ‏

تفترض الإشكاليّة مبدئيًّا العودة إلى التربة الأولى التي ترعرع فيها مفهوم الحبكة، أوَّلًا ‏لإضفاء أساس معرفي لكل ما سيذكر، وثانيًا لمغازلة الفهم النسقي الذي يجد جذوره مبثوثة في ‏مؤلَّف أرسطو "فن الشعر". ‏

لقد حاول أرسطو صياغة نظريّته حول الشعر باتِّكائه على مفهوم مركزي عُدَّ محورًا تدور ‏حوله أنواع الشعر، ونقصد هنا مفهوم "المحاكاة"، ولا ينبغي فهم المحاكاة هنا بالمعنى ‏الأفلاطوني، أي تقليد العالم الواقعي لعالم المثل بصورة يعتريها النقص، بل بوصفها خَلقًا ‏يحاكي طبيعة ذهنيّة؛ أي إنّ وظيفة الفنان هي ألّا يحاكي أحداًثا تاريخيّة معيّنة أو شخصيّات ‏بعينها، ولكن أن يحاكي أوجه الحياة في عالميّتها الشاملة من حيث الشكل والجوهر(1)، لذا ‏نجد أنَّ أنواع الشعر بالنسبة لأرسطو (الغنائي، الدرامي، الملحمي) وكذا باقي الفنون الأخرى ‏‏(النحت، الموسيقى...) تشترك في كونها أشكالًا للمحاكاة. ولم يعرج أرسطو على مفهوم ‏الحبكة إلّا من خلال تحديده لطبيعة التراجيديا ولأقسامها الستة، والتي وزَّعها أرسطو على ‏ثلاثة أجزاء هي: موضوع المحاكاة، مادة المحاكاة، طريقة المحاكاة، حيث جعل من الحبكة ‏موضوعًا إلى جانب الشخصيّة والفكر، من هنا يأتي تعريف أرسطو للحبكة بكونها محاكاة ‏الفعل(2)، ومن خلاله -أي الفعل- يستمد أرسطو مسوّغ الفصل بين التراجيديا والكوميديا على ‏أساس أخلاقي، جراء محاكاتهما للشقاء والسعادة، التي لا يمكن قياسهما في الحكي إلّا من ‏زاوية الفعل الذي تسعى الحبكة إلى محاكاته، معنى هذا؛ أنَّ القول: "إنَّ التراجيديا تصوِّر ‏التعاسة والشقاء الإنساني، والكوميديا تصوِّر حالة السعادة"، نابع من كون الشخصيّة في ‏التراجيديا تقوم بأفعال تثير الشفقة والخوف، وبأفعال ساخرة هزليّة في الكوميديا متمثَّلة من ‏الحياة الواقعية، أي إنَّ الحبكة مسؤولة عن عنصر مهم في الدراما ألا وهو الفعل، ولا يعدو ‏الفعل هنا سوى ما يقوم به شخص ما. إذن فالحبكة تهتم بتمثُّل الفعل وتوليه أهميّة، وهذا الفعل ‏‏–بدوره- يجد صورته المرجعيّة في العالم الخارجي، معنى هذا أنَّ تأليفها (الحبكة) يقوم على ‏فهم قبلي لعالم الفعل الإنساني في دلالياته، ونسقه الرمزي، وطبيعته الزمانيّة، وعلى أساس ‏هذا الفهم القبلي، ينشأ الحبك ومعه المحاكاة الأدبيّة والنصيّة(3).‏

يمكن القول إذن -عبر هذا الفهم- إنَّ الحبكة تستمدّ وظيفتها التمثيليّة/ المحاكاتيّة من خلال نقل ‏صور الفعل من التجربة الواقعيّة إلى التجربة التخييليّة، ولا يعني النقل هنا نقلًا مباشرًا للواقع، ‏فهذا الأخير يتكلّف بصياغته السرد التاريخي، وإنّما المقصود هو الاستفادة من المعايير الثقافيّة ‏التي تؤطِّر الفعل الإنساني في صياغة العمل السردي، بالاعتماد على فهم مسبق للأفعال ‏البشريّة التي تمثل فعاليّة للمحاكاة، وهو ما يسميه (ريكور) "الفهم السردي" للوجود الإنساني ‏الذي لا يمكن تخيُّله دون شبكة التوسُّطات الرمزيّة المتمثِّلة في التراث، التقاليد، القيم الثقافيّة ‏العابرة للأجيال والمرويّات، ولا وجود لقارئ أو مبدع خارج هذه الشبكة؛ فهي تصوُّرات ‏تسبق كل تصوُّر فني أو إبداعي، ودونها يفتقد التصوُّر الإبداعي معناه(4).‏

حتى هذه اللحظة نكون قد كشفنا عن وجه حيوي أساسي لوظيفة الحبكة، على عكس الفهم ‏الذي يحصر وظيفتها بالتنظيم والترتيب الخطي الزمني للأحداث، والذي تنبَّه إليه "ريكور" ‏حين قال إنه ينبغي أن نفهم "الترتيب" لا كنظام... بل فعاليّة وعمليّة تقليد شيء أو تمثيله(5). ‏ونقصد بهذا الوجه "الوظيفة التوسطيّة" بوصفها توليفًا يقف بين فهمنا للعالم وتمثُّلنا عنه. لكن ‏هل ستكفّ الحبكة عن وظيفتها هاته أم ستظل خالدة ما خلد العمل السردي؟ خاصة حين يتعلق ‏الأمر بالرواية بوصفها امتدادًا موضوعيًّا لفن الملحمة.‏

لم تكن الملحمة في عصرها إلّا تعبيرًا عن روح العالم القديم ومعتقداته، وتصويرًا ملائمًا لنمط ‏عيشه الذي كان يعتقد بوجود عقلٍ متعالٍ يتحكَّم بمسار المصير الإنساني، وبحركة الكون؛ ‏ومن ثمّ تتّخذ الملحمة صورة المجتمع القديم وتمثُّلاته الدلاليّة وأنساقه الرمزيّة، التي كانت ‏تحكم منطق التأليف الملحمي، سواء بالنسبة لـِ"هوميروس" أو غيره، أي تملك فهم قبْلي ‏للتجربة الإنسانيّة باعتبارها مشتل الأفعال والحدود الثقافيّة الموجِّهة لها، والتي تفترض أنَّ ‏الملحمة تتشكّل من خلال محاكاتها (تمثُّلها). ‏

لقد روى "هوميروس" في الإلياذة قصة طروادة من خلال التركيز على فعل الدفاع عن ‏الوطن، وحفظ ماء وجه العشيرة من الغزاة الطرواديين، حيث اتخذ هذا الدفاع شكلًا بطوليًّا ‏جسَّدته شخصيّة "آخيل"، وقد كان هذا التصوير تمثيلًا لثيمة الكلية ‏totality‏ (علاقة الفرد ‏بالمجتمع محكومة بأساس أخلاقي) التي كانت تميِّز المجتمع اليوناني القديم. ولا شك أنَّ هذه ‏الثيمة لم تستمرّ إلّا في حدود الشروط التي تخدم استمرارها، وما فتئت الشروط تضمحلّ تلقائيًّا ‏في المرحلة الإقطاعيّة التي شهدت سيطرة فئات معيَّنة على كل ما كان مشتَرَكًا بينهم وبين ‏باقي المجتمع، ممّا أضفى على الأمر طابع الملكيّة. ومن ثمّ يصير كل حديث عن الكليّة حديثًا ‏زائفًا لاوثوقيًّا، تشكَّلت عبْره أشكال مشوّهة من التعبير الملحمي، إذ لم تعُد للبطولة أدنى مكانة ‏في خضمّ تلاشي الفعل الأخلاقي الذي كان ينظر إلى القوانين الموضوعيّة دون مناقشة، لتحلّ ‏محلّها الإرادة الأخلاقيّة التي أصبحت تغوص في مساءلة الموضوعات والاستغراق في ‏مناقشتها، عن طريق تصويرها تصويرًا ساخرًا لنفض القداسة عنها، لتتَّخذ الملحمة بعد ذلك ‏أشكالًا أخرى أكثر تطوُّرًا. ولقد جسَّد عمل "ثرفانتيس" الشهير "دون كيخوتي" شكل هذه ‏المحاكاة الساخرة للواقع وتمثُّلات المجتمع عنه، تجسَّدت في شخصيّة فارس يخرج في مغامرة ‏بطوليّة ممتطيًا حصانًا هزيلًا ويحمل درعًا قديمًا، وحتى بعد عودته من مغامراته الوهميّة التي ‏كان يصارع فيها طواحين الهواء، لم يجد في القرية ذلك الاستقبال الذي كانوا يستقبلون به ‏الأبطال في السابق؛ وفي الأمر دلالات على تلاشي البطولة التي تغنّى بها المجتمع القديم، بعد ‏أن أجهضتها الملكيّة وفعل الحيازة.‏

ليست هاته المحاكاة الساخرة التي أبدعها كل من "ثرفانتيس" و"بوكاتشيو" و"بولاردو" وكُتّاب ‏آخرون... سوى تعبيرٍ منهم عن إدراك جوهري لما صارت الحياة عليه في ظلِّ تغيُّر نمط ‏تقليدي كانت الأفعال العظيمة فيه مصدرًا لأشكال الفنون، إذ لم تعُد الفِعال التي تقترفها ‏شخصيّات معروفة مَن يتعيَّن سردها، بل مغامرات أناس عاديين من رجال ونساء(6)، وما ‏هذا الانتقال في موضوع المحاكاة، إلا وعي مسبق من الكاتب بالأفعال البشريّة والقوانين ‏المتحكِّمة بها أو ما يمكن الاصطلاح عليه بـِ"الذخيرة"، أي امتلاك تصوُّر مسبق عن الواقع ‏الإنساني. ‏

على هذا النحو صار الفن الملحمي يعرف تطوُّرًا وخلقًا جديدًا، لا من ناحية الشكل، أو من ‏ناحية الموضوع، وفقًا لما شهده العالم من تغيُّرات في العلاقات التي كانت تحكمه من قبل، ‏والتي لم تستطع حتى الآلهة التدخُّل للحيلولة من وقوع ذلك، وليس بغريب بعد ذلك إن اعتبر ‏هيجل الرواية "ملحمة عالم غادره الله"(7)، وترك الإنسان وحيدًا في صراعه المرير من أجل ‏استرداد مجتمع الفضيلة/ الكلية بوصفه حاجة متأصلة في العقل الإنساني، ولم تزد الإشكالات ‏الاقتصادية التي طرحتها البرجوازية إبان تشكُّلها سوى تعميقٍ وتشظٍّ لحالة الواجب الأخلاقي ‏التي أصبحت المؤسسات والقوانين تتكفّل بتحقيقه –ظاهريًّا- في مقابل العصر البطولي الذي ‏كان فيه البطل يتكلَّف بذلك بمساعدة الآلهة لخدمة الصالح العام. على هذا الأساس يسعى البطل ‏في الرواية نحو البحث عن الحقيقة التي أدخلت الإنسان في حالة اغتراب كلّي، نتجت عنه ‏تنويعات لتجربة فعليّة شاء لها أن تظلّ مبعثرة في ظل نسيج اجتماعي أكثر تنوُّعًا، تَمَثَّلَتْهُ ‏الرواية من خلال التداخلات العديدة لموضوعاتها المهيمنة وهي الحب مع المال والسمعة ‏والشفرات الاجتماعيّة والأخلاقيّة، باختصار مع ممارسة متشعِّبة لا حدود لها(8).‏

لم تسلم الملحمة في انتقالها من نموذج إلى آخر، من تغيُّرات وتعديلات شابت الشخصيّة التي ‏صارت إشكاليّة في الرواية بحسب "لوكاتش"، وكذا الموضوعات المتطرّق لها، ومهما تغيَّرت ‏الزاوية التي تنظر منها الرواية إلى العالم، فلن يعدو هذا التغيُّر إلا وفاء للواقع الإنساني، أو ‏بتعبير "ريكور" الطبيعة الزمنيّة للتجربة الإنسانيّة، والتي تنفي عن الحبكة صفة النقل الحرفي ‏والتقليد المباشر. وتستمد الحبكة مشروعيّة خلودها باعتبارها محاكاة فعل، من خلال قدرة ‏المؤلف/ الروائي على الانتفاع على نحو دال من "الشبكة المفهوميّة" التي تميز بنيويًّا عالم ‏الفعل(9)، أي الاستفادة من الترميزات المُؤثِّرة في الفعل الإنساني وأطره الثقافيّة، إذ تساهم ‏هذه الترميزات، في تعبيد مسار الفعل السردي، ورسم التقاطعات الممكنة في مواجهة أفعال ‏أخرى يقدِّمها السرد، وأعني بالترميزات هنا، ما يضفي على الفعل معناه من (أهداف، دوافع، ‏ذوات فاعلة، العمل، عواقب الأفعال، أطراف التفاعل من تعاون وصراع...) ولن يستطيع ‏العمل السردي تمثُّل ذلك دون ما أسماه (ريكور) "تملُّك فهم سردي للوجود الإنساني"، والذي ‏لا يمكن تخيُّله دون تصوُّر قبلي للقيم الثقافيّة، أي تصوُّر يسبق كل تصوُّر فني أو فكري ‏إبداعي، وليست الحبكة، إلا وسيطًا بين هذا التصوُّر القبلي والتصوُّر الفني الإبداعي، بوصفها ‏‏(الحبكة) محاكاة فعل.‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ فن الشعر، أرسطو، تر: إبراهيم حماده، مكتبة الأنجلو المصرية، ص62-61.‏

‏(2)‏ فن الشعر، أرسطو، المرجع نفسه، ص96.‏

‏(3)‏ الهوية والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، بول ريكور، تر: سعيد الغانمي وفلاح رحيم، ج1، دار الكتاب الجديد ‏المتحدة، بيروت، 2006، ص113.‏

‏(4)‏ الهوية والسرد: التصوير في السرد القصصي، بول ريكور، تر: فلاح رحيم، ج2، دار الكتاب الجديد المتحدة، ‏بيروت، 2006، ص8و9.‏

‏(5)‏ الهوية والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، بول ريكور، مرجع سابق، ص66.‏

‏(6)‏ الهوية والسرد: التصوير في السرد القصصي، بول ريكور، مرجع سابق، ص30.‏

‏(7)‏ ‏"نظرية الرواية لجورج لوكاتش"، مقال لـ"بول دومان"، تر: عبدالنبي اصطيف، مجلة الآداب الأجنبية، اتحاد ‏كتاب العرب، دمشق، 1999، ص27.‏

‏(8)‏ الهوية والسرد: التصوير في السرد القصصي، مرجع سابق، ص31.‏

‏(9)‏ الهوية والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، مرجع سابق، ص 100.‏