الرُّؤية الشعريّة والتجلّيات المشهديّة ‏ في ديوان "مدار الفراشات"

الشاعرة عطاف جانم

قراءة فنيّة في المضامين والأشكال والأبنية ‏

 

نضال القاسم

شاعر وناقد أردني

 

 

إنَّ تجربة عطاف جانم الشعريّة هي تجربة رائدة في إطار ‏القصيدة الحداثيّة، فهي تقدِّم في نتاجها الشعري خلاصة الفهم ‏الأدبي- الحياتي، وما يميِّز شعرها حقيقةً، هي هذه القدرة على ‏استعادة الأمكنة ومفردات الطبيعة في شعرها، ويتمظهر الوطن في ‏شعرها على أشكال عدّة، ويتجلى طيفه في رؤاها وخيالاتها وفي ‏تفاصيل حياتها اليومية، وأمّا في قصائدها المشهديّة فإنَّ جانم ‏تصل إلى جوهر خصوصيّتها التي‎ ‎تميِّزها وهي قدرتها على مزج ‏الكتابة المُباشرة بالحالة الإنسانيّة التي تفجِّرها.‏

 

ديوان "مدار الفراشات" هو الديوان الرابع للشاعرة عطاف جانم ‏والصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عام 2017، وكان ‏قد صدر للشاعرة "لزمانٍ سيجيء" عام 1983 و"بيادرُ للحلمِ يا ‏سنابل" عام 1993 و"ندمُ الشجرة" عام 2003، ويضمُّ الديوان ‏بين دفتيه عشرين قصيدة متوسطة الحجم راوحت بين قصيدة ‏التفعيلة وقصيدة النثر تنمُّ بمجملها عن حسٍّ شعريٍّ مرهف مسكون ‏بحزن عميق، وبها تدفع الشاعرة بمغامرتها الشعرية نحو مشارف ‏جديدة تضاعف من تميُّز صوتها وتضيف إلى تجربتها شعرًا ‏يستلهم الواقع الإنساني المعاصر بخصوصياته العديدة، ويتجلى فيه ‏المكان في تشكيلات حلمية وغرائبية يُضيؤها برق هنا وإشارة ‏هناك في عالم متشابك من الظلال والأنوار وفي أمكنة مسمّاة ‏تستعيدها المخيّلة لتكون لها كما يمكن أن تكون لغيرها، والديوان ‏بالإجمال لوحة تشكيلية رائعة من الأشكال والألوان والمضامين، ‏وهو زاخرٌ بالعديد من الصور الموحية. ‏

تشهد قصائد الديوان أنَّ عطاف جانم تمتاز بنزعتها التحررية، ‏ومذهبها التقدميّ، وارتباطها بالجذور، وتواشجها مع أمتها، ‏وانتمائها لوطنها، فهي تكتب أدبًا صافيًا، يصوّر آلام الناس ‏وآمالهم، وينادي بالحريّة والكرامة والثورة على النّظم البالية، وهذا ‏الجوهر باعتقادي هو الباعث‎ ‎الحقيقي الذي يشكّل شخصية عطاف ‏جانم وشعرها. ‏

هذا هو منطلق مسيرة عطاف جانم الشعرية اللاهبة التي جمعت ‏بين روحٍ شعريةٍ شفافة وخيال وثّاب يستقي مادته من التاريخ ‏والأرض، لأنَّ معنى الحياة كامنٌ في هذا السبيل ومن دون ذلك لا ‏أمل يُرجى ولا خلاص. ‏

لقد تميَّزت قصائد الشاعرة بالوضوح والسلاسة، والابتعاد عن ‏التعقيدات اللغوية، فهي قصائد نابعة من دائرة الوجدان، وهي، ‏بمعنى آخر، تقدّم لنا زمنًا شعريًا على أكثر من مستوى، فهذا ‏الزمن قد تمثّل حركة الواقع والنفس في صيرورتها وعكس ‏حركتهما الماديّة والشعريّة وفقًا للحاجات الآنيّة والمستقبليّة، تقول ‏الشاعرة في قصيدة (الُمغَنّي):‏

‏"تعالَ.. كما كُنْت

وكُن لي يَمينًا إذا ما التويت

ورُدَّ سهام أخي ورفيقي

تعالَ

وهبْ لي عيونيَ

كُنْ لي طَريقي

لسجادةٍ قرب شوق البراق

لزيتونةٍ عند باب العمود

هناكَ...أحُطّ حَنيني

أطيلُ السُّجود...."(الديوان، ص51).‏

وقد استطاعت عطاف جانم في هذا الديوان أن تولِّد طاقة جديدة، ‏تشحن بها لغتها وصورها ومضامينها الشعرية، بما هو مختلف ‏وجديد على صعيد تجاربها السابقة، من حيث تجلّي السرد ‏الشعري، حيث توزّعت القصائد بشكل أنيق ولافت، لتنساب ‏بشكلها العفوي، ممتدةً على فضاء المجموعة بأكملها.‏

وفي هذا الديوان تلحّ الشاعرة على الوظيفة الجمالية التي يحملها ‏شعرها ويتكرّس لها، وهو الذي تستعيد فيه الشاعرة تجربة المكان ‏من خلال التذكُّر واستعادة أُلْفَةِ الماضي عبر الذاكرة، ومن هنا فإنَّ ‏واقع المأساة هو الذي أبرز في شعر عطاف جانم صور النفي ‏والتشرُّد والغربة والضياع والانشداد إلى الأهل والربوع. كقولها ‏في قصيدة (تُرابُها يا نور):‏

‏"لكنني يا نور

كعادة الجذور في بلادنا

عارٌ عليَّ

لو أبيتُ ليلةً قصيّةً

عن مائِها الطَهور

تُرابها يا نور

يفرُّ من أصابعِ التقشيرِ والتعليبْ

من..‏

ثقافةِ الجلّادْ

يفرُّ من... تناحرِ الأحبابْ

يفرُّ من صهيِلِنا الخجولِ، من

سكوننا الهجينْ...."(الديوان، ص78).‏

إنَّ تجربة عطاف جانم الشعرية هي تجربة رائدة في إطار ‏القصيدة الحداثيّة، فهي تقدِّم في نتاجها الشعري خلاصة الفهم ‏الأدبي- الحياتي، وما يميِّز شعرها حقيقة، هي هذه القدرة على ‏استعادة الأمكنة ومفردات الطبيعة في شعرها، ويتمظهر الوطن في ‏شعرها على أشكال عدّة، ويتجلى طيفه في رؤاها، وخيالاتها وفي ‏تفاصيل حياتها اليومية، تقول عطاف جانم في المقطع الأخير من ‏قصيدة (في القدسِ... وعدٌ بالحياة):‏

‏"يا مصرُ، يا أمَّ البلادْ

أو تأتِ سبعُ السُّنبلاتِ الخُضْرِ بعدَ اليابسات؟

ليعود (صوتُ العُرْبِ) زلزالًا فيغبطَهُ السَّحابْ!‏

كنعانُ... حضنُ المركبِ المخضرِّ يا عدنانُ،

سيفُ الله، متراسُ النجاةْ

والقدسُ مغتسلٌ... شرابٌ باردٌ

فاضرب بِرِجلِكَ أيُها المُضَريُّ،

وامتشق الحياة!"(ص94/95).‏

وفي قصيدة (كنعانُ يبلغُ سنَّ الضَّوْء) ثمة إبداع شعري، من أول ‏كلمة حتى آخر كلمة، حيث إنَّ القارئ يتلمّس الصدق الفني، ووقدة ‏التجربة، فالشاعرة تُناجي أرض الطفولة والذكريات، والبراءة ‏الأولى، وهي ترسم معالم الوطن وتحفظ تفاصيله، وجغرافيته في ‏علاقة صوفية ملتهبة داخل القصيدة، بحيث يصبح من الصعب ‏على المتلقي التفريق بين الحالة الإنسانية المتمثّلة في تجربة الحب ‏وبين حالة التوحُّد بالأرض التي تصوغها الشاعرة في‎ ‎إطار تجربة ‏الاستعادة، وذلك على النحو الآتي:‏

‏"وأماط العتمةَ الصمّاء عَنِّي

كان فجري وَخُطايْ

ولكنعانَ ذراعانِ بحجمِ الحُلْمِ

تلتفان حَوْلي

ولكنعانَ محاريثُ

تجوبُ الجسدَ التَّواقَ للرعدِ

وماء الوعدِ

ها هو كلَّما سارَ لحارَةْ

جاء سفحُ الطَّودِ

والمَرجُ

يحييهِ... ويغريهِ

لكي يُلقِي بِذارَه

نسغُه... ريقي و(دَمِّي)‏

نسلُه... سرُّ المحارة

يا فنيقيّاتِ عكا

فلتزركشن المِهفَّاتِ

زغاريدَ القناديل

وتُطلقن عصافير البهاء ‏

قد تكللت بغاري... ومحاري

درّةً بين النساء"(ص101/103).‏

وتقدم الشاعرة في قصائدها، من خلال إشارات عابرة، أو وقفات ‏متأنية، تمثيلات شتى من فصول المأساة الفلسطينية، التي تنتهي -‏كما تراها- بالغربة والنفي، وقد حمل الفلسطيني معه إلى مدن ‏غريبة بعيدة حزنه على الوطن، وحزن الوطن المقتول على أبنائه. ‏قصيدة "كنعانُ يبلغ سنَّ الضَّوْء" مسكونة بعشق الوطن الممتزج ‏بالألم والإحساس القاسي بالضياع. تقدم القصيدة لقطات معبِّرة ‏للوداع المُرّ، حيث يرحل الفلسطينيون عن وطن توقف عنده ‏الزمن، يحملون معهم "المِهَفَّاتِ المزركشة"، وعقود البامياء، ‏كقولها:‏

‏"والنساء الطاعنات

في التجلّي والخَبايا..‏

كنَّ وَشْوَشْنَ وليدي

في مساءاتِ الطواحينِ

وتتويج عقودِ البامياء

كيف كان العابرون

كلّمَا مروا بحارَة

سَرقوا من فَمِهَا المَعنى

ظلالَ الحرفِ

قُفطانَ الحضارةْ!!‏

كيف لمّا راودني

كلُّ أحيائِي وأفيائِي قاءتهم

وما دانت لهم حتى صَرارة!!"(ص104/105).‏

وعلى الرّغم من البعد الذاتي، الذي يبرز في كثير من قصائدها، ‏إلا أنَّ البعد الجمعي حاضرٌ دائمًا، ويتمثل في الإسقاط السياسي ‏الرمزي، الذي ينطوي على نقد شديد للواقع العربي، وإحساس مرّ ‏بسقوط الذرائع، ودائمًا تبدو الشاعرة غير قادرة عن الانفكاك من ‏تأثير الجوّ السياسي العام، فترى الحرب والدم والشهادة ساكنة في ‏زوايا قصائدها، وهي من خلال رصدها الأمل تقيم قصيدتها على ‏صياغة الوجدان الجمعي المتجاوز للتمزق خصوصًا صياغة ‏الهُوية الإنسانية للشعر الفلسطيني. تقول عطاف جانم في قصيدة ‏‏(ولا الغردق المشتهى في الضفاف) المهداة للشهيد إياد عواودة، ‏أحد أبطال الانتفاضة الثالثة في عام 2015:-‏

‏"أنا ماردٌ من سكاكينَ،

حينَ أديرُ العقاربَ،

يسّاقطُ الشوكُ عن سطوةِ البندقيةِ

تغدو عصًا من مياهْ

فلا (الجيبُ) يحميكَ منّي

وصندوقُ موسى صغيرٌ...قصيّ!‏

ففرّ أمامي

لتركضَ ما تشتهي

غريمُكَ: فيلقُ رعبٍ

وحفاظةٌ...أم جرابٌ ثقيلْ!‏

وتلتقطُ الأرضُ خطوي... فترفَعُني..‏

عريسٌ أنا... فوق أيدي الصباح يطيرْ

وتُخرِجُ أمّي سكاكينَها... وزغاريدها

بينما الأفقُ جرحٌ كبير!"(ص40-42).‏

أمرٌ آخر‎ ‎يميّز شعر عطاف جانم هو تلك القصائد المشهديّة التي ‏تختلط فيها إيقاعات الحياة والتي استطاعت من خلالها الشاعرة ‏بلغة مواربة، أن تحوِّل الواقع المعاش إلى لوحة رائعة، وإلى أفق ‏في قمّة الدهشة والحلم، كقولها في قصيدة (للكهفٍ بابٌ واحدٌ):‏

‏"لا الشمسُ تعرفُ بابَهُ

حتى ولا ضوْءُ القمرْ!‏

فالكهفُ هل يحصي السنينَ

وهل يبالي إن تنسّرَ شوكُهُ

أو كان ذوبًا في الزَّهرْ!؟

ثلجٌ... ضجيجٌ صامتٌ في الكهفٍ

قنصٌ حاذقٌ للعابرين"(ص69).‏

وميزة أخرى لهذا الشعر هي اختلاط لغة الشاعرة الغنائيّة والتي ‏شاعت في قصائدها الوطنية، بلغة مواربة آتية من معايشتها ‏للواقع، وبهذا تصل الشاعرة في قصائدها المشهديّة إلى جوهر ‏خصوصيّتها التي‎ ‎تميِّزها وهي قدرتها على مزج الكتابة المباشرة ‏بالحالة الإنسانية التي تفجِّرها. لهذا كانت دائمة الإلحاح في شعرها ‏على‎ ‎الجغرافية وعلى تشبُّث الإنسان بالمكان، وهذا الأمر أضفى ‏على شعرها جماليّة تنبع من هذه الخصوصيّة التي تذيب‎ ‎العالم ‏والكون في خصوصيتها، وترفع الشعر إلى مستوى فني رفيع. ‏تقول في قصيدة (فَلْتوقظي شهداءك مؤتة):‏

‏"طبقٌ من حكايا على رأسِها

أمْ

براعمُ من فضةٍ

ووضوءْ!‏

إذ تمرُّ بِعُكازةِ الصمتِ فينا

فتمشي إليها المُنى

والدروبْ

والسلالُ التي عَلِقتْ رُسْغَها

هل تفيضُ كما يشتهي صفوةُ العاشقين

بورد الكلامْ"(ص33).‏

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ شعر عطاف جانم يتَّسم باستخدام ‏البرقيات الشعرية، التي تحمل صورًا من النقد لجوانب ثقافية ‏واجتماعية من حياتنا ونفاقها الاجتماعي. كتبت في قصيدة ‏‏(غُرْبَة):‏

‏"بدأتْ مثلَ دُعابةْ

وانتهت بي كَخرابةْ!"(ص57).‏

أمّا في قصيدة (ذات صَحْو) فتقول:‏

‏"أنا لست لي‏

لا شيء لي"(ص159). ‏

يتَّسم شعر عطاف جانم بوضوح القصد والرؤيا والخيال ودقّة ‏التعبير، وهو شعرٌ متحررٌ من الأسلوب التقريري، ومن الزخرفة ‏اللغوية، وممّا يلفت الانتباه هنا أنَّ شعر جانم في هذا الديوان حافل ‏بالرموز والألغاز، كثيف الأسئلة والإشارات ذات الأبعاد ‏الوجوديّة، وإلى جانب هذه الهموم الوجوديّة شبه القارّة تستبدّ ‏بالذّات الشّاعرة شواغل ظاهراتيّة شديدة الوطء منها إشكاليّة إدراك ‏الإنسان للأشياء. كقولها في قصيدة (هاجس):‏

‏"صوتٌ كونيٌ:‏

تاهَ وضلَّ

وضلَّ وتاهْ

أبِذَاكَ المركبِ أحبابي

أَمْ

أعدائي

أم هم أشباهْ؟؟!!"(ص119).‏

كما أنَّ قصائد الديوان قد جاءت محتويةً على وَفْرَةٍ من القيم ‏الموسيقية التي تلُفّ شِعرَها، حتى كانت أكثر قصائدها ذات ألفاظ ‏موسيقية منتقاة، وتميَّزت جميع قصائد الديوان بأسلوبها السَّهل ‏المُمْتَنِع مع وضوح المعاني وسلاسة التَّعابير بمرافقة موسيقيَّة ‏غنيَّة في كافة القصائد. وليس أدلّ على ذلك من قولها في قصيدة ‏‏(أيُّ غيمٍ في غَمَامَة):‏

‏"بعضُ هذا الغيمِ طفلٌ عابثٌ

يقفزُ ما بينَ الشبابيكِ... يغني

ينقرُ الدفَّ..‏

فيجري خلفَهُ بعضُ الصِّغارْ

بعضُ هذا الغيمِ بنتٌ للمكانْ

تغسلُ الأطباقَ..‏

تغلي قهوةَ السمّارِ..‏

أو

تحملُ (فنجانًا) لِنَجمِ يتمشّى في الجِوارْ"(ص25).‏

ونلاحظ أيضًا رغبة عطاف جانم في استكناه الدلالات المختلفة ‏للمفردات وسبرها، خاصة تلك التي ترتبط بالتفسيرات والتأويلات ‏والتوظيفات اللغوية والمعرفية في عالم الإبداع، وهذا أحد ‏التحوُّلات التي طرأت على تجربتها الشعرية. فهي تلجأ مثلًا إلى ‏تركيب استعارات شعرية متوالية في قصيدة كما في قصيدة "أيُّ ‏غيمٍ في غَمَامَة"، من خلال استغلال المعاني، التي قد ترتبط بالغيم ‏في الذاكرة الجمعية العربية، كقولها:‏

‏"كانت الغيمةُ إنسيًّا وجنيًّا

نهارًا في الدجى

ليلًا بهيًّا في النّهارْ

كانت الغيماتُ أسرارًا وأنهارًا

حقولًا تجمعُ العشّاقَ في عرسٍ جماعيٍّ

يداري عوْزَهم عِقدُ الخُزامى

أو

زهورُ البيلسانْ

كانت الكسرةُ لحنًا في غمامةْ

والقوافي... مِهرجانْ!‏

ما الذي سدَّ شبابيكَ غمامةْ؟!‏

ما الذي شجّ شبابيكَ غمامةْ؟!"(ص26).‏

هناك خاصيّة أخرى تميَّز بها المنجز الشعريّ لشاعرتنا عطاف ‏جانم، يستطيع قارئه المتريّث الوقوف عندها، ألا وهي استـلهامها ‏وتوظيفها الخلّاق للتراث العربيّ، بكل تلاوينه وكائناته المختلفة ‏التي زخرت بها متونها الشعريّة، وبها بلغت من الغنى والتنوُّع ‏درجةً متميّزة. لقد كان هذا التراث بحقّ رافدًا ثرًّا أصيلًا أمدّ هذه ‏المتون بأساليب جديدة ومتنوّعة نتيجة التفاعل الحيّ بين النصوص ‏وحواراتها. رافد تحكّمت الشاعرة فيه بالطبع عبر رؤية معاصرة ‏لها فرادتها وتميزها ومقصديّتها الواضحة الهدف والفكرة. لذلك ‏حاورت الشاعرة هذا التراث من حيث تنوّع وتعدّد مصادره، ‏بحيث يصعب علينا في هذه العجالة تقصِّي ما استمدّت الشاعرة ‏من هذه المصادر. كقولها في قصيدة (فَلْتوقِظي شهداءك مؤتة):‏

‏"يا لَميشعَ ينزع أسماله الأبديةَ... يحرث غابات أرواحِنا...‏

يقلعُ العشبَ المتآكلَ... ينثرُ قربَ الحياةِ حبوبَ ‏اللقاحْ..."(ص34).‏

وعلى العموم فإنّ العودة إلى التراث تعني استثماره في فهم اللحظة ‏الحديثة باختيار مواقف وشخصيّات ونصوص منه، تصلح لأن ‏تكون نقطة انطلاق نحو الحاضر وزاوية جديدة لرؤية الواقع ‏واستكناه دلالاته. إنه أسلوب فنيّ حققت به قصائدنا العربيّة ‏المعاصرة انطلاقة كبيرة.‏

بقي أنْ أقول إنَّ الشاعرة عطاف جانم كانت دائمًا مهمومةً بقضايا ‏وواقع بلدها، يعنيها أن تعيشها وأن تقول كلمتها فيها لا بالتعميم ‏ولا بالتجريد، بل بالغوص فيها بكل ما في قلبها من توق إلى الفعل ‏وحرص شديد على اتّخاذ موقف واع متمرِّد، موقف يدين ما في ‏ذلك الواقع من مآس وقهر ومنغّصات وظروف سلبيّة غير عادلة. ‏ولم يتعارض الوعي الفنّي الصارم عند شاعرتنا منذ البدايات مع ‏القضايا التي سعت إلى التعبير عنها، وقد حرصت عبر منجزها ‏الشعريّ على أن توازن بين رؤاها ومواقفها الذاتيّة والوطنيّة ‏والقوميّة. أن توازن بين رؤاها وبين البرهنة على أنّها صاحبة ‏قضيّة إبداعيّة فنّيّة جماليّة. وقد استطاعت باقتدار ووعي كبيرين ‏منذ أواسط الثمانينات من القرن العشرين وإلى الآن، أن تتميّز ‏بصوتها الخاص، وأن تتناغم مع حركة الواقع وجدليّته ومتغيّراته، ‏وهو ما مكّنها من لعب أدوار مميّزة كان لها القول الفصل في ‏تأصيل قصيدتها وإحكام بنائها ولغتها وتوسيع آفاقها وفضاءاتها ‏والوصول بمنجزاتها إلى تخوم بعيدة. ‏