اللغة العربيّة بأقلام المستشرقين: ‏ أرجوزة عربيّة في مديح ملكٍ إنجليزي

د. رشأ الخطيب

أكاديمية وباحثة أردنية

 

تمَّ الكشف عن عدد محدود من الأوراق الشخصيّة الباقية لبعض المستشرقين، تضمَّنت صورة ‏اللغة العربيّة بأقلامهم وخطوط أيديهم. ويكشف هذا المقال عن واحدة من تلك الأوراق التي ‏تحتوي مسوّدتين لمقطوعة شعريّة نظمها المستشرق الإنجليزي "إدوارد بوكوك" باللغة العربيّة؛ ‏وهي أرجوزة في مديح الملك تشارلز الثاني (ت1685) بمناسبة عودته من منفاه لاعتلاء عرش ‏المملكة البريطانيّة. وقد شفع "بوكوك" مقطوعته العربيّة بترجمةٍ لاتينيّة على الصفحة المقابلة، ‏كعادة بعض المستشرقين آنذاك عند نشر متون المخطوطات العربيّة.‏

 

يهتم الباحثون في إرث المستشرقين بأعمالهم المنشورة في تحقيق متون الكتب العربية وترجمتها، ‏وقلّ ما التفتوا إلى جهود المستشرقين أنفسهم التي بذلوها في تعلُّم اللغة العربية وإتقانها؛ ‏فالمصادر لا تسعف في بيان مدى إتقانهم للغة العربية عندما كان تعلُّمها للناطقين بغيرها يتطلب ‏جهودًا مضاعفة في القرون الماضية، وكانت نصوصها في أوروبا عزيزة نادرة‎ ‎أمام المهتمين ‏بدراستها.‏

ولا تخلو الصفحات التي سُطِّرت في سِيَر أولئك المستشرقين من ثناءٍ وإطراء على إتقانهم ‏العربية، ولكنْ لم يكن من الممكن لنا إدراك ما يقصدون تمامًا؛ لأننا لم نسمع المستشرقين يتكلمون ‏العربية، ولا قرأنا لهم شيئًا مكتوبًا بها؟ ثم أصبح ذلك ممكنًا مع الكشف عن عدد محدود من ‏الأوراق الشخصية الباقية لبعض المستشرقين، تضمَّنت صورة اللغة العربية بأقلامهم وخطوط ‏أيديهم، وذلك في تعليقاتهم التي دوّنوها على هوامش الكتب التي كانت بحوزتهم، أو تقميشاتهم ‏التي جمعوها لبعض مؤلفاتهم، أو مسوّدات رسائلهم، أو مجرد تمريناتهم على الكتابة باللغة ‏العربية التي أنفقوا أعمارهم في دراستها ودراسة أهلها وتاريخهم ودينهم وكتابهم المقدس الذي ‏نزل بها.‏

 

ورقة في مكتبة جامعة أكسفورد

ومن تلك الأوراق الورقة السادسة والثلاثون في المجموع المحفوظ في مكتبة بودليانا بجامعة ‏أكسفورد تحت الرقم ‏Pococke 432‎، الذي يضم أوراقًا خاصة بالمستشرق الإنجليزي ‏‏"إدوارد بوكوك" (1604-1691)(1)، وهو أوَّل أستاذ شغل كرسي العربية في جامعة أكسفورد ‏منذ إنشائه في العام 1636. ‏

تحتوي الورقة على مسوّدتين لمقطوعة شعرية تقع في سبعة أبيات، تمثلان على الأغلب ‏المحاولات الأولى لنظمها، والمقطوعة غير منسوبة وغير موجودة في المظانّ العربية! وتبدو في ‏المسودتين آثارُ المَحوِ والتبديل، وإحلال لفظة محلَّ أخرى، لا بل لم تخلُ الطُرّةُ العليا للورقة من ‏اجتهاد كاتبها في التأكد من وزن بعض المقاطع وفق التفعيلات التي تضبط الشعر العربي!‏‎ ‎

 

 

أرجوزةٌ عربية في مديح ملكٍ إنجليزي!‏

ليست تلكما المسوّدتان -في الواقع- إلا أرجوزةً في مديح الملك تشارلز الثاني (ت1685)، ‏بمناسبة عودته من منفاه لاعتلاء عرش المملكة البريطانية في سنة 1660، بعد نحو عقدٍ من ‏الزمان لما عُرِف في تاريخ بريطانيا بفترة حكم الكومُنْوولث ‏Commonwealth of ‎England‏: التي بدأت بإعدام والده الملك تشارلز الأول عام 1649، وتخلَّلَتْها حربٌ أهلية ‏وفوضى سياسية، انتهت باستعادة المَلَكية من جديد(2). وكان تشارلز الثاني الذي لُقِب بـ(الملك ‏السعيد) -تيمُّنًا ببلاطه الذي عمَّه المرح والحيوية- قد حظي بشعبيةٍ بين الناس لِما وجدوا فيه من ‏مرونةٍ وتسامح وافَقَ آمالَهم في عودة حياتهم إلى طبيعتها في عهده. ‏

ويعود الفضل في قَطعي بنسبة هذه المقطوعة الشعرية إلى صاحبنا "إدوارد بوكوك"، والقطع ‏بمناسبة كتابتها يعود إلى د.سميرة حسان، التي أشارت إلى المقطوعة المطبوعة عام 1660 في ‏أكسفورد(3)، دون الإشارة إلى مسوّدتها المخطوطة التي هي محلّ اهتمامنا في هذه المقالة.‏

 

 

الاحتفال بعودة الملك تشارلز الثاني إلى العرش

فقد رحَّبت جامعة أكسفورد على طريقتها الخاصة بعودة الملك من منفاه، التي وافقت عيد ميلاده ‏الثلاثين أيضًا، من خلال مجموعة من المقطوعات النثرية والشعرية التي دبَّجها أساتذة الجامعة ‏في تلك المناسبة؛ كي تقف دليلًا على مكانة جامعة أكسفورد العلمية ورِفعتها الأكاديمية المستمرة ‏ومستوى العلماء فيها، على الرغم مما تعرضت له المدينة الموالية للعرش وجامعتها من ضيق ‏وحصار خلال الحرب الأهلية وغياب الحكم الملكي.‏

وهكذا نشرت جامعة أكسفورد في عام 1660 ‏Britannia Rediviva‏(4) وهو كتاب من ‏القطع الصغير، ضمّ مجموعةَ قطع نثرية وقصائد شعرية للترحيب بالملك واستعادة الحكم الملكي، ‏منظومةً باللغة اللاتينية، التي كانت لغة العلم الرسمية في أوروبا فيما مضى، وباللغات الأخرى ‏التي تهتم الجامعة بتدريسها: الإنجليزية واليونانية والعربية والعبرية. ‏

وكان "بوكوك" أستاذَ العربية والعبرية في أكسفورد لأعوامٍ طوال، امتدت منذ عودته من رحلته ‏إلى الشرق في العام 1636 حتى وفاته، وكان هو صاحب المقطوعتين المنشورتين بهما، وقد ‏شفع مقطوعته العربية بترجمةٍ لاتينية على الصفحة المقابلة، كعادة بعض المستشرقين آنذاك عند ‏نشر متون المخطوطات العربية إبان البدايات الأولى للطباعة العربية في العالم. ويظهر أنَّ ‏المسودة الثانية على الرغم من التعديلات فيها، كما ظهرت في الورقة المسطورة بخط يد ‏‏"بوكوك"، هي الأقرب للمقطوعة المطبوعة بصورتها النهائية كما ظهرت في الكتاب. ‏

 

 

ماذا قال بوكوك في مديح تشارلز الثاني؟

لم يخرج "بوكوك" في مديحه لـِ"تشارلز" الثاني عن عباءة الشعراء العرب الذين أُعجب بلغتهم ‏العربية وأنفق عمره في دراستها وتدريسها؛ فالممدوح في كلمات "بوكوك" عالي الشأن رفيع ‏المقام، ومهما أوتي من البلاغة والخيال فلن تفي الصور بمديح الملك إلا إذا ارتقت في مبالغتها ‏وعَلَت في ثنائها، فجاءت كلماته أقرب إلى التشبيهات التقليدية: فالملك هو الشمس وهو الضياء، ‏وفي غيابه وغياب المَلَكية أظلمت البلاد البريطانية، ووقع العبادُ فريسة عتمة عهد الكومنوولث ‏والحروب الأهلية، ولم ترتفع تلك العتمة إلا بعودة "تشارلز" الثاني ملكًا على عرش المملكة ‏البريطانية من جديد، ليجد جماهير شعبه في الانتظار ليس له منهم أيُّ عار، وقد حلَّ مجدُ مليكهم ‏لا على بلادهم بريطانيا وحدها، بل على بقاع الأرض جميعًا، فلم تكن غَيبَتُه ولا منفاه إلا كمثل ‏ستارٍ يُرفَع؛ فيتألّق الملِك الذي يبدد نورُ مجدِهِ عتمةَ الظلام، فذاك مجدٌ لا ينتهي ما دامت الشمسُ ‏تضيء الأفقَ بنورها!‏

وإليكم ما كتب "بوكوك" بخط يده، في مديح "تشارلز" الثاني إذ يقول: ‏

‏(طال الظلامُ وعمت أبصـارُ                بطلعة الشمس بهَت أنــوارُ

بالشمس قدوة لك يا شمســنـا                قد زاد بالكسفِ لك الفخـارُ

عيونُنا تُصاب لا عينُ الضيا                لقِيْتَ ما لنا لكـم لا عــــــارُ

قد صار مجدُكُم هواءً دائمًــا                في الأرض كلِّهـا له آثــــارُ

من كان هذا حالُهُ مســـــتترًا               كيف يصيرُ إذ صَفت أستار؟

كــــذا جرى الأمر بدايةً: إذا               كــان ظــــلامٌ، بعده نهــــار

لا زال مجدُك الشريفُ ينتمي             مــا دام في الأفْق يضوءُ نارُ).‏

 

تلك كانت كلمات "بوكوك" العربية في مديح الملك الإنجليزي، وعلى الرغم من أنها قد لا تفعل ‏فينا ما قد تفعله كلماتُ شاعرٍ عربيّ أصيل، إلا أننا يجب أن لا ننسى أنها محاولةٌ قد تنتمي ‏لـِ(شعر العلماء) الذي لا يمسّ قلوبنا إلا مسًّا يسيرًا، وأنّ "بوكوك" في محاولته تلك كي يسطر -‏في مقام الترحيب بعودة الملك- شيئًا متميزًا عن زملائه في أكسفورد، قد كان ذكيًّا في انتقائه ‏الكتابة -في ذلك الوقت- باللغة العربية التي كان أوَّل من شغل كرسيها في جامعة أكسفورد، وكان ‏أبرز روّاد الدراسات العربية في إنجلترا في القرن السابع عشر بلا منازع. ‏

كما كان قد قدَّم منذ أول شبابه إسهامات متنوعة في سبيل دعم الدراسات العربية في إنجلترا في ‏القرن السابع عشر، ابتدأها أوَّلًا برحلته إلى الشرق حيث أقام في حلب قسيسًا لشركة الشرق بين ‏‏1630-1635 واتصل بالعديد من أهلها خاصتهم وعامّتهم؛ كي يحقق هدفه بتعلُّم اللغة العربية، ‏حتى أتقنها إلى الحدّ الذي جعل أستاذه هناك يقول عنه: "إنه يتكلم العربية أفضل من مفتي ‏حلب!"(5) كما ذكر "ليونارد تويلز" الذي فصَّل في سيرة حياة "بوكوك" ونشرها في العام ‏‏1740.‏

وقد أردف "بوكوك" رحلته الأولى إلى الشرق برحلةٍ ثانية إلى القسطنطينية بين 1637-1640 ‏تابع فيها ما ابتدأه سابقًا في حلب لدعم الدراسات العربية في إنجلترا: بتعلُّم اللغات الشرقية وجمع ‏المخطوطات، التي كانت نواة مجموعة المخطوطات الشرقية في مكتبة بودليانا الشهيرة في ‏جامعة أكسفورد.‏

‏***‏

وختامًا، مهما كان الانطباع الذي يقع في نفسِ قارئِ المقطوعة الشعرية التي نظمها "بوكوك" ‏باللغة العربية في مديح الملك "تشارلز" الثاني، فإنها تبقى شاهدةً على جهوده الشخصية التي بذلها ‏في سبيل تعلُّم العربية ومحاولة إتقانها وما وصل إليه في ذلك، في وقتٍ لم يكن تعليم اللغة ‏العربية للأجانب لغةً ثانية ميدانًا يخطر ببال معلم أو متعلم في القرون الماضية. ‏

 

 

 

الهوامش:‏

‏1-  للمزيد عن حياة المستشرق إدوارد بوكوك وأعماله، ينظر:‏

عبدالرحمن بدوي: موسوعة المستشرقين، ط3، بيروت: دار العلم للملايين، 1993، الصفحات 139-141. ‏

يوهان فوك: الدراسات العربية في أوروبا حتى مطلع القرن العشرين، ترجمة: سعيد بحيري ومحسن ‏الدمرداش، القاهرة: زهراء الشرق، 2006، الصفحات 178-184.‏

نجيب العقيقي: المستشرقون، ط5، القاهرة: دار المعارف، 2006، ج 2، الصفحات 41-42.‏

جيرالد جيمس تومر: حكمة الشرق وعلومه، ترجمة: أحمد الشيمي، الكويت: (سلسلة عالم المعرفة) ‏المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2017، ج 1، الصفحات 143-175.‏

Leonard Twells: The Theological Works of the Learned Dr. Pocock., London: R. Gosling, 1740, ‎pp. 1-84‎‏.‏

 

‎2- https://www.britannica.com/biography/Charles-II-king-of-Great-Britain-and-Ireland

‎3- Samera Hassan:”An Arabic Poem for an English King: Edward Pococke’s Verses to Charles ‎II”, 20 July 2020, ‎

https://memorients.com/articles/an-arabic-poem-for-an-english-king-edward-pocockes-verses-to-‎charles-ii

‎4- Britannia Rediviva, Oxoniae (Oxford): A. & L. Lichfield, 1660.‎

‎5- Leonard Twells, The Theological Works of the Learned Dr. Pocock, London: R. Gosling, ‎‎1740,‎‏ ‏p. 6.‎